ظل سليمان الحلبي جزءا أصيلا يحمل مواصفات البطل الخارق في مخيلة الطفولة والصبا من دارسي تاريخ الحملة الفرنسية وآثارها على مصر، حتى فجعنا في السنوات الأخيرة بمن يعيد تقديمه باعتباره ذلك القاتل المأجور الذي تسلل من بلاد الشام ليغرس خنجره في قلب الجنرال كليبر القائد العام للحملة الفرنسية وخليفة العسكري الفذ نابليون بونابرت.
كان بونابرت قد قرر في الثاني والعشرين من أغسطس 1799، العودة سريعا إلى فرنسا، تاركا قيادة الحملة الفرنسية في مصر لخليفته الجنرال كليبر، وذلك بعد الأنباء الواردة إليه من أوروبا، والتي تحدثت عن هزائم الجيش الفرنسي أمام الإنجليز والعثمانيين.
كليبر نابليون بونابرت
دفعت أنباء تلك الهزائم المتلاحقة التي مني بها الجيش الفرنسي، نابليون بونابرت إلى التخلي عن أحلامه في بناء امبراطوريته في الشرق، لكن نائبه (جان باتيست كليبر) القائد الإلزاسي على قيادة الحملة لم يكن أقل طموحا منه، بل كان يرى في نفسه ما يفوق قدرات نابليون وخبراته العسكرية، وهو ما حاول إثباته من خلال جرائمه المتواصلة في (غزة)، و(يافا)، و(القاهرة). كما أن انتصاراته العسكرية على جيوش الانجليز والعثمانيين دفعته للطموح ببقاء طويل، وإمبراطورية ساحقة في الشرق، لكن أوضاع قواته، وقطع الانجليز لطريق الإمدادات إليه، دفعه لعقد هدنة مع العثمانيين مقابل الانسحاب بقواته من مصر، وهو ما اعترضه الانجليز الذين قرروا حرمان الجيش الفرنسي من انضمام قواته في المشرق، وقطعوا الطريق عليهم في البحر المتوسط.
كانت نتيجة عدم وفاء الفرنسيين بانسحابهم من مصر وقوع معركة شرسة بينهم وبين العثمانيين سميت بمعركة (عين شمس)، وهي المعركة التي انتصر فيها كليبر على العثمانيين، لكن في الداخل انتفضت ثائرة سكان القاهرة الذين أقاموا المتاريس وسدوا الطرق في وجوه قوات كليبر، كان رد فعل كليبر على ثورة القاهرة في غاية البشاعة والقسوة، فسلط عليها مدافعه حتى صارت بناياتها وطرقها اكواما من التراب، وهو ما تناوله الجبرتي واصفا أحياء القاهرة بقوله:
«صارت كلها تلالا وخرائب، كأنها لم تكن مغنى صبابات، ولا مواطن أنس ونزهات، جنت عليها أيدي الزمان، وطوارق الحدثان، تبدلت محاسنها، وأقفرت مساكنها. تسكب عند مشاهدتها العبرات»
في تلك الأجواء قدم إلى القاهرة شاب في الرابعة والعشرين من عمره، أغراه بعض ضباط الانكشارية العثمانيين المنهزمين أمام الفرنسيين في معركة (عين شمس) بقتل كليبر قائد الجيش الفرنسي الذي قهرهم وألحق بهم الهزيمة.. تقول الرواية التي يقدمها الجبرتي مؤرخ القاهرة في ذلك الزمان، إن سليمان كان ابنا لتاجر حلبي يدعى الحاج (محمد أمين) انهكه ما فرضه عليه المحافظ العثماني على حلب (إبراهيم باشا) من ضرائب، وحين ذهب الابن لمخاطبة محافظ القدس (أحمد أغا) في التخفيف على الوالد أقنعه المحافظ في المقابل بقتل قائد الجيش الفرنسي في مصر، ومنحه في مقابل ذلك أربعين قرشا تركيا.
ووفقا لتلك الرواية فإن سليمان الحلبي توجه بعد هذا اللقاء، من القدس إلى غزة ليلتقي بضابط عثماني يدعى (ياسين آغا)، وقد شرح له الأخير كيفية تنفيذ المهمة، وقدم له العون المادي واللوجيستي، لينتقل بعدها سليمان من غزة إلى الخليل، حيث بقي عشرين يوما هناك ينتظر سفر إحدى القوافل إلى القاهرة ليسافر في زمرتها ،وهو ما كان.
بعد وصوله إلى القاهرة بقي الشاب الحلبي بعض الوقت مقيما لدى أحد معلميه السابقين في الأزهر الشريف الذي درّس فيه من قبل لمدة ثلاث سنوات، ثم التقى ببعض أبناء الشام المقيمين برواق الشوام، وكان عددهم أربعة وبقي معهم بعد أن أخبرهم بما يدور في رأسه، ورغم دعوتهم له بعدم الإقدام على هذا الفعل إلا أنه قام بتنفيذ المهمة واغتال (كليبر) فحٌكم عليه وثلاثة من رفاقه بالإعدام بينما فًر الرابع.
وهكذا صدر الحكم على سليمان الحلبي في مثل هذا اليوم 17 يونيو عام 1800، بحرق يده اليمنى التي استخدمها في طعن كليبر، ثم وضعه على الخازوق وهي طريقة تعذيب تناسب القرون الوسطى الأوروربية، وترك جسده ليلتهمه الطير.
وفقا لتلك الرواية لم يكن الحلبي سوى قاتل مأجور جاء من بلاده لينفذ عملية اغتيال مقابل تخفيف العبء المالي عن كاهل والده، والحصول على بعض القروش التركية، وهي رواية تناسب ما وصف به الجبرتي سليمان الحلبي بـ(الأفاق الأهوج)، وهو وصف يتنافى مع حقيقة ملابسات الحادث، كما يؤكد الكاتب والمؤرخ المدقق الراحل صلاح عيسى في كتابه (حكايات من دفتر الوطن).
فالفارق الأساسي – من وجهة نظر صلاح عيسى- بين كليبر الذي وجد من يخلد بطولاته، على الرغم من همجيته وجرائمه المتعددة في القاهرة وغزة ويافا، وبين سليمان الحلبي، هو أن القائد الفرنسي ترك خلفه مذكرات ووثائق ومساعدين ومصورين وشعراء، يقومون بتأبينه ورثائه ويشيدون ببطولاته قبل دفنه بحديقة قصر العيني بالقاهرة. أما سليمان الحلبي، كما يرى – عيسى- فلم يكتب تاريخه، ولم يترك مذكرات ولا صورا زيتية، ولم يبق من الحلبي سوى معلومات قليلة لم تخضع للتجميل والتزويق، أدلى بها أمام هيئة من الجنرالات الفرنسيين الذين تغمرهم مشاعر الحقد والكراهية لشخصه، وبعد أن ضُرب لحد طلب العفو، ولم يجد سوى ذلك الوصف التافه الذي وصفه به الجبرتي مؤرخ القاهرة، بينما تغافل من تبنوا رواية الجبرتي عن آخر ما نطق به سليمان الحلبي عندما ارتفع عنه الضرب وفكت سواعده المقيدة، وسئل… لماذا قدمت من غزة إلى القاهرة؟..فكان جوابه.. كان مرادي أن أغازي (أجاهد) في سبيل الله.
الواقع أن الرواية التي تتناول شخصية سليمان الحلبي باعتباره ذلك القاتل الأجير، تتغافل عن العديد من العوامل المهمة في تلك القصة، أولها أن الحلبي كان مجاورا برواق الشوام بالأزهر ومقيما بالقاهرة لمدة ثلاث سنوات، فهو طالب علم مثقف ورع وليس مجرد إمعه يسهل توجيهه.
أما الأمر الثاني فهو أن التحقيقات التي قادها الفرنسيون ما كانت لتنتهي بأي حال من الأحوال إلى ما يخلد صورته وبطولته عند المصريين لاسيما في أعقاب ثورة عارمة، بترويج الأسباب الوطنية لإقدامه على طعن قائد الجيش الفرنسي. وثالت تلك العوامل هي أن قدوم الحلبي إلى القاهرة وبقائه بها يخطط لتنفيذ مهمته يشير إلى درجة عالية من الإصرار والتركيز يصعب معها تصور أنه تقاضى ذلك الأجر الزهيد في المقابل.
كان الحلبي في السنوات السابقة لقدومه إلى القاهرة لتنفيذ مهمته يتنقل في أرجاء فلسطين، فقد قضى الشهور الخمسة الأولى من عام 1800 متنقلا في أرجاء فلسطين، وصلها في الشتاء ليجاور في المسجد الأقصى ولابد أنه نبا إلى مسامعه ما أقدم عليه كليبر من جرائم في «يافا» وحامية «دمشق» ومعسكر «العريش»، وهو ما ملأ قلبه بالكراهية والحقد على قائد حملة الفرنسيين الهمج الذين يرفعون شعارات الحضارة والتنوير، وبعدما اتخذ قراراه بقتله فقد تسلل مع أحد الوفود التجارية من غزة إلى القاهرة، ولأن الحصار كان شديدا على القاهرة في أعقاب أحداث الانتفاضة الشعبية، فقد نزل بمنطقة العياط، ثم استأجر حمارا ليسافر به إلى القاهرة. وبعد وصوله مكث بضعه أيام في ضيافة استاذه وشيخه بالأزهر (مصطفى البوصيلي) لكنه لم يطلعه على سبب قدومه، ثم انتقل إلى الإقامة برواق الشوام بالازهر مع أربعة من الطلاب الغزاويين الذين أخفوا إقامته على الرغم من أوامر الفرنسيين بالإبلاغ عن النزلاء والمقيمين الجدد بأروقة الأزهر التي كانت تمثل المخزون الثوري للمصريين، وقد أطلعهم على سبب قدومه فأخفوا سره، وربما قدموا له الدعم حتى أتم تنفيذ مهمته.
وطوال بقاءه في القاهرة ظل يترصد خطوات كليبر، وخط سيره اليومي حتى أطلعه أحد النوتية الذين ينقلونه يوميا عبر النيل من الجيزة إلى القاهرة ان الجنرال يذهب عصر كل يوم إلى حديقة الأزبكية ليتفقد أعمال الترميم في مبنى القيادة العامة علم أن هذا أفضل موضع لتنفيذ مهمته.
إن محاولة تشوية ما أقدم عليه سليمان الحلبي بقتله الجنرال كليبر، والذي شكل بداية النهاية للحملة الفرنسية على مصر، هو في رأي الكثيرين، افتراء وتآمر ومحاولة للي عنق التاريخ، الذي لم يبخل على صاحب حق بالإنصاف مهما طال الزمن، ومن المؤكد أن هذا الرجل الذي دفع الثمن بأقسى ألوان التنكيل، معبرا عن إخلاصه في عبارة بسيطة بقوله (أردت أن أغازي في سبيل الله) ما كان يشغله ما سيؤبن به بعد وفاته.
فيلم تسجيلي عن إعدام سليمان الحلبي