في عام 2006 طالب رئيس الوزراء الأسباني السابق «خوسيه ماريا أزنار» المسلمين بالإعتذار عما أسماه «احتلالهم» لإسبانيا لثمانية قرون. وجاء ذلك ردا على مطالبة المسلمين لبابا الفاتيكان آنذاك بالاعتذار عن محاضرته المسيئة للعقيدة الإٍسلامية. أثارت تصريحات أزنار حينها أكثر من تساؤل، ولكن أهم التساؤلات كانت: هل «احتل» العرب بلاده حقا لمدة ثمانية قرون، بحيث يصبح من الواجب عليهم الاعتذار؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، فما هي «الجرائم» التي ارتكبها العرب والمسلمون خلال فترة «احتلالهم» لأسبانيا وتستوجب الاعتذار عنها؟
خوسيه ماريا أزنار
استقبال الفاتحين
بداية: يجب الوقوف عند ما يعتبره أزنار احتلالا لأسبانيا، ويمكن الرجوع في هذا الصدد إلى كتاب «ثورة الإسلام في الغرب» للمؤرخ و عالم الأحافير الإسباني إغناثيو أولاغيو والذي كتبه في ستينات القرن الماضي ونشرت النسخة الفرنسية منه تحت عنوان لافت هو «العرب لم يحتلوا إسبانيا إطلاقا».
غلاف الكتاب
فقد دخل العرب إلى الأندلس – كما أسموها – في عام 711م، حين كانت لا تزال خاضعة لحكم السلالة القوطية، ويفرق أولاغيو في كتابه بين القوط كحكام لشبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال) وبين سكان شبه الجزيرة أو الإيبريين، فالقوط سلالة جرمانية الأصل هبطت على إيبيريا من وسط وجنوب القارة الأوروبية.
أما الإيبيريون فكانوا يتحدثون لغة مختلفة عن القوط وكان لهم مذهبهم الديني المختلف عنهم أيضا وهو المذهب الأريوسي، إضافة إلى اليهود الشرقيين (السفارديم) الذين كانت لهم لغتهم الخاصة وتدعى «لادينو».
وعاني الإيبيريون من القهر الديني والاجتماعي على يد القوط، وهو ما يعتبره المؤرخ سببا رئيسيا لتمكن المسلمين من التوغل في شبه القارة بشكل سريع، حيث أن استياء السكان من حكامهم القوط كان خير عون لجيش المسلمين.
وكان أحد أبرز من ساعد المسلمين في فتح الأندلس الحاكم الاسباني «يليان» حاكم طنجة، الذي عبر المسلمون البحر على متن سفنه.
وحين انتصر جيش المسلمين بقيادة طارق بن زياد على قوات القوط بقيادة ملكهم لذريق، فإن الفاتحين الجدد لم يواجهوا بمقاومة تُذكر من قِبَل الشعب، ويعزو كثير من المؤرخين ذلك للعداء المتأصل بين السلالة القوطية الحاكمة متمثلة في الملك لذريق كما تُسميه المصادر العربية أو «رودريك» وبين عامة الشعب، الذي كان يعاني من وطأة نظام إقطاعي جائر وحياة مثقلة بالضرائب الباهظة، مما جعله يرى في دخول المسلمين للبلاد فرجا وخروجا من مستنقع الفقر والاستبداد الذي مارسه الحكام القوط بحقهم.
لذريق
العصر الذهبى
وتتبدى روح التسامح التي أبداها حكام شبه الجزيرة الجدد وعلى رأسهم أول وال للبلاد عبد العزيز بن موسى بن نصير في المعاهدة التي عقدها مع وثيوميدر، أمير القوط في مرسية، عام 713م ،حيث تعهد عبد العزيز بألا تضار الكنائس ولا يكره أحد على دينه ولا تمس المقدسات.
وعلى مدى القرون التالية للفتح الإسلامي بشكل عام وبعد تأسيس بني أمية لمملكتهم الثانية في الأندلس بشكل خاص، أسس المسلمون واحدا من أعظم نماذج التسامح الديني خلال حكمهم للأندلس. فعلى سبيل المثال لا الحصر شهدت مدينة أشبيلية، ونظرا للتسامح الذي عامل به الفاتحون العرب أهل البلاد، توطد العلاقات بين الطرفين، وكثر زواج العرب من الأندلسيات، حتى أصبحوا في نهاية القرن الثالث الهجري يشكلون غالبية سكان أشبيلية.
الحياة في الأندلس
كما ظلت قرطبة التي اتخذها المسلمون عاصمة لحكمهم رمزا للتعايش بين أصحاب الديانات السماوية الثلاث الإسلام والمسيحية واليهودية.
وعاش يهود الأندلس ما أسموه بـ«العصر الذهبي» في ظل الحكم العربي الإسلامي، وبرز منهم الفلاسفة مثل ابن ميمون، ووصل بعضهم إلى مرتبة الوزارة كوزير الخليفة الناصر.
موسى بن ميمون
ودأب ملوك المسلمين على الزواج من مسيحيات من الشمال، ويحفل الشعر الأندلسي بقصائد تتحدث عن قصص عشق بين شعراء مسلمين وفتيات مسيحيات، مما يدل على مدى عمق التعايش الذي كان سائدا في ذلك الوقت.
وبقي تأثير ما أسماه أزنار «الاحتلال العربي» قائما حتى بعد سقوط الحكم الإسلامي، فسقوط طليطلة عام 1085 م والتي كانت مركزا للترجمة جعل منها محطة هامة عبرت منها المعرفة إلى أوروبا، وظلت بعض الكتب العربية خاصة في مجال الطب ككتاب القانون لابن سينا، من المؤلفات المقررة في كثير من مدارس الطب في أوروبا حتى القرن السابع عشر.
كتاب بن سينا
بل امتد التأثير إلى اللغة نفسها، حيث بقيت اللغة العربية في أسبانيا حتى القرن السادس عشر، وحتى اليوم توجد ما لا يقل عن 3000 كلمة في اللغة الأسبانية ذات أصول عربية.
حرب الاسترداد .. ومحاكم التفتيش
أما بعد حرب الاسترداد التي قادها كل من الملك فرديناند ملك أراغون والملكة إيزابيلا ملكة قشتالة، اللذين يفخر أزنار أنه من أنصارهما، فقد شهدت أسبانيا فى عهدهما واحدة من أبشع صور الاضطهاد الديني ممثلة في محاكم التفتيش التي أنشأها الكاردينال دي خمنيس مطران طليطلة بأمر من فرديناند.
فرديناند ملك أراغون
وكان أول عمل لهذه المحاكم هو جمع المصاحف وكتب العلم والفقه والحديث وحرقها في ميدان عام. ثم بدأت بعد ذلك عملية تنصير المسلمين التي شهدت تحويل المساجد إلى كنائس، وتم إجبار عدد كبير من الفقهاء والعلماء والعامة على التنصر، وتم قتل من رفض منهم، وأصبح التمثيل بجثث القتلى المسلمين أمراً اعتياديا.
ولم يسلم اليهود من التعذيب الوحشي وأحكام الإعدام التي فرضتها محاكم التفتيش، ففروا مع من فر من المسلمين إلى المغرب، حيث وجدوا فيها بين المسلمين الأمان الذي لم يجدوه في اسبانيا.
ويبقى بعد كل هذا سؤال آخر: إذا كان المسلمون من وجهة نظر أزنار وغيره من الإستعماريين الأوروبيين إضافة إلى نفر غير قليل من بني جلدتنا من العرب، مطالبين بالاعتذار عن كل ما سبق أن لاقوه من تعذيب واضطهاد بعدما بذلوه من تعايش وتسامح، فهل أسبانيا أيضا مطالبة بالاعتذار عن قرون من الاحتلال لبلدان أمريكا اللاتينية؟
معارك حرب الاسترداد
ذلك الاحتلال الذي بدأ بـ«اكتشاف» كولومبوس لما أسماه بالعالم الجديد في عام 1495 (أي بعد ثلاث سنوات من سقوط غرناطة) وتحول إلى استعباد لأبناء قارة بأكملها؟
هل أسبانيا مستعدة للاعتذار عن نهبها لموارد وثروات تلك البلاد لما يزيد عن خمسمائة سنة، وعن إهانة المعتقدات الدينية للسكان الأصليين وفرض عقيدة الكنيسة الكاثوليكية الأسبانية عليهم قسرا؟