«حضرات النواب، أرى أن مجلسنا لابد أن يكون له موقف حازم وواضح من هذا العبث السياسى، لأن الأزمة ليست أزمة مجلس الوزراء فحسب، بل هى أزمة مجلس النواب نفسه، بل أزمة الدستور المصرى.. وليعلم الجميع أن هذا المجلس مستعد لأن يسحق أكبر رأس فى البلاد فى سبيل صيانة الدستور وحمايته».
بهذه العبارة علا صوت الأديب والصحفي والنائب البرلماني عباس محمود العقاد تحت قبة البرلمان في جلسة 17 يونيو عام 1930، تلك الجلسة التي قدّم فيها رئيس الوزراء مصطفى النحاس باشا استقالته، احتجاجا على رفض الملك فؤاد التصديق على قانون يقضي بمحاكمة الوزراء الذين ينقلبون على الدستور ،أو يقومون بحذف حكم من أحكامه أو تعديله بغير الطريق الذى نص عليه الدستور.
حضر النحاس باشا وأعضاء حكومته إلى مجلس النواب، وكان القرار: إما التصديق على القانون الذي كان يهدف إلى صيانة الدستور، أو الاستقالة، فأعلن أغلبية النواب تأييدهم لموقف الحكومة، وفجّر العقاد قنبلته في تلك الجلسة فانفجر المجلس وهاج، وعلا الصياح بين استحسان واستنكار.
يُحذف من المضبطة
تدخل رئيس المجلس ويصا واصف باشا ودق منضدة الرئاسة بيده دقا عنيفا وهو يصيح: لا.. لا.. لا.. أنا لا أسمح بهذا، وأمر سكرتارية المجلس بعدم إثبات ما قاله العقاد في مضبطة الجلسة، ثم رفع الجلسة، وفقا لما ذكره الأستاذ محمد التابعي في سلسلة مقالاته «ذكريات من سجن مصر» التي نشرها في «آخر ساعة» منتصف ستينيات القرن الماضي.
«لم يكد رئيس مجلس النواب يستقر في مكتبه حتي دق جرس التليفون، وكانت (السراي) علي الخط.. صاحب الجلالة الملك يستدعي فورا معالي رئيس مجلس النواب لمقابلته.. وتمت المقابلة»، يقول التابعي، مضيفا: سمعنا بعدها شيئا مما دار بين فؤاد وويصا واصف.. سأل فؤاد.. عما حدث في الجلسة؟، وأراد واصف أن يهون من الأمر، وأن يهديء من غضب (رئيس الدولة) فقال ما معناه أن عباس العقاد أحد عبيد مولانا المخلصين.. فقال فؤاد: ولكنه عبد خطر.
ما زاد الغضب اشتعالا في نفوس الملك الذي كان قد بيت النية لإلغاء الدستور وتعطيل الحياة النيابية، هو نشر الصحف لكلمة العقاد صباح اليوم التالي للجلسة، إضافة إلى إصرار العقاد على الاستمرار في نشر سلسلة مقالات في جريدة «المؤيد الجديد» تتضمن تحريضا مباشرا على أسرة محمد علي.
حذر سينوت بك حنا القيادي الوفدي البارز العقاد من مخطط يعده رجال الحاشية للإيقاع به وسجنه، ألا أن العقاد لم يُلق بالا لتحذير حنا واستمر في نشر مقالاته، حتى فوجئ باستدعاء النيابة له للتحقيق معه، كما استدعت النيابة محمود فهمى الخضرى بصفته المدير المسؤول عن «المؤيد الجديد».
العيب في الذات الملكية
حضر التحقيق عدد من كبار المحامين الوفديين منهم، محمد نجيب الغرابلى، محمد صبرى أبوعلم، محمود سليمان الغنام، وسأل رئيس النيابة العقاد فى التحقيقات عن مقالاته المنشورة، ومنها «لا لاستعباد مصر وتعذيبها»، «الرجعيون والإنجليز»، «سيعدل الدستور ولكن كيف»، و«الرجعية هى العدو الأكبر فى الأزمة الدستورية»، ثم بعد ساعات من التحقيق وجهت النيابة للعقاد تهمة «العيب فى الذات الملكية»، وأمرت بحبسه على ذمة التحقيق، وأحيل إلى محكمة الجنايات.
في الجنايات تأجلت القضية مرارا بناء علي طلب الدفاع، الذي أراد أن تنظر القضية أمام دائرة أخري غير هذه الدائرة التي كانت معروفة بقسوة أحكامها، وبأن رئيسها كان علي صلات طيبة مع كبار رجال السراي، يقول التابعي في مقاله، «نجح الدفاع في خطته.. ونظرت قضية العقاد أمام دائرة أخري».
اقرأ أيضا:
العقاد والنديم.. «التلميذ» يتمرد على «الأستاذ» via @aswatonline https://t.co/6HgBVd7Hjz
— أصوات Aswat (@aswatonline) July 3, 2019
وفي 25 ديسمبر من عام 1930 بدأت النيابة مرافعتها فى القضية، واتهمت العقاد ببث أفكار خطيرة فى البلاد، وهى أن «جلالة الملك يناهض الأمة فى أمانيها، وتخللت مقالاته عبارات وألفاظ كلها عيب فى الذات الملكية وطعن فى صاحب العرش»، وحاولت النيابة إثبات أن العقاد كان يقصد الملك صراحة رغم أنه لم يذكره باسمه، «بل استعمل فى بيان غرضه وتحديد مقصده عبارة الرجعية».
وهنا تدخل مكرم باشا عبيد نافيا ذلك الاتهام، وأكد أن «العقاد لم يصرح مطلقا فى مقالاته باسم الملك، بالرغم من أن المادة 156 من قانون العقوبات التى طلبت النيابة تطبيقها على العقاد، يفهم منها أنه يجب أن يكون العيب صريحا ومباشرا وموجها إلى ذات الملك لا غمزا ولا لمزا، ولا بطريق مباشر».
ونفى عبيد فى دفاعه أن يكون المقصود بالرجعية هو الملك، واستمد ذلك من نصوص الدستور، «لكن ما الرجعية التى عناها العقاد؟ هى كل فكرة أو هيئة أو شخص مسؤول عن العبث بالدستور أو بحريات البلاد فى أى زمن من الأزمان».
ما بين الرجعية والدستور
وأضاف عبيد في مرافعته التاريخية التي تناقلتها الصحف في اليوم التالي لجلسة المحكمة: «نحن أمام قضية تمثل مأساة أمة تمثلت فى مأساة فرد، إذ الواقع أن هذه القضية التى تبدو فى الظاهر بين النيابة والأستاذ العقاد إنما هى فى الحقيقة بين الرجعية والدستور، أو هى بالأحرى بين مبدأ التأخر ومبدأ التقدم، أيا كان الشكل الذى قد يتخذه كل من هذين المبدأين، أو الاسم الذى يتسمى به فى مختلف الأزمنة والظروف، وما العقاد إلا خصم للرجعية عنيد انهال بضربات قتالية رأت أن لا قبل لها بها، فاعتزمت أن تنكل به قبل أن ينكل بها، ولما لم تقو على مجابهته وجها لوجه فرت إلى السدة الملكية، تتعلق بركابها، وتتسمح بأعتابها، ولم تستح أن تتخذ منها ستارا لعيوبها، فأسندت العيب للذات الملكية، والعيب كل العيب فيها».
انتهت القضية بحبس العقاد 9 شهور حبسا بسيطا في سجن مصر أو قرة ميدان كما هو معروف عند سواد الشعب، وفي السجن شكا العقاد من شدة البرد وقال انه مريض، فجاءه طبيب من مصلحة السجون وأيد العقاد في شكواه، وكانت زنزانته- مثلها مثل سائر حجرات وغرف السجن – ذات نافذة مفتوحة إلا من القضبان الحديدية كما يقول التابعي.
ويضيف التابعي: «بعد مكاتبات ومفاوضات بين مصلحة السجون ووزارة الحقانية (العدل) التي كانت السجون تتبعها في ذلك الوقت وافق الوزير علي تغطية النافذة بألواح من الزجاج تفتح وتغلق حسب الحاجة».
وزير في زنزانة العقاد
ويروي التابعي أنه في ذات يوم ذهب وزير الحقانية آنذاك المرحوم علي ماهر باشا – إلى سجن مصر، وفتح الحارس باب زنزانة العقاد.. وهو يعلن بصوت عال: معالي الوزير. وكان العقاد متمددا فوق فراشه.. وهنا تعمد العقاد أن يضع ساقا فوق ساق..و أن تكون قدماه في وجه معالي الوزير. ولم ينهض.. تحية واحتراما للزائر الكبير.
قال علي ماهر، و كان يقف وراءه بعض كبار موظفي مصلحة السجون وضباط السجن: نهارك سعيد يا أستاذ عقاد.. فلم يرد العقاد..
– عندك شكوي يا أستاذ من أي حاجة.. ولم يرد العقاد..
وعاد وزير الحقانية يسأل: لك طلبات يا أستاذ عقاد..
سكوت.. وعدم رد.. فانصرف الوزير.. وأغلق الحارس باب الزنزانة.
اقرأ أيضا:
البكباشي محمد عبيد.. البطل المنسي عظيم الجاه via @aswatonline https://t.co/oL2HIpREgG
— أصوات Aswat (@aswatonline) July 10, 2019
عالم السدود والقيود
خلف القضبان دون العقاد يومياته ومشاعره وجمعها في كتاب «عالم السدود والقيود» وكتب في مقدمة الكتاب الذي نشره بعد تلك المحنة: هذه الصفحات هي خلاصة ما رأيته وأحسسته، وفكرت فيه يوم كنت أنزل عالم السدود والقيود، وأشعر ذلك الشعور وأنظر إلى العالم من ورائه ذلك النظر، لست أعني بها أن تكون قصة، وإن كانت تشبه القصة في سرد حوادث ووصف شخوص، ولست أعني بها أن تكون بحثا في الاصلاح الاجتماعي، وإن جاءت فيها إشارات لما عرض لي من وجوه ذلك الاصلاح، ولست أعني بها أن تكون رحلة، وإن كانت الرحلة في كل شيء، ألا إنها مشاهدات في مكان واحد.. ولا أن أستقصي كل ما رأيت وأحسست، وأن كنت أقول بعد هذا، أن الاستقصاء لا يزيد القارئ شعورا بما هناك، وأنه لا فرق بينه وبين الخلاصة إلا في التفصيل والتكرير، وإنما دعوى هذه الصفحات – بل خير دعواها أنها تتكفل للقارئ بأن يستعرض عالم السجن كما استعرضته دون أن يقيم هناك تسعة أشهر كما أقمت فيه».
صور العقاد في «عالم السدود والقيود»، صورة أخلاق النزلاء وأساليبهم في التعامل والتهريب ولغتهم الخاصة التي لا يفهمها غيرهم، ولم ينس تصوير السجن والقائمين عليه من رجال الضبط والربط، وعرض تحليل لأربع شخصيات فقط يرى إنها تمثل أربعة آلاف فرد تحويهم جدران السجن، وهؤلاء الشخوص هم «مجنون يتنازعه السجن والبيمارستان (المستشفى)، والثاني: مجنون ولكن على طراز آخر من الجنون، والثالث: مقعد مبتور الرجلين الى الفخذين، والرابع خليط من الجنون والعربدة والمكر والدماثة المصطنعة والجموح الصحيح».
في الفصل الأول الذي وضع له كاتبه عنوان «الليلة الأولى» تحدث العقاد عن المشاعر التي صاحبت دخوله السجن وقدم وصفا تفصيليا للزنازين وملابس النزلاء ونظراتهم واستقبالهم للزميل الجديد: «احتوانا البناء المخفور الذي يعرف في مصلحة السجون باسم (سجن مصر العمومي) ويعرف على ألسنة الناس باسم (قره ميدان)؛ أي الميدان الأسود، باللغة التركية!. وخطر لي — وأنا أخطو الخطوة الأولى في أرض السجن — قول الفيلسوف ابن سينا وهو يخطو مثل هذه الخطوة: دخولي باليقين بلا امتراءٍ وكل الشك في أمر الخروجِ».
«فهو تقرير فلسفي صحيح للواقع!.. أما الدخول فها هو ذا يقين لا شك فيه، وأما الشك كل الشك فهو في أمر الخروج متى يكون وإلى أين يكون؟ أإلى رجعة قريبة، من السجن وإليه؟ أم إلى عالم الحياة مرة أخرى؟ أم إلى عالم الأموات؟»
مشهد تصوري للعقاد في السجن
على ضريح سعد
ويضيف العقاد: في تلك اللحظة عاهدت نفسي لئن خرجت إلى عالم الحياة لتكونن زيارتي الأولى إلى عالم الأموات، أو إلى ساحة الخلد كما سميتها بعد ذلك؛ أي ضريح سعد زغلول.
كان سعد قد قرب إليه العقاد خلال ثورة 1919 وبعدها، ولقبه بـ«جبار المنطق»، وأطلق له عنان الحرية في الكتابة والنقد، فحرر في صحيفة البلاغ، وساهم في منشورات «جماعة اليد السوداء» السرية. من جهته التزم العقاد صف سعد، يدافع عنه ويهاجم خصومه، ويحلل طريقه، حتى أصبح كاتب الشعب الأول والسند الفكري لحزب الوفد.
في الفصل الأخير من «عالم السدود والقيود»، تحدث العقاد عن فقدانه مشاعر الفرح بالأفراج عنه، لأنه سأم من تصوير كل لحظة فيه على مدار الشهور التسعة التي قضاها في السجن، وما أفسد غبطته بهذا اليوم أكثر فأكثر «الحلاق راجي عفو الخلاق، لا عفا الله عنه» الذي تعمد تأخيره ونكد عليه بمحاولته إثبات مهارته في الصنعة حتى هرب العقاد من تحت يديه قبل أن يُتم حلاقته.
خرج العقاد من السجن إلى ضريح سعد بصحبة شقيقه، وهناك ألقى تلك الكلمات:
لبثت فى السجن تسعة أشهر.. وها أنا ذا فى ساحة الخلد أولد.. ففى كل يوم يولد المرء ذو الحجا.. وفى كل يوم ذو الجهالة يلحد.. وما أقعدت لى ظلمة السجن عزمة.. ففى كل ليل حين يغشاك مرقد.. وما غيبتنى ظلمة السجن عن سنى.. من الرأى يتلو فرقدا منه فرقد.. عداتى وصحبى لا اختلاف عليهما.. سيعهد فى كل كما كان يعهد.