عن مركز المحروسة للنشر صدر أخيرا ديوان «المنحطون» للشاعر الإيطالي جوزيبي إليتِّي، بترجمة المترجم المغربي الردَّاد شرَّاطي الذي نقله عن الإيطالية، وبتصميم الفنانة رشا عبد الله.
تُمَثل قصائدُ المَجْمُوعة الشعريَّة «المُنْحَطّون» مَرْحَلَة العَدَم والتّدْمير الذاتيّ التي نَعيشُها، إذ تَصِفُ دُون تَصَنُّع واقعَ مُجْتَمَعٍ آيلٍ إلى الانحطاط والتبعيّة. إنّها قصائدُ تنطوي على عقيدَةٍ يائسة، تَبْحَثُ عن معنى يَصُونُ طُرائقَ العَيْش والحَيَاة.
في التّمَدُّن المُفْرَغ مِنَ الأحاسيس، يَصْرُخُ الشاعرُ مُعْلِنًا حُضُورَهُ، إذ وَحْدَهُ الشعرُ يَغْدُو رَدًّا يَحُثّنا على قَبُول الآتي في دائرة المُقَدَّس التي تكشفُ سِرًّا واحدًا: سرَّ عَدِّ الفنّ المَصْدَرَ والغايَةَ الوَحيدَيْن. لرُبَّمَا لهذا السَّبَب سيَنَالُ الفنَّانون أشَدَّ عقابٍ إلهيٍّ، لكونهم يَمْلِكُون الجُرْأة على اختِبَار الحَقائق الإلهيّة.
تتوَسَّلُ قصائدُ المَجْمُوعة الشعريّة «المُنحطّون» بمُعْجَمٍ مُتَدَاوَل في اسْتِعْمالِها لهذا المُعْجَم داخلَ البنَيْةِ الشِّعْريّة، تَفْقِدُ مُفرَداتُهُ المَعْنَى الأصليّ وتلبسُ معانيَ مُسْتَحْدَثة تتحَرَّى وَضْعيَّاتٍ تَعْبيريّةً عديدَةً تَفْرضُهَا كُلُّ لُغَة.
وهكذا تُصْبحُ الكلمَةُ المُسْتَعْمَلَةُ في القصائد بَحْثًا مُسْتَمِرًّا عن تَعَدُّدِ المَعْنَى وَفْقَ مَنْحىً يُحَرِّرُ اللغَةَ التقليديَّة التي تُكرِّسُهَا وَسَائل الإعلام، وذلك بتمْدِيدِ القصائدِ للمَجَال التّعْبيريّ لِكُلِّ مُفْرَدَة؛ فاسْتِعْمَالُ الكلمَةِ غَيْرُ مُنْفَصِلٍ عن الفَضَاء الفيزيائيّ للصَّفْحَة البَيْضَاء. إنَّهُ فَضَاءٌ غَيْرُ اعتباطيٍّ، باعتبار الصَّفَحَاتِ لَوحَاتٍ والكلمَاتِ ألْوَانًا.
ويرى جوزيبي أليتي أن الشُّعَراءُ يُجَسِّدُون غِيَابَ المَعْنَى في المُجْتَمَع المُعاصر، وهو ما يَجْعَلُهُم مُهَدَّدينَ بالمَوْت الاجتماعيِّ ذاتِهِ الذي يَنْتَظِرُ العامّة. ويقول: «ما يَشُدُّني في الإبداع الشِّعْريّ وفي الأثَر التّطْهيريّ الذي يَحْمِلُنَا إلى إدْرَاكِ جَمَاليّةِ البَيْت هو ذاك الإحْسَاس المُثير الذي تَكْشِفُهُ الكلمَاتُ المَصْقُولةُ ذاتُ الوَقْعِ الأخَّاذ ؛ الإحساس الذي يَجْعَلُ الصَّفْحَةَ تَهْتَزُّ عند قِرَاءَةِ الأبْيَات».
جوزيبي أليتي
ويضيف أليتي: «حين أكتُبُ شِعْرًا أسْعَى إلى أنْ تكشفَ لي كُلُّ قصيدَةٍ مُتَفَرِّدَة عن قِطْعَةِ الفُسَيْفِسَاء un tassello dal mosaico delle verità المُشَكِّلَة للحقَاَئقِ؛ قِطْعَة تُفْصِحُ مِنْ خلالها التجربَةُ الوُجُوديّة والفَنّيّة للقصائد، التي منها تتألّفُ المَجْمُوعة الشِّعْريّة، عن التَّصَوُّر الفَنّي الذي يَحْكُمُ كُلَّ قصيدة، بما يُضيفُ قطعَةً جَديدَةً لهذه الفُسَيْفِسَاء، التي تتقاطَعُ فيها مُخْتَلفُ الأحاسيس الإبداعيَّة، على نَحْوٍ يَعْثُرُ فيه كُلٌّ منّا على جَوْهَرهِ التّعْبيريّ المُتَفَرِّد.
وتُعيدُ قصائدُ هذه المَجْمُوعَة الشِّعْريَّة صَقْل الأسْرالمَأسَويّ الذي يَعيشُهُ الإنسانُ المُفْرَغُ، الذي تُعْوزُهُ الذاكرة؛ إنسانٌ مُتَنَكِّرٌ لعَادَاتٍ نبيلةٍ مُتَجَذِّرَة، إنسانٌ لا يَكُفُّ عَنْ نَبْذِ المَعْنَى ليَصيرَ مُسْتَهْلِكَ سِلَعٍ يَعتبرُها هَدَفًا لا.
ومِنْ هذا المَنْظُور، يَكْشِفُ الشاعر، في قصائِدِ هذه المَجْمُوعة الشِّعريّة «المُنْحَطُّون»، الوَعيَ بغِيَابِ المَعْنَى في المُجْتَمع المُعاصر، انطلاقًا من رَفْضِ الشاعر لكُلّ أشْكَال الأسْر اليَوْميّ، التي تَقْتُلُ المَعْنَى والإنسانَ مَعًا.
و الشَّاعر الإيطالي جوزيبي أليتي ولد في 21 من مارس 1969بمدينة تارانتو، ويعتبر مؤسِّسًا ومديرًا لمجلة ٱفاق، التي تهتم بمنجز الجيل الأدبي الجديد، وكذلك أهم الكُتَّاب و الشُّعراء المعاصرين. وقد فاز بعدة جوائز من بينها جائزة «القلعة الذهبية» للشِّعر لمدينة لاجونيجرو، كما اختير وصيف الفائزين بجائزة مدينة فورلي الخاصة بإنجاز المقدمات النقدية للدواوين الشعرية. وأنجز مقدمة كتاب «البحر داخلنا» للشاعر الأمريكي لورانس فيرلينجيتي.