لجأ بيرم التونسي للتلاعب في اسمه، وتمكن من الحصول على جواز سفر باسمه الجديد، وصعد بهويته المزورة إلى سطح السفينة المتجهة إلى مصر. هبط من سفينته في السابع والعشرين من شهر مارس عام 1922. وخلال العامين اللذين قضاهما بيرم في المنفى كانت مصر قد تغيرت، لقد أصبحت الثورة التي راهن عليها بيرم تراهن هى الأخرى على المفاوضات مع المحتل، وكان السلطان فؤاد، عدو بيرم الأول، قد صار ملكًا، وكان بيرم قد هجاه قائلًا:
«ولما عدمنا بمصر الملوك
جابوك الانجليز يا فؤاد قعدوك
تمثل على العرش دور الملوك».
الأولة آه
مصر العظيمة عرفت بوجود بيرم وكتمت سره، فراح، رغم الخوف من اكتشاف القصر والاحتلال لوجوده، يكتب شعره الحاد الساخر، متناولًا كل أوجه الحياة في مصر، وكان ينشر أشعاره في جريدة «الشباب» لكن بدون توقيع. عاش بيرم متخفيًا أربعة عشر شهرًا، لكنه في نهاية الأمر لم يفلت من هؤلاء الذين لا يقاومون ولا يحبون لغيرهم أن يقاوم.
يقول بيرم في مذكراته: «إذا كان أهل السياسة لم يشعروا بوجودى حينئذ، فقد شعر بى الزملاء من أهل الأدب، فقاموا بإبلاغ السلطات عنى وعن أمكنة وجودى وحركاتى وسكناتى، فرحلونى من جديد خارج مصر».
غادر بيرم مصر مجددا إلى منفاه فرنسا في الخامس والعشرين من مايو من العام 1923، حيث وصل إلى ميناء مارسيليا ليعمل حامل حقائب، ثم ليتفجر شعره قائلًا:
الأوله: آه .. والثانية آه .. والثالثة آه
الأوله: مصر .. قالوا تونسي ونفوني
والثانية: تونس .. وفيها الأهل جحدوني
والثالثة: باريس .. وفي باريس جهلوني
الأوله: مصر .. قالوا تونسي ونفوني جزاه الخير
والثانية: تونس .. وفيها الأهل جحدوني وحتى الغير
والثالثة: باريس .. وفي باريس جهلوني وأنا موليير
الأوله: مصر .. قالوا تونسي ونفوني جزاه الخير وإحساني
والثانية: تونس .. وفيها الأهل جحدوني وحتى الغير ما صافاني
والثالثة: باريس .. وفي باريس جهلوني وأنا موليير في زماني
الأوله اشتكيها للي أجرى النيل
والثانية دمعي عليها غرق الباستيل
والثالثة لطشت فيها ممتثل وذليل
الأوله آه .. والثانية آه .. والثالثة آه.
كتب بيرم كثيرًا عن مارسيليا ونسائها، إنه رجل محب للحياة شأن كل مقاوم، لا يصرفه عن تأمل الجمال شيء. ومن المنفى راسل بيرم الصحف المصرية وأرسل إليها بأشعاره لتنشرها بدون توقيع ولا تدفع إليه أدنى مقابل مادي، مع أن أشعاره كانت تساعد على رواج تلك الصحف، وبعضها حقق من وراء أشعار بيرم ثروات طائلة.
الإنقاذ اسمه عزيز
في تلك المتاهة التقي بيرم التونسي في فرنسا بالمخرج والممثل المسرحي الشهير عزيز عيد، الذي طلب منه تأليف مسرحية يعرضها في مصر، على أن تكون مقتبسة من أصل أجنبي. استجاب بيرم فورا وقدم لعزيز مسرحية «ليلة من ألف ليلة» فقدم له عزيز عشرين جنيهًا مقدمة للاتفاق بينهما. وكانت العشرون جنيهًا تلك ،هى أعظم مبلغ لمسته يد بيرم، وقد أرسل جزءًا منه لأولاده في مصر.
عُرضت المسرحية وحققت نجاحًا كبيرًا أغرى عزيز بأن يطلب من بيرم التفرغ لكتابة المسرحيات على أن يقدم له دفعات تحت الحساب.كان عزيز قد وعد بأن يبذل قصارى جهده لإعادة بيرم إلى مصر، وهو الأمر ذاته الذي وعد به الموسيقار زكريا أحمد عندما زار فرنسا وقابله بيرم، وزاد زكريا بأن تعهد بإرسال نقود لبيرم لكي يعيش عليها.
هذان حبيبان حميا بيرم قبل أن يسطع نجم حبيب ثالث، سنعرض له في قادم السطور.
خذلان النحاس باشا
في طريقه إلى لندن لتوقيع اتفاقية 1936، مر مصطفى باشا النحاس بباريس، وعرف بيرم بوجود النحاس فذهب إليه وشرح له قضيته كاملة، فوعده النحاس باشا خيرًا، وطلب منه الحضور إلى مقر السفارة المصرية لكي يسهل له الباشا العودة إلى مصر. فرح بيرم الفرح كله، وعندما توجه إلى مقر السفارة وجد الأمن الفرنسي في انتظاره. وعن تلك الواقعة يقول بيرم في مذكراته: «قام الأمن بتفتيشي بحثًا عن سلاح معي، وأخبرني أن هناك بلاغًا من النحاس برغبتي في اغتياله».
فلماذا تخلى النحاس عن بيرم وهو يعرفه حق المعرفة؟… لقد سبق لسعد زغلول باشا أن فعلها، ولكن النحاس أوغل في عداوة بيرم، ثم إن النحاس باشا ذاته هو من حمى أحمد ماهر وفهمي النقراشي، وقد كان الاحتلال يتهمهما بقتل قواد إنجليز، فلماذا تخلى عن بيرم بل ووشى به في فعل هو خارج أخلاق النحاس باشا؟!
لقد كان النحاس يغازل الملك فاروق من خلال التنكيل ببيرم عدو أسرته، ثم شاء ربك أن يقوم فاروق بإقالة وزارة النحاس، ليصبح النحاس باشا كالمنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى.
ظل الأمن الفرنسي يضيق على بيرم حتى جاءت الضربة من أعلى، لقد كانت فرنسا تستعد للحرب العالمية الثانية فرأت التخفف من عبء الأجانب فصدر قرار يطالب الأجانب بالعودة إلى مواطنهم في أسرع وقت، وهكذا وجد بيرم نفسه في تونس مرة ثانية. وهناك أسس بيرم جريدة «الزمان»، فراجت رواجًا شديدًا في كل بلاد المغرب العربي، فتأكد الاحتلال الفرنسي الذي كان يحكم تونس أن رجلًا مثل بيرم لم يُخلق للصمت، فقرر الفرنسيون طرده من تونس.
كان الاحتلال الفرنسي رحيمًا هذه المرة ببيرم فقد خيّره بين البلاد ،فوقع اختياره على سوريا، فاشترط عليه الاحتلال عدم المشاركة في أي نشاط سياسي. وافق بيرم على شرط هو خلق أصلًا ضده، فكل شعر بيرم لا يمكن فصله عن السياسة بمفهومها العام. وكما كان متوقعا ضاق الفرنسيون ،الذين كانوا يحتلون سوريا، ببيرم فقرروا نفيه إلى بلد من بلدان وسط إفريقيا حيث لا عرب ولا عربية.
ثمن العودة
صعد بيرم إلى السفينة التي ستنقله إلى وسط أفريقيا، لكن قلبه كان قد قرر قرارًا لا رجعة فيه. صباح الثامن من أبريل عام 1938 توقفت السفينة في ميناء بور سعيد، فقرر بيرم الهبوط منها وكأنه ليس مطاردًا ولا منفيًا.
عاد بيرم بعد رحلة المنافي التي أخذت من عمره ثماني عشرة سنة كاملة، وبعد السكرة جاءت الفكرة، لقد قرر بيرم عدم العودة للمنفى ثانية، فكتب خطابًا يحمل قصيدة إلى صديقه الشاعر الكبير كامل الشناوي الذي قدم الخطاب والقصيدة لرئيس تحرير الأهرام أنطوان الجميل .قال الجميل للشناوي: إن محمد محمود باشا رئيس الوزراء ومحمود فهمي النقراشي وزير الداخلية، وأحمد حسنين باشا الأمين الأول في القصر، من أشد المعجبين ببيرم، وسأتصل بهم وأستأذنهم في نشر زجله.
اقرأ أيضا:
بيرم التونسي.. لم يكسره عدو ولم يحمه حبيب (1ـ 3) via @aswatonline https://t.co/Z0RAQpUa4e
— أصوات Aswat (@aswatonline) July 8, 2019
حصل الجميل على الموافقات اللازمة لنشر قصيدة بيرم وفي الصفحة الأولى من الأهرام، وكانت تلك سابقة. وبعد نشر القصيدة بساعات جاء الأمر من وزير الداخلية بتجاهل عودة بيرم، والحق أن بيرم كان قد قبل بدفع ثمن عودته، فقد كانت قصيدته عن شوقه وغربته ثم ختمها بكلمتين عن الملك الحالي فاروق الأول .ورود كلمة فاروق في قصيدة لبيرم في سياق المدح كان هو الثمن الذي دفعه الشاعر الفذ لكي يعود إلى أحضان أمه.
لا أدافع عن بيرم عندما أقول إن الملك الشاب كان أيامها محبوبًا من المصريين الذين كانوا يراهنون عليه لكي يخلصهم من تركة والده المثقلة بالجراح.
قال بيرم في قصيدته:
«غُلُبْتِ أقْطعْ تذاكرْ
وِشْبِعْتِ يا ربِّ غربةْ
بين الشطوط والبواخرْ
ومنْ بلادنا لأوروبا
وأقول لكمْ بالصراحةْ
إللي فْ زَمَنّا قليلةْ
ما شفت يا قلبي راحةْ
في دي السنين الطويلةْ
إلا لما شفت الطوافي واللبدة والجلابية
يا مصر يا نور الوسامة
ساطع وباين شروقك
لحن السلام والسلامة
الدنيا سامعاه في بوقِك
والجو فوقه ابتسامة
زي ابتسامة فاروقك».
كما كان هناك ثمن هامشي لعودته وقع موقع الرضا من قلب بيرم، فقد طلبت منه دوائر القصر أن يتكلم في حق النحاس باشا، لكي يواصلوا غض البصر عن عودته. وقد وجدها بيرم فرصة ليشفى صدره من النحاس فهجاه، أو داعبه حسب وصف بيرم، ثم سكت عنه عندما أخذ بثأره منه.
حد السيف
كفاك الله شر معيشة الخائف المترقب الذي يحسب كل صيحة عليه، وكفاك الله شر العيش على حافة الهاوية، وكفاك شر المشي على حد السيف. وكل ذلك تجرعه بيرم قطرة قطرة، فهو لم يعد منفيًا لكنه لم يصبح مواطنًا ينعم بالأمان، وفاروق لم يصدر عفوًا عنه بيرم، هو فقط غض بصره عن عودته. ومع ذلك تدفق شعره ليطوف كل أرجاء الوطن العربي، فهو مع المقاومة أينما كانت، ومع الشعوب المقهورة التي تقاتل من أجل غد أفضل، وهو مع المرأة بدون قيد أو شرط، ومناصرته للمرأة ستكون بوابة عبوره إلى الهرم الكلثومي.
لقمة العيش
كانت أم كلثوم عند بيرم رمزًا للمرأة المتحدية صاحبة الفهم والكبرياء، فتعرف عليها وقدم لها عصارة فنه بداية من العام 1940 وحتى قبل شهر من رحيله، لكن نجاحه المدوي معها جر عليه حربًا كادت تقتلعه.
فقبل عودة بيرم كان كبار المطربين يعتمدون اعتمادًا شبه كلي على كلمات أحمد رامي وفتحي قورة وأبو بثينة وحسين السيد وقصائد أحمد شوقي وحافظ إبراهيم. لكن بعودة بيرم حصل بمفرده على نصف الكعكة، وهنا جاءت مواجع لقمة العيش، فقد شن عليه أبو بثينة وفتحي قورة حربًا لا هوادة فيها تهدف إلى استئصاله.
أصبح الوسط الثقافي والفني موزعًا بين الطرفين، فهناك من دافع عن بيرم مثل زكريا أحمد، بينما الأغلبية كانت تعاديه، وتكاد تقول بنفيه مرة أخرى. لم تكن المعركة شريفة بأي حال من الأحوال، فقد كتب الشاعر الكبير فتحي قورة مقالًا يتهم فيه بيرم بأنه كتب أغنية «جنسية» لأم كلثوم وكان يقصد رائعة بيرم «أنا في انتظارك»، فهل يمكن لمتذوق الشعر أن يوافق على ما كتبه قورة؟
سكت بيرم ولم يرد، لأنه يعرف ثمن كلامه، فقد يعود للمنفى ثالثة، لكن شيطانه الشعري لم يصبر، فعندما منح مهرجان للزجل العربي أُقيم في لبنان أبا بثينة إمارة الزجل العربي قال بيرم:
«خراب ما يحتاج لمعاينة
وفن باير وأهى باينة
أميرى جوز أم بثينة
وأنا الرعية أنا وعيالها».
وكان هذان البيتان المدفعية الثقيلة التي أنهت المعركة، فقد عرفوا أن بيرم عندما يهجو فإنه يوجع.
اقرأ أيضا:
بيرم التونسي.. لم يكسره عدو ولم يحمه حبيب (2ـ 3) via @aswatonline https://t.co/cFNcvld4Qu
— أصوات Aswat (@aswatonline) July 22, 2019
الحبيب الحامي
ثم جاءت ثورة يوليو وجاء جمال عبد الناصر، الذي رفع كل السيوف عن رقبة بيرم، ومنحه الجنسية المصرية، وفتح أمامه أبواب صحيفة الثورة الجمهورية، ثم منحه جائزة الدولة التقديرية، وكانت أرفع الجوائز المصرية. وعندما كتب بيرم ملحمة «الظاهر بيبرس» وكانت الإذاعة تبث حلقاتها، ثم توقفت بزعم أن الملحمة لا تمثل الحقيقة التاريخية، تدخل عبد الناصر وأمر باستئناف إذاعة الحلقات.
غني عن الذكر أن بيرم كان من أوائل المؤيدين لثورة يوليو، وراهن عليها كما راهن على ثورة 1919، لكن الفارق أن عبد الناصر لم يخذله كما فعل زغلول والنحاس.
الوداع
منذ بدايته وبيرم يعرف نهايته لقد قال في زمن شبابه:
«قال: إيه مراد ابن آدم؟
قلت له: طقه
قال: إيه يكفي منامه؟
قلت له: شقّه
قال: إيه يعجّل بموته؟
قلت له: زقه
قال: حـد فيها مخلّد؟.
قلت له : لأه».
نظر والد الشعراء فؤاد حداد حوله ثم قال:
«فين بيرم التونسي اللي علمنا
نلف ونقلوظ عمايمنا».
بكى صلاح جاهين على بيرم ثم قال:
«النعـش عـايم في الدموع في عينيا
فـايت فـى قـلب القـاهرة ومـعدى
هـو عـارفها وهـى مـش عـارفاه
عـلى كـل حـاره وكل عطفة يهدى
كـأنـه راجـع لـسـه مـن منـفاه
بيــبوس بعـيـنه اللِـبْـدَة والجلابيه»
وقفت أم كلثوم على مسرحها الشامخ في الليلة الخامسة من شهر يناير من العام 1961لتغنى رائعة بيرم «هو صحيح الهوى غلاب» لكنها قبل الغناء نظرت للجماهير وقالت: «شاعر الشعب محمود بيرم التونسي مات قبل قليل». كانت «هو صحيح الهوى غلاب» هى آخر أغنية كتبها بيرم لأم كلثوم، حيث أذاعت أم كلثوم خبر وفاته عن عمر يناهز 68 عاما على الهواء مباشرة، بعد أن نال منه الربو، وكأنه كان ينعي نفسه حين كتب:
قال حد فيها مخلد… قلت له لأه…