لم أكن قد تجاوزت الخامسة من عمرى، حين لمحت أبى عائدا ذات يوم من عمله في «مجمع اللغة العربية»، وكان موقعه حينها بفيلا بشارع مراد بالجيزة، قبل أبواب حديقة الحيوان. كان المجمع قريبا من بيتنا في أول شارع الهرم.
في ذلك اليوم عاد أبي سيرًا على الأقدام من المجمع، وهو يتأبط لفافة كبيرة وقد ربطت بدوبارة (حبل رفيع من الصوف) على ورق كرتون مقوي. كان يحملها بعناية شديدة، ويبدو أن ثقلها كان كبيرا، فقد كان يتصبب عرقًا.. نادي علي أنا وأخي الأكبر كي ننزل ونحمل ما معه، هبطنا سريعًا السلم، وأحطنا به، وأخذنا اللفافة منه، كل منا من ناحية، وقف أبي ينظر إلينا وقد أخرج من جيب بنطاله منديل قماش ووقف يجفف عرقه، ثم أمرنا بأن نصعد بها بحذر، مع وعيد وتحذير بألا تسقط منا، وإلا نلنا عقابًا شديدًا.
كنا نسكن في الطابق الخامس، وسلم البيت عال وطويل وضيق ومظلم، وكانت اللفافة ثقيلة وكبيرة الحجم، حملناها من والدي وصعدنا بها في حرص شديد. وعندما وصلنا إلى باب الشقة وقفنا في حيرة كبيرة ننتظرصعود أبي، فلم نستطع أن نضعها على الأرض أو نقوم بإسنادها على أي شيء قبل أن يقرر أبي. وبعد أن صعد خلفنا، جلس على مقعده يلتقط أنفاسه، وظللنا واقفيْن أنا وأخي نتبادل النظرات في قلق وحيرة ولا نعرف ماذا نفعل، إلى أن أمرنا أبي بأن نضعها برفق على مائدة الصالون.
اقرأ أيضا:
هذا ما كتبه الرئيس المختار ولد داداه عن لقاءاته بجمال عبد الناصر وقصة اعترافه بموريتاينا via @aswatonline https://t.co/cXR6YBAamH
— أصوات Aswat (@aswatonline) July 24, 2019
حكاية صورة
وبينما أنا أقف في شغف لمعرفة ما بتلك اللفافة الكبيرة والتي تكاد تتجاوز طولي- أمر والدي أمي بأن تأتي بسكين. ثم بدأ يصوب نظراته على جدران الشقة إلى أن استقر على مكان محدد على أحد الجدران. جاءت أمي بالسكين وقطع أبي الدوبارة، وبدأ في فك الغلاف الكرتوني، فإذا بها صورة بالأبيض والأسود لشخص ما بدا مبتسما ابتسامة هادئة ويرتدي بدلة وربطة عنق، وأعلى الصورة نسر مطبوع على الكرتون في المساحة الخالية بين البرواز والصورة.
اختار أبي أعلى مكان في صالة البيت، وأشار لي بأن أناوله الشاكوش ومسمارين كبيرين، ناولته ما طلب من درج العدة، ثم وقف على كرسي وقام بدق المسمارين في الجدار، ثم تناولت أنا وأخي الصورة الضخمة ورفعناها له، فأخذها منا وثبتها بحرص شديد على الجدار. وعندما هبط وجلس يتأمل موقعها وموقع الرؤية لمن يأتي أو يمر عليها، لاحظنا أنها قد وُضعت في مكان حيوى بحيث يمكن رؤيتها تتصدر الصالة بشكل واضح جدا، ومن جميع الجهات والزوايا، أي إنها تستقبل من يأتي للبيت وتودع من يغادره.
كنت أريد أن أعرف لمن هذه الصورة، خاصة أن ملامح الرجل في الصورة قريبة الشبه من والدي. وقفت أنظر للصورة وأنظر لأبي، ثم سألته بعفوية: «هو مين الراجل ده يا بابا؟، فنظر لي أبي في دهشة وحيرة، بينما أمي وأخي الأكبر يضحكان على سؤالي.. أعدت السؤال فنظر أبي تلك المرة إلى أخي الذي صمت، ثم قال وهو يتأمل الصورة: هذا جدك جمال. نظرت للصورة ثم نظرت لأبي وقلت له: «ده شبهك قوي، هو ما بيجيش يزورنا ليه؟، لما يجي يزورنا لازم أقابله».
ومرت الأيام وجغرافيا الجدران في بيتنا الصغير تتغير وتتبدل، توضع صور وتقطع صور وتنزاح صور، إلا تلك الصورة، ظلت معلقة في أعلي الحائط وقبل نهاية السقف وكأن جدي – جمال – يرعانا ويتابعنا، وكم حاولت أن أقلد ابتسامته الشفيفة الرائقة كثيرًا.
كانت جدران بيتنا تمتليء بالكثير من الصور لأبي ولأخوتي ولأقاربنا، إلا تلك الصورة لم تتزحزح، ولم أعرف سر اهتمام أبي بها، وإذا كان جدي هذا حيًا فلماذا لا يأتي لزيارتنا، وكنت أظن أنه حتما سيأتي وسألتقي به، وربما نلتقط بعض الصور معه. إلى أن جاء يوم وحكي أبي لي حكاية تلك الصورة، وأنها للزعيم جمال عبد الناصر الذي كان والدي يعشقه، فهو صعيدي ومن أسيوط مثله، وقد عاش محمد مستجاب تلك الأحلام الناصرية في الخمسينيات والستينيات، فقد كان يتعامل معه بعاطفة شديدة وكأن عبد الناصر شخص يخصه بمفرده.
خصم شهر من الراتب
حكي لي والدي كيف كان مرتبطًا بشخصية جمال عبد الناصر، خاصة وأنه رآه عن قرب في إحدى زياراته للسد العالي، وقد عمل والدي سنوات طويلة في مشروع بناء السد العالي، ويعتبره مشروعه الخاص ومجده الشخصي.وعندما رحل عبد الناصر في سبتمبر 1970، وجاء السادات، كان الحديث الساداتي بأنه سيكمل المسيرة على طريق عبد الناصر، لكن هذا الكلام سرعان ما بدأ يتلاشي محاولا محو كل شيء يحمل رائحة أو مجد أو اسم عبد الناصر. كانت صور عبد الناصر معلقة في معظم مكاتب الموظفين في الدواوين الحكومية، وفي كل مكان تقريبا، وقد جاءت القرارات بأن تُوضع صورة السادات بجوار صورة عبد الناصر، ثم جاءت القرارات الجديدة بأن تتم إزالة صورة عبد الناصر ووضعها في المخازن.
اقرأ أيضا:
وجه آخر لذكرى يونيو الحزينة: قصة ملحمة شارك فيها 35 ألف مصرى via @aswatonline https://t.co/AVERttu9XT
— أصوات Aswat (@aswatonline) July 24, 2019
ولأن والدي موظف في مجمع اللغة العربية، فقد رفض أن تذهب صورة عبد الناصر إلى المخازن، من أجل تكهينها، وبدأت الحكاية تكبر، فدخل في صدام مع رؤسائه في العمل، وقرر أن يأخذ الصورة للبيت. فلن توضع صورة عبد الناصر في المخازن، ولن يستطيع أحد محو أو تدمير ما فعله هذا الرجل. ولأن تلك الصورة كانت عهدة، فقد نال والدي العقاب الإداري كموظف في مجمع اللغة العربية، حيث تم خصم شهر من راتبه.
كل الصور التى عُلّقت على جدار بيتنا داهمها الزمن، وطرأ عليها تغيير ما إلا صورة جدي عبد الناصر، ظلت صامدة ببروزاها المذهب والذي مال للون البني، فقط قمت بتغيير الخيط الذي يحملها لأنه «داب» بفعل الزمن، ووضعت بدلا منه سلكا قويا لحملها، بعد أن نقلتها إلى بيتي.
ومازلت أطالع تلك الصورة، كما كان يفعل أبي دائما، فأشعر مع ابتسامته بالاطمئنان وبأنه لايزال هناك «ضهر» وسند لي مثلما يحدث عندما أنظر لصورة أبي. كما نتبادل الكثير من الحوارات، خاصة في مواقف أمر بها، وأحاول اللجوء إلى شخص نبيل وطيب وعظيم، فلا أجد إلا صورة عبد الناصر، وأرى ابتسامته، ويخيل إلىّ أنه يهز رأسه ويكلمنى وينظر إلى أبى. ورغم مرور كل هذه السنوات ما زلت – وحتي الآن- أعيش في كنف مستجاب الأب، وفي حضن تلك الصورة العظيمة لجدي جمال، كما قال لي والدي ذات يوم.