الزمان: مايو 1799
المكان: عكا، فلسطين
أزاح أحمد باشا الجزار، والي عكا العثماني، ستار نافذته المطلة على أسوار المدينة، وألقى نظرة خاطفة على المشهد خلف الأسوار.
أحمد باشا الجزار
ابتسم وهو يتأمل مشهد الجنود الفرنسيين المتمركزين حول المدينة بأمر من قائدهم الجنرال نابليون بونابرت، حيث بدا واضحاً عليهم الإعياء التام بعد أشهر من حصار ضربوه على المدينة لم يجلب لهم سوى الموت والمرض.
اتسعت ابتسامة الجزار وبدت على وجهه علامات الزهو وهو يفكر أن مدينته الصغيرة حجما وسكانا تمكنت من احباط طموحات نابليون، ذلك القائد الفرنسي الذي طالما تباهى بقدرته على قهر جيوش أوروبا مجتمعة، والذي أتى إلى أرض الشام ومصر حالما بإقامة إمبراطورية فرنسية.
نابليون.. ووجهه الحقيقى
بدأ الأمر حين رست سفن بونابرت على سواحل الإسكندرية عام 1798، ورغم ما أبداه أهالي الثغر من مقاومة عنيفة إلا أن الجنرال تمكن من شق طريقه إلى القاهرة.
تحطمت قوات المماليك التي واجهت نابليون عند الأهرام محاولة وقف تقدمه لكنه أجاد استخدام مدافعه للقضاء عليها، ثم دخل المحروسة ممنيا نفسه باستقبال حافل يتوج فيه بالأكاليل.
ولم يجد القائد الفرنسي أياَ مما تمنى، بل وجد النقيض التام مما كان يرجوه من قوم حسب أنهم يحتفون به كونه «حررهم» من طغيان المماليك وجلب لهم المطبعة من بلاده.
لكن المصريين أدركوا أن المطبعة يجرها مدفع، وأن ما يسميه الفرنسيون تحريراً هو في واقع الأمر احتلال، فقامت ثورتهم الأولى في أكتوبر من عام 1798، وعلا ندا ءالجهاد من على مآذن المساجد وأقام أهل القاهرة المتاريس وقاتلوا بكل ما وصلت إليه أيديهم من سلاح وقتلوا حاكم القاهرة ديبوي المعين من بونابرت.
هنا أسفر الجنرال عن وجهه الحقيقي، حيث لم تعد سياسة التودد إلى المصريين مجدية، فقصفت مدافعه القاهرة ولم تميز بين شيخ وطفل وإمرأة وهدمت أحياءً برمتها.
وزاد نابليون في تحدي شعور أهل مصر الثائرين بأن أمر جنده بدخول الجامع الأزهر –رمز الثورة- بخيولهم، مما زاد حنق المصريين وأهل الشرق بشكل عام ضده وضد قواته.
جرائم الفرنسيس
لم يهنأ الجنرال طويلاً بقمعه للثورة، إذ لم تستقر الأمور له ولجيشه على أرض مصر، ففي البحر تمكن الأسطول الإنجليزي من تحطيم قواته البحرية في موقعة أبي قير، وفي الشمال، ثمة قوات عثمانية تزحف لملاقاته .
قرر بونابرت أن يلاقي الحملة القادمة من أرض الشام، فخرج بنحو 13 ألف جندي في فبراير من عام 1799 متجهاً إلى فلسطين، وتمكن من السيطرة على غزة ثم مضى نحو المدن الساحلية المطلة على البحر المتوسط.
اقرأ أيضا:
حين انتصر الجنوب (3): هايتي.. أرض الأحرار via @aswatonline https://t.co/Ozlz3uUiT2
— أصوات Aswat (@aswatonline) July 30, 2019
وفي يافا، أدرك بونابرت أن هناك حامية تدافع عن المدينة، فلجأ إلى الحيلة لاستمالة المدافعين، فعرض عليهم شروطاً للاستسلام رفضوها في باديء الأمر ثم تمكن مهندسو الجيش الفرنسي من نقب جدار المدينة وإندفع جنودهم كما فعلوا في القاهرة ينكلون بأهل يافا وهو ما دفع الحامية لقبول شروط الجنرال حقنا للدماء.
أطرق الجزار رأسه في ألم وهو يتذكر ما فعله الجنرال بأولئك الذين وثقوا بعهده فخان العهد، فما إن قرر نابليون مواصلة الزحف نحو عكا حتى أمر جنوده بقتل الأسرى، وبرر ذلك بحجة واهية وهي أنه لا يستطيع أن يتكلف مؤونهتم، وفي يوم واحد قتل أكثر من 1400 أسير على أسوار يافا طعنا بالحراب الفرنسية ذلك أن الجنرال الفرنسى أمر جنده ألا يهدروا طلقات الرصاص!
عكا.. نهاية نابليون
تابع الجزار تأمل القوات الفرنسية، قارن بين وضعهم الراهن الذى يبعث فى نفسه السعادة، وبين حالهم حين وصلوا إلى مشارف المدينة في 23 من مارس، كان نابليون الذي زاده سقوط يافا غروراً فوق غروره يحسب أن الإستيلاء على عكا لن يستغرق سوى بضعة أيام.
إلا أن الجزار كان قد احتاط للمواجهة، فقام بتحصين عكا وبناء أسوار ضخمة حولها في وقت سابق، وبناء مرابض للمدفعية وتشييد خندق حول الأسوار بعمق 8 أمتار.
ورغم قلة عدد المدافعين إلا أن الجزار انتقى 250 من أفضل العناصر وكلفهم بحراسة أسوار المدينة، كما احتاط لاحتمال حصار المدينة لمدة طويلة، فجمع كميات كبيرة من الغذاء والقمح والأرز والمؤن، باﻹضافة إلى توفير كميات كافية من المياه.
حين وصل نابليون إلى مشارف عكا، كان يُدرك تماماً أن واليها لن يقبل تسليمها على غرار يافا، فقصفها بالمدافع قصفا عنيفا وحاول جنوده إختراق تحصيناتها المرة تلو الأخرى دون جدوى.
أدرك بونابرت أن لا مفر من تطويق المدينة، وفرض حصار طويل الأمد عليها، إلا أن ما لم يدركه الجنرال هو أن هذا الحصار كان وبالاً على قواته بأكثر مما كان وبالاً على الجزار ورجاله ومدينته.
فإلى جانب رصاص ومدافع الحامية التي نالت من القوات الفرنسية وكلفتها نحو 1200 قتيل، تفشت الأمراض والأوبئة في صفوف الجنود الفرنسيين وراح ضحيتها قرابة الألف جندي كما بلغ عدد الجرحى والمرضى 2300.
وفي حين كان الموت يحوم حول معسكر الفرنسيين، تلقى الجزار مساعدات إنجليزية ساهمت في استمرار صمود مدينته.
أغلق الجزار الستارة وعاد إلى قاعة قلعته لمناقشة الوضع مع أعيان المدينة والقادة العسكريين، كان هناك شبه يقين لديه ولدى المجتمعين أن الحصار لن يطول وأن نابليون منسحب لا محالة.
وهو ما تحقق بالفعل في مايو 1799، حين انسحب نابليون بجيش أنهكته الحرب وهده التعب وكاد أن يفنيه المرض، وما هي إلا سنتين إلا وانسحب جيشه من مصر أيضا كاتبا نهاية مغامرته في الشرق.
وظلت عكا نقطة أليمة في حياته، عبر عنها بقوله:
«لقد أنستني عكا عظمتي، لو سقطت عكا لغيرت وجه العالم، فقد كان حظ الشرق محصورا في هذه المدينة الصغيرة… لو لم أقف أمام عكا لاستوليت على الشرق بكامله».