تقديم «أصوات أونلاين»
يعرف القاصي والداني الإمام محمد عبده (1849- 1905 م) مجددا إصلاحيا للفكر الإسلامي خلال فترة تأسيس الوعى المصري الحديث ما بين ثورة عرابي 1879م وثورة 1919.
في هذا الملف، بما يضمه من مقالات مهمة لمجموعة من الكتاب والباحثين، محاولة للفت الأنظار لبعض الزوايا الجديدة والمختلفة في سيرة ومسيرة هذه القامة الفكرية والدينية الكبيرة، التي أثّرت بشكل كبير في تشكيل وعى ووجدان المصريين مقارنة بأى شخصية فكرية أو سياسية أخرى في زمنه.
دون سابق تخطيط أو تعمد فإن ثمة خيطا غير مرئي يجمع بين مقالات الملف التي سبق نشرها متواترة على موقع «أصوات أونلاين»، هذا الخيط هو البحث عما يمكن أن يكون له دلالة معاصرة اليوم في سيرة الإمام محمد عبده. وبشكل أوضح تبدو المقالات وكأن كتابها يعبرون – من خلال استعادة آراء الإمام المجدد ومواقفه – عن شعور عميق بالإحباط والدهشة من حالة التراجع والتردي والجمود والكسل التي وصلت إليها مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة، في رؤيتها لمشكلاتها على ضوء فهم دينها ونصوصه.
يباغتنا المقال الأول في الملف وهو للكاتب محمد السيد الطناوي بعبارات صادمة عن الإمام في سنوات طفولته من قبيل.. «قضى الفتى محمد عبده سنة ونصفها يتلقى دروس التجويد لا يفهم منها شيئا، فهرب إلى أخواله مدة ثلاثة أشهر».. «درس محمد عبده ثلاث سنوات بالأزهر لم يفد منها الكثير، فانقطع عن الدراسة وانعزل عن الناس وراض نفسه على طريقة السادة الصوفية، وإن ظلت روحه تواقة إلى علم لم تعرفه أروقة الجامع الشريف» .. وهو حال يثير التساؤل، خاصة إذا ما كان يتعلق بطفل وافد من بيئة ريفية ذات ثقافة دينية يحظى فيها من يسلكون طريق تحصيل العلم الديني من الكُتّاب إلى الأزهر بمكانة اجتماعية رفيعة في تلك المجتمعات المحلية، وبشكل أخص إذا ما تعلق بطفل غير عادي، طفل سيشهد له الجميع بعد سنوات قليلة بالذكاء والنبوغ.. هل يمكن أن يكون هذا الذكاء وذاك النبوغ هما ذاتهما سبب الأزمة التي عانى منها الطفل محمد عبده في كتاب القرية ثم في المعهد الأحمدي بطنطا التابع لمؤسسة الأزهر؟
في مقالات ثلاثة يحاول الكاتب صلاح الدين حسن العثور على إجابات لتلك التساؤلات على لسان الإمام محمد عبده نفسه كما رواها في مذكراته. كتب الإمام: «وقضيت سنة ونصفًا لا أفهم شيئا لرداءة طريقة التعليم، فإن المدرسين كانوا يفاجئوننا باصطلاحات نحوية أو فقهية لا نفهمها، ولا عناية لهم بتفهيم معانيها لمن لم يعرفها، فأدركني اليأس من النجاح وهربت من الدروس ويعلق صلاح الدين حسن في مقاله قائلا: «كاشف الفتى نفسه.. إن الفهم مقدم على الحفظ والتقليد.. نمت هذه القيمة في عقله فباتت قضيته الكبرى الفهم والتفكير والابداع.. عند هذه اللحظة انقلبت حياة محمد عبده».
أما الملاحظة الثانية التي ترصدها مقالات حسن عن مذكرات الإمام فتتعلق بدرس التركيز على الثوابت العامة الكبرى التي تجمع المسلمين، دون التوقف عند الخلافات الثانوية التي تفرق وتكفر وقد تبرر القتل. يقول حسن: «.. شعر عندها بأنه يجب عليه سؤال شيخه أي طريقة يسلك حتى يتبعها، إلا أن الشيخ درويش أجابه قائلا: طريقتنا الإسلام فقال: أليس كل هؤلاء الناس بمسلمين؟ أجاب: لو كانوا مسلمين لما رأيتهم يتنازعون على التافه من الأمر».
نقطة ثالثة مهمة تتعلق بخطورة الانغلاق عن المجتمع ومشكلات الواقع وعن العالم وعلومه المعاصرة وأهمية العودة إلى العقل الموسوعي الذي كان يسم علماء المسلمين الأوائل، وهى ذات الرؤية التي صاحب مشروع ثورة يوليو فيما بعد لتطوير التعليم في جامعة الأزهر من خلال الجمع بين العلوم الدينية والعلوم الدنيوية والانسانية معا.. «لم يأخذ الشيخ درويش بيده ليقذفه في أتون العلم الأزهري والمتون، بل قام بفتح ثغرة في عقله لتتسلل منها العلوم الإنسانية الأخرى، المنطق والفلسفة والهندسة، بهذا تكتمل المعرفة» يقول حسن في مقالاته عن مذكرات الإمام.
وعلى الرغم من المكانة العلمية التي حظى بها الإمام محمد عبده وعلى الرغم من كونه مفتيا للديار المصرية آنذاك، بدت له مهمة إصلاح الأزهر ونظام التعليم فيه صعبة متعثرة، لدرجة أنه يبوح لصديقه جمال الدين الأفغاني قائلا: «إذا يئست من إصلاح الأزهر فإنني أنتقي عشرة من طلبة العلم، وأجعل لهم مكانا عندي في عين شمس أربيهم فيها تربية صوفية مع إكمال تعليمهم». وهنا تكشف تجربة محمد عبده عن تلك الصعوبة الاستثنائية التي عادة ما تواجه محاولات إصلاح المؤسسات الدينية الكبيرة العريقة وتطويرها، كالأزهر في مصر، مقارنة بمؤسسات دينية أقل رسوخا في مجتمعات إسلامية – أو غير إسلامية – أخرى.
جمع الإمام إذن بين السمت الصوفي السمح على المستوى الروحي الشخصي وبين المنهج العقلي في تناول قضايا الفكر والمجتمع، وهو المنهج الذي انعكس في فهمه للدين مطبقا علي تفسيراته للقرآن وفهمه للسنة الشريفة، وفي العديد من فتاواه الاجتماعية أيضا، وهو الجانب الذي ركزت عليه مقالات الكاتب هيثم أبوزيد الذي اختار تفسيره لسورة «العصر» كنموذج على المنهج العقلي الذي تبناه الإمام في فهم آيات القرآن وتفسيرها، قبل أن يخصص مقالات ثلاثة لإظهار مدى واقعية الإمام وجرأته مع الالتزام بأصول الفتوى، ليصل إلى اجتهادات «ربما يرفضها تيار الجمود والتقليد في عصرنا اليوم، رغم استساغة النخب والمجتمع لها من نحو قرن وربع القرن».
رفض محمد عبده تعريف «الزواج» السائد في كتب الفقه (عقد يملك به الرجل بُضع المرأة)، معتبرا أن هذا التعريف يقصر العلاقة بين الزوجين على الشهوة الجنسية، مع تجاهل تام للواجبات الأدبية، والتراحم والمودة التي هي أساس بناء البيت والأسرة.. ويقول الإمام: «قد رأيت في القرآن الشريف كلاما ينطبق على الزواج، ويصح أن يكون تعريفا له، ولا أعلم أن شريعة من الشرائع وصلت أقصى درجات التمدن جاءت بأحسن منه»
شروط الإصلاح وصفات المصلح
ويتجاوز الشيخ محمد عبده منطقة التأسيس النظري إلى وضع مقترح قانوني ينظم الطلاق، بداية من وجوب أن يكون الطلاق أمام القاضي الشرعي أو المأذون وعليهما أن يرشدا الزوج إلى ما ورد في الكتاب والسنة مما يدل على أن الطلاق ممقوت عند الله، وإذا أصر الزوج بعد مضي مدة الأسبوع على الطلاق فعلى القاضي أو المأذون أن يبعث حكما من أهل الزوج وحكما من أهل الزوجه ليصلحا بينهما. وفي النهاية لا يصح الطلاق إلا إذا وقع أمام القاضي أو المأذون، وبحضور شاهدين، ولا يقبل إثباته إلا بوثيقة رسمية.
والآن وفى وقتنا الراهن وفي مناخ تشهد فيه الساحة الاجتماعية المصرية والإسلامية عموما حالة من تنازع الشرعيات الدينية فيما بين المؤسسات الدينية العريقة – كالأزهر في مصر – وبين دعاة على منصات الإعلام التقليدي والإلكتروني ومفتين لجماعات متطرفة، تتناول مقالات د. كمال حبيب النموذج الذي قدمه الإمام محمد عبده لما ينبغي أن يكون عليه الإصلاح وشروط المصلح، حيث يرى أن محمد عبده قد أسس لعملية الإصلاح والتجديد الديني من منطلق تخصصه ووظيفته باعتباره عالما مجددا في الدين، أي أن نظره في التجديد منضبط بتخصصه وعلمه، وهو في ذلك يمثل استمرارا لما بدأه علماء قبله استندوا إلى نفس المؤسسة وهي الأزهر، وهو تناول يمكن أن يثير الكثير من النقاش الموضوعي المفيد حول شروط الإصلاح وسمات المصلح الديني في عصرنا.
من ناحية أخرى يلاحظ حبيب أن «جهود الإمام الإصلاحية والتجديدية كانت شائعة عامة في الأمة المصرية كلها، ويستفيد منها المسلمون في كل أنحاء العالم، ولم تكن قاصرة علي جماعة محددة أو تنظيم معين.. وأن مشربه التجديدي كان واسعا نهلت منه كل التيارات التجديدية على السواء، وهو من بذر بذور بناء العقول التجديدية للمدرسة المصرية في الأزهر الشريف رغم الصعوبات التي واجهتها، فكل عقل تجديدي في الأزهر ينتمي لمدرسة الرجل ومنهجه، كما نهلت منه التيارات السياسية التي قادت الحركة الوطنية بكل تنويعاتها خاصة مدرسة الوفد التي قادها سعد زغلول، الذي كان تلميذا للإمام».
إصلاحي أم ثائر؟
وفي مقاله «الإمام محمد عبده.. إصلاحي أم ثائر؟» يفند الكاتب عمرو عبد المطلب الاتهامات التي وُجهت إلى الشيخ محمد عبده حول «تنكره، عقب عودته من المنفى، لدوره في الثورة العرابية» مشككا في وجاهة السؤال من الأساس، إذ يطرح في المقابل تساؤلا أكثر دقة: «هل كان محمد عبده ثائراً كالعرابيين، ينشد تغيير النظام القائم أم كان مختلفاً معهم منذ البداية وجاء الاحتلال البريطاني للبلاد ليبرز هذا الاختلاف؟».
لكن المقال يتجاوز هذه الواقعة التاريخية المحدودة ليتناول رؤية الإمام محمد عبده للجماهير على وجه العموم «ففي حين كان الأفغاني يرى أن الجماهير مهيأة للثورة كان عبده يرى أنها أبعد ما تكون عن ذلك ويصفهم في مقال له في جريدة الوقائع المصرية بأنهم «لا يمنعون تقدماً ولا يحجزون تمدناً،،». وتكمن أهمية هذا الرأى في كونه تعبيرا عن اتجاه سائد لدى قطاع عريض من النخبة المصرية حتى وقتنا هذا، على الرغم من ثبوت خطأ هذا التعميم في ضوء الوقائع والدراسات التي سجلت ورصدت تكرار ثورات جموع المصريين عبر التاريخ، إضافة لبروز عديد المؤشرات في السنوات الأخيرة على حدوث تطور في الوعى الجماعي للجماهير من روافد اجتماعية وثقافية متنوعة أعادت مصطلحات «الشارع» و«الميدان» كقوة فاعلة في المعادلة السياسية وهو تطور ينسب للجماهير العربية والإسلامية في العقود الأخيرة.
«أصوات أونلاين»
محتويات الملف
محمد عبده الأستاذ المعلم «محمد السيد الطناوي»
مذكرات الإمام صفحات من مسيرة التنوير (1) «صلاح الدين حسن»
مذكرات الإمام صفحات من مسيرة التنوير (2) «صلاح الدين حسن»
مذكرات الإمام .. صفحات من مسيرة التنوير (3) «صلاح الدين حسن»
محمد عبده و(سورة العصر ) «هيثم أبو زيد»
فتاوى الإمام الاجتماعية… للمرأة في انتخاب زوجها ما للرجل (1) «هيثم أبو زيد»
فتاوى الإمام الاجتماعية… للمرأة في انتخاب زوجها ما للرجل (2) «هيثم أبو زيد»
الفتاوى الاجتماعية.. للمرأة في انتخاب زوجها ما للرجل (3)
محمد عبده والحركات الإصلاحية(1) «كمال حبيب»
محمد عبده والحركات الإصلاحية (2)
الإمام محمد عبده.. إصلاحي أم ثائر؟ «عمرو عبد المطلب»