زار أبو الحسن الشاذلى مصر للمرة الأولى، لكنه ما لبث أن عاد إلى بلده تونس ربما وفاء لعهد قطعه على نفسه، وهو لقاء الحاكم الذي خشي ويلات مجافاته، غير أن هناك هدفا أهم حدثنا عنه بنفسه حين قال (ما ردني إلى تونس إلا هذا الشاب).. ففي تلك الأثناء قدم العابد الشاب أبو العباس المرسي من مرسية ببلاد المغرب إلى أرض تونس للمرة الأولى ليلتقي فيها شيخه الشاذلى، وهو وصال بين الشيخ وتلميذه لن يقطعه ويوقف مداده سوى وفاة الشيخ أبو الحسن الشاذلي، ليحل أبو العباس مكانه ويرث قطبانية الزمن.
إلى.. مصر وعلمائها
بعد عودته مكث أبو الحسن ببلاد تونس يربي المريدين ويؤدبهم لبعض دون أن يلتفت لمؤامرات ودسائس ابن البراء الذي زاد لهيب غيظه وحنقه على الشاذلي دون أن ينال من رسالته. قضى أبو الحسن في تونس بعض الوقت إلى أن أتاه الأمر بالرحيل إلى الديار المصرية التي سيشغل بها ما تركه القطب أبو الحجاج الأقصري من فراغ بعد وفاته، (يا علي انتقل إلى الديار المصرية تربي فيها أربعين صدِّيقا)– ذلك ما قاله الرسول الكريم للشاذلى فى الرؤية كما ذكرنا فى المقال السابق.
سافر أبو الحسن وفي رفقته الولي أبو علي بن السماط، والشيخ ماضي أبو العزائم وأبو العباس المرسي، وأخوه الأصغر عبدالله، إلى جانب جمع كبير ممن سيكون لهم أكبر الأثر في الحياة الدينية في مصر بعد ذلك.
وفي عام 615 من الهجرة كان أبو الحسن الشاذلي ورفاقه يدلفون إلى الدار التي أوقفها لهم سلطان مصر في الإسكندرية، وقد تلقى البشارة (يا علي ذهبت أيام المحن، وأقبلت أيام المنن، عسرا بيسر، اقتداء بجدك صلى الله عليه وسلم)
استقبل عوام المصريين الشيخ الشاذلي ورفاقه استقبالا حافلا، وقد أكرموا وفادته، والتفوا حوله متنسمين روائح الصحبة الجليلة، و متطلعين لبركة الدعاء المستجاب، أما عن خواص علماء المحروسة، فبحسب ما نقل بن عياد الشافعي في (المفاخر العلية في المآثر الشاذلية) فإنه: «لما قدم (يقصد الشاذلى) من المغرب الأقصى إلى مصر صار يدعو الخلق إلى الله تعالى، فتصاغر وخضع لدعوته أهل المشرق والمغرب قاطبة، وكان يحضر مجلسه أكابر العلماء من أهل عصره مثل سيدي الشيخ العز بن عبدالسلام، والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، والشيخ عبدالعظيم المنذري، وابن الصلاح، وابن الحاجب، والشيخ جمال الدين عصفور..، وأن الشيخ الإمام قاضي القضاء بدر الدين بن جماعة الولي ابن الولي ابن الولي رحمهم الله كان يرى أنه في بركة الشيخ أبى الحسن في مصر وكان يفتخر بصحبته»
عاش الشاذلي في مصر يشاطر الناس همومهم وأفراحهم ويسعى لقضاء حوائجهم لا يرد سائلا، ولا يخيب ظن راج، وكان دائم التردد على ولاة الأمر في قضاء حوائج الناس لا حاجته، حتى قال في ذلك الفقيه ابن دقيق العيد (جهل وٌلاة الأمر قدر الشيخ أبى الحسن الشاذلي رضي الله عنه لكثرة تردده في الشفاعات).
كما عايش الشاذلي وشارك المصريين في كفاحهم ونضالهم ضد الحملات الصليبية. فعندما جرد ملك فرنسا لويس التاسع حملته على المنصورة بعدما احتل مدينة دمياط، كان الشاذلي واحدا من أولئك الأبطال الشعبيين والزعماء الروحيين الذين بثوا روح المقاومة والصمود لدى المصريين، وقد دعا مريديه وأتباعه ومحبيه للمشاركة في جهاد الصليبيين على الرغم من أنه كان قد جاوز السبعين من عمره، وأصابه العمى، إلا أن وجود مثله بين صفوف المقاتلين كان يدفعهم نحو النصر دفعا، وكما يقول الشيخ عبدالحليم محمود: «كان مجرد سيرهم في الحواري والشوارع. تذكيرا بالنصر أو الجنة، وكان حفزا للهمم، وتثبيتا للإيمان، وتأكيدا لثورة الجهاد الإسلامية»
الشاذلى.. ضد الحملة الصليبية
كان الشيخ يستثير همة وشجاعة مريديه في الدفاع عن مصر ومواجهة الغزاة حتى روى البعض عنه قوله لأتباعه: «من يبايعني على الشهادة» وهو دور شاركه فيه العديد من الزعامات الدينية الشعبية في ذلك الحين، ورغم هذا الإنشغال بدور كبير فى الجهاد ضد الحملة الصليبية فإن الشيخ أبا الحسن كثيرا ما قضى الليل، ومعه رفاقه من أكابر العلماء من محدثين وفقهاء يتباحثون فرعا من فروع المعرفة. فقد روى ابن عطاء الله السكندري عن مكين الدين الأسمر ضمن ما رواه من أحداث أثناء معركة المنصورة قال: «حضرت بالمنصورة في خيمة فيها الشيخ الإمام مفتي الأنام عز الدين بن عبدالسلام، والشيخ مجد الدين بن تقي الدين علي بن وهب القشيري المدرس، والشيخ محي الدين بن سراقة، والشيخ مجد الدين الأخميمي، والشيخ أبو الحسن الشاذلي، رضي الله عنهم، ورسالة القشيري تُقرأ عليهم وهم يتكلمون، والشيخ أبو الحسن صامت إلى أن فرغ كلامهم فقالوا: نريد أن نسمع منك
قال: أنتم سادات الوقت وكبراؤه وقد تكلمتم
قالوا لابد أن نسمع منك
قال: فسكت الشيخ ثم تكلم بالأسرار العجيبة والعلوم الجليلة.
فقام الشيخ عز الدين وخرج من صدر الخيمة وفارق موضعه وقال
(اسمعوا هذا الكلام الغريب القريب العهد من الله)
تكاد تكون حالة الوفاق والتلاقي الروحي التي توطدت صلاتها ما بين الشيخ أبى الحسن الشاذلي، والفقيه العز بن عبدالسلام واحدة من أهم وقائع الوفاق التي جمعت بين فقيه مرموق ذائع الصيت، وولي صوفي يتحدث في علوم الحقائق و المعارف الإلهية. وقد كانت عبارة العز بن عبدالسلام السابقة كاشفة لخصوصية التجربة الصوفية، ولنوعية المعارف المترتبة على خوض تجربتها باعتبارها (قريبة العهد من الله) في إشارة واضحة إلى إمكانية التلقي المباشر.
وقد استمرت حالة الزخم الإيماني والتأثير الروحي للشيخ أبى الحسن الشاذلي وجماعة مريديه وعلى رأسهم وريثه وخليفته أبو العباس المرسي، إلى أن قرر الخروج في رحلة للحج إلى الأرض المقدسة، وكان ذلك في شوال من عام 656 ه، وقد شرع في رحلته عن طريق النيل من شمال مصر إلى جنوبها فلما وصل إلى حميثرة من صحراء عيذاب، كان يعلم أنه قد آن أوان الرحيل، وهو الذي اعتبر الثبات وعدم الخوف من الموت واحدة من دلالات الولاية، فجلس إلى أصحابه يوصيهم بوصاياه الأخيره، ثم خلا بأبى العباس المرسي وحده، وأوصاه بأشياء واختصه بما خصه الله به من بركات،ثم وجه الحديث لأصحابه قائلا (إذا أنا مت فعليكم بأبي العباس المرسي، فإنه الخليفة من بعدي، وسيكون له بينكم مقام عظيم، وهو باب من أبواب الله سبحانه وتعالى) وبات في تلك الليلة يناجي ربه (إلهي..إلهي) حتى سكن، فظنوه نائما فلما أرادوا تحريكه وجدوه ميتا.
توفي أبو الحسن الشاذلي سنة ستٍّ وخمسين وست مئة، وهو قاصد الحجَّ في شهر رمضان، ودفن بصحراء عَيْذاب بحميثرة من الصَّعيد.لكن مدرسته في التصوف استمرت بعد موته وامتدت كواحدة من أهم مدارس التصوف الإسلامي –وربما تكون أهمها على الإطلاق- متمثلة في سلسلة من المشايخ والأولياء الذين سيأتي الحديث عنهم تباعا.
*مراجع
1- عبدالحليم محمود.. المدرسة الشاذلية الحديثة وإمامها أبو الحسن الشاذلي.ص 45
2- دٌرة الأسرار وتحفة الأبرار 31
3- نفس المرجع السابق 33
4- المدرسة الشاذلية ص47
5- لطائف المنن ص76