في فترة مبكرة من حياتي، قرأت كتاب «هؤلاء علموني» للأستاذ سلامة موسى، وأعجبني الكتاب للغاية وأدهشني أيضا؛ فهو خلو من الشخصيات التي دائما ما يعتز الناس بأنها علمتهم ،وبأنهم اقتدوا بها في حيواتهم، كالساسة ورجال الدين والأبطال التاريخيين، بل الأسماء التي في الكتاب لفلاسفة ومفكرين وعلماء وروائيين وأصحاب دعوات تحررية من الأغلال الاقتصادية والدينية، من أمثال فولتير وجيته ودارون وفيسمان وهنريك أبسن ونيتشه وإرنست رينان ودستوفسكي وثورو وتولستوي وفرويد وإليوت سميث وهافلوك إليس وجوركي وشو وغاندي وويلز وشفايتزر وجون ديوي وجان بول سارتر، هكذا جملة واحدة.
شعرت بالفائدة حينها، وقررت السفر الفوري إلى «سلامة موسى» ليقيني أنني سأجني فوائد شتى، وقد كان.. اقتنيت معظم كتبه، وقرأتها في تلك الفترة المبكرة، فحصدت من الفوائد ما حصدت، ومع النضج ومطالعتها مجددا تأكدت لي قيمتها، مع شيء قليل أو كثير من نقد بدا لي على بعض الأفكار، ومن تحفظ كلي على بعضها الآخر، مع التلقي الهادئ الحذر المطلوب الذي يجنب القارئ الافتتان المطلق بما يطالعه، ومع ذلك كله بقي الرجل قديرا – في عيني – وسابقا وقته وجوهريا في سياق الانتقال إلى أطوار التنوير والتثوير، ومهضوم الحق أيضا على الرغم من جلال شأنه كإصلاحي عتيد.
كتبه: مقدمة السوبر مان، الاشتراكية، أشهر الخطب ومشاهير الخطباء، الحب في التاريخ، أحلام الفلاسفة، أسرار النفس، حرية الفكر وأبطالها في التاريخ، العقل الباطن أو مكنونات النفس، نظرية التطور وأصل الإنسان، اليوم والغد، السيكلوجية في حياتنا اليومية، غاندي والحركة الهندية، ما هي النهضة، النهضة الأوروبية، الشخصية الناجعة، حياتنا بعد الخمسين، البلاغة العصرية واللغة العربية، التثقيف الذاتي، تربية سلامة موسى، عقلي وعقلك، فن الحب والحياة، مصر أصل الحضارة، محاولات، هؤلاء علموني، كتاب الثورات، الأدب للشعب، الأدب والحياة، دراسات سيكلوجية، المرأة ليست لعبة الرجل، أحاديث إلى الشباب، برناردو شو، مشاعل الطريق للشباب، مقالات ممنوعة، قصص مختلفة، تاريخ الفنون وأشهر الصور، الإنسان قمة التطور، افتحوا لها الباب، الصحافة حرفة ورسالة، مختارات سلامة موسى، زوجي تزوج، المدينة الخاطئة، جيوبنا وجيوب الأجانب، المدينة الخاطئة.
هكذا بالترتيب وفي شتى مجالات الكتابة تقريبا، من عام 1910 زمن صدور كتابه مقدمة السوبر مان إلى عام 1993 زمن صدور كتابه المدينة الخاطئة، إذ يظل كتابه «جيوبنا وجيوب الأجانب» مجهول التاريخ وإن أتى في ذيل الترتيب بأغلبية القوائم، لكن توجد طبعة جديدة له حملت رقم إيداع في عام 2013 أي بعد رحيل كاتبه بسنوات طوال.
المتوجه للغرب
ولد «سلامة موسى» بمحافظة الشرقية لأبوين مسيحيين في عام 1887 (تحديدا في قرية بهنباي المجاورة لمدينة الزقازيق)، وفي التاسعة عشرة من عمره غادر مصر إلى فرنسا لأسباب عائلية، وهي الرحلة التي صنعت عقله وشكلت وجدانه؛ فهناك اطلع على تجليات الفكر والفلسفة في الغرب كما اطلع على آخر ما وصلت إليه علوم المصريات، ومن فرنسا إلى إنجلترا، حيث التقى بجورج برنارد شو وتأثر بالنظرية الدارونية، وفي إنجلترا انضم إلى جمعية العقليين والجمعية الفابية. عاد إلى مصر حاملا معارفه من الغرب معه، وطرح كتابه الأول «مقدمة السوبر مان» الذي دعا فيه بلده إلى قطع كل صلاتها بالشرق والتوجه إلى الغرب بقوة.
طغت العقلانية على تفكير «سلامة موسى» وغلبته النزعة الاشتراكية في جملة رؤاه وتصوراته؛ فروج لها وكان رائدها الفعلي في مصر، وكان كذلك من أوائل من دعوا إلى اعتماد الحديث والمخاطبات بالعامية المصرية لتأثره بمجموعة من المثقفين المصريين التقدميين الذين انتمى إليهم، ومن بينهم أحمد لطفي السيد الذي سبقه بالدعوة إلى تبسيط اللغة العربية وتيسير قواعدها والاعتراف بالعامية السلسة.. وكان الرجل من أنصار الفرعونية كقاعدة كبرى للمصريين بعيدا عن الروابط الشرقية والدينية، ودعا إلى استيعاب اللغة العربية للعلوم والآداب التي لم تعبر عنها قط لعدم دراية العرب بها، وقد قيل إنه تأثر في دعوته تلك بالمستشرق وليم ويلكوكس.
أحمد لطفي السيد
أنصار.. وأعداء
كان «سلامة موسى» بمثابة مؤسسة ثقافية تسير على قدمين، كان مثقفا موسوعيا بكل معنى الكلمة، تشغله فكرة تغيير المجتمع إلى حد الجنون، يرى التحرر من الفقر الاقتصادي والقهر الديني خطوة كبرى في طريق الإصلاح، وكان منحازا للطبقات الكادحة، ويراها ألعوبة الحاكمين المتحكمين.. تتلمذ على يديه كثيرون صاروا عباقرة بعد ذلك، ويكفي أن النابغة «نجيب محفوظ» كان من بين هؤلاء، فقد قال بنفسه: أنا ممتن للأستاذ «سلامة موسى»؛ فقد كنت أعرض ما أكتبه عليه فيشيد بموهبتي، لكن ينصحني بالتروي في كتابة المقالات إذ يرى مقالاتي سيئة.
من الطبيعي، والرجل كان يحارب الحرمان الإنساني المذل والتغييب الديني المهين، أن يكون له أعداء كثيرون، من رجال الدين والساسة والاقتصاديين والكتاب المحافظين والجماهير، ومن الطبيعي أن يجد جموحه الفكري أشياعا أيضا ممن تستهويهم طريقته وتصادف هوى في أنفسهم.
وكان الدكتور غالي شكري، مثلا، واحدا من هؤلاء الأشياع، يرى «سلامة موسى» مفكرا مهما بنطاق تحرير الطبقات المطحونة من العبوديتين: عبودية الوهم التي منبعها – فى رأيه -الدين، ومن ثم عبودية الاستغلال الطبقي.. بينما كانت هناك مجموعة أكبر بين الأعداء، أعداء فكرة الرجل لا الرجل نفسه، وإن كان العداء للفكرة كثيرا ما يمتد إلى شخص المفكر في بلادنا للأسف، ومن بين هؤلاء الأستاذان الكبيران «عباس العقاد» ،الذي كان يرى «سلامة موسى» ليس عربيا، و«مصطفى صادق الرافعي» الذي كان يصفه بالمعادي للإسلام.
عباس العقاد، مصطفى صادق الرافعي
رحل «سلامة موسى» عن دنيانا في بدايات أغسطس من عام 1958 وفي نفسه من المجتمع شيء مؤلم لا ريب، أما المجتمع نفسه فما زال بحاجة إليه، على الرغم من المناكفة والخصومة والإختلاف.
اقرأ أيضا:
العقاد على «سيخ» الرافعي via @aswatonline https://t.co/mcbkUNPBTy
— أصوات Aswat (@aswatonline) October 29, 2019