«شارع عزالدين ذوالفقار هو الرومانسية». بهذه الكلمات وصف المخرج حسن الإمام، المخرج الراحل «عز الدين ذو الفقار» الذي لقب بـ «شاعر السينما وفارس الرومانسية»، و الذي خلع بدلته العسكرية ليدخل عالم الفن وليصبح أحد مشاهيره.
حكاية سينمائية
ولد عز الدين ذو الفقار في حي العباسية بالقاهرة في 28 أكتوبر 1919 وتخرج في الكلية الحربية ليصبح ضابطا بالقوات المسلحة، لكن عشقه للفن والسينما دفعه للاستقالة من القوات المسلحة وهو برتبة يوزباشي (نقيب) في سلاح المدفعية.
واللافت أنه لم يكن الأول أو الأخير بين أفراد أسرته الذي يترك الجيش ليعمل في الفن، فهو ينتمي إلى عائلة أنجبت ضباطا اتجهوا إلى الفن، فشقيقه الأكبر «محمود ذو الفقار» ترك الجيش ليشتغل بالسينما، ولحق بهما شقيقه الأصغر «صلاح ذو الفقار، الذي كان ضابط شرطة، ولكنه تركها من أجل عشقه للفن أيضا.
فى بدايات مسيرته السينمائية عمل ذو الفقار مساعدًا للمخرج محمد عبدالجواد، في بعض الأفلام منها «الدنيا بخير» و«أزهار وأشواك»، ثم اتجه بعد ذلك إلى العمل كمخرج وكاتب سيناريو، وأنتج وأخرج أول أفلامه (أسير الظلام) عام 1947 الذي اشترك في كتابة حواره مع الشاعر أحمد رامى، وقام ببطولته «زوزو شكيب وسراج منير ومحمود المليجي» وهو الفيلم الذي أعاد تقديمه مرة أخرى واختتم به حياته الفنية تحت اسم «الشموع السوداء» بطولة صالح سليم ونجاة عام 1962.
وفي العام التالي لانتاج فيلم «أسير الظلام» أي في عام 1948 قام عز الدين ذو الفقار باخراج وبطولة فيلم «خلود» أمام سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، والتي وقع في غرامها لتنتهي قصة حبهما بالزواج. لتتوالى أعماله السينمائية كمخرج ثم أصبح واحدا من أبرز مخرجي جيله يتصدر اسمه تترات السينما، كما برع في كتابة السيناريو خاصة تلك السيناريوهات المأخوذ ة عن قصص عالمية حيث استطاع أن يصنع فى أعماله تلك الحبكة التى تناسب مجتمعاتنا الشرقية.
وعبر مسيرته السينمائية القصيرة، أخرج ذو الفقار عددا من الافلام المهمة فى تاريخ السينما المصرية مثل «شارع الحب» 1958، «رد قلبي» 1957، «إني راحلة» 1955، «موعد مع السعادة» 1954، و«البنات والصيف» 1960 وغيرها من الأفلام، التى استطاع من خلالها ان يجمع بين المستوى الفني الجيد والقدرة على تحقيق النجاح الجماهيري، وكان أيضًا من أعلى المخرجين أجرًا في جيله.
بور سعيد
لم يحدث في تاريخ السينما العالمية أو العربية، أن عرض فيلم روائي عن إحدى الحروب القصيرة التي شهدها العالم الحديث، بعد نهاية هذه الحرب بعدة أشهر فقط غير هذا الفيلم.. فيلم «بورسعيد – المدينة الباسلة» لـ عز الدين ذو الفقار الذي عرض في 8 يوليو عام1957 ، أي بعد جلاء العدوان الثلاثي على مصر في 23 ديسمبر 1956 بأقل من سبعة أشهر. وقد صورت مشاهد الفيلم الخارجية في أماكنها الطبيعية في مدينة بورسعيد الباسلة، سواء في وقت العدوان أو عقب الانسحاب كما كانت مشاهده الداخلية في ستوديو مصر، وقد تم هذا الفيلم بإشراف وربما بتكليف مباشر من الزعيم الراحل «جمال عبد الناصر»، حيث التقى عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وأنور السادات مع النجم فريد شوقي وتم الاتفاق على صناعة الفيلم الذى كتبه وقام ببطولته فريد شوقى.
نهر الحب
«عند بدء الخليقة أطلت إيزيس من عليائها على الأرض.. فإذا بها كقلب لم تمسه يد الحب.. جدباء موحشة يخيم عليها الموت لا تعطي ثمرًا ولا تمنح حياة.. كسر الحزن قلب إيزيس فبكت وشاءت العناية الإلهية أن تتحول دموعها إلى أمطار.. أمطار غزيرة تشق وسط الأرض مجرى لنهر عظيم..» بتلك الكلمات البديعة جاء تتر البداية لفيلم «نهر الحب»، وهو الفيلم المأخوذ عن قصة «آنا كارنينا» للكاتب العالمي «ليو تولستوي»، والذي أخرجه عز الدين ذو الفقار عام 1960، وقامت ببطولته فاتن حمامة وعمر الشريف وزكي رستم. وتعتمد قصة الفيلم علي فكرة الحب غير المشروع.. لكن «ذو الفقار» بحرفية شديدة أن يقلب المنطق الأخلاقي للفيلم ويجعل الجمهور يتعاطف مع الزوجة الخائنة، وذلك عن طريق المبالغة في تصوير برودة مشاعر الزوج «زكي رستم» وقسوته في معاملة زوجته «فاتن حمامة» التي وقعت في حب رجل آخر، وتركت من أجله زوجها وطفلها الوحيد. وهو ما عرّض الفيلم لبعض الانتقادات، ومنها أنه يشجع على الخيانة، وأنه لا يعالج أي قضية اجتماعية، في حين تجاهل النقاد وجهة النظر التى يطرحها الفيلم وهي قضية عدم قدرة المرأة على الحصول على الطلاق إذا أصبحت حياتها مع زوجها مستحيلة، وهو ما تم حله بشكل جزئي الآن بما يسمى «الخلع».
الشموع السوداء
هذا الفيلم الذي أعاد ذو الفقار من خلاله إنتاج فيلمه الأول «أسير الظلام» ولكن بأبطال آخرين، واستطاع ذو الفقار (المؤلف والمخرج) في تلك النسخة أن ينسج خيوط هذه اللوحة الفنية المتكاملة، بسيناريو وحوار للموهوب «ضياء الدين بيبرس» الذي جعل كل جملة في الفيلم تعطي معنى وثقلا لكل مشهد. وكان الفيلم من بطولة صالح سليم، نجاة الصغيرة، أمينة رزق، فؤاد المهندس ولا ننسى رائعة كامل الشناوي ومحمد عبد الوهاب «لا تكذبي» بصوت الراحلة «نجاة الصغيرة». كل تلك العناصر المتميزة جعلت من هذا الفيلم واحدا من أجمل روائع السينما المصرية.
ذو الفقار وسيدة الشاشة
الرومانسية الطاغية عند عز الدين ذو الفقار جعلته ينجذب لفاتن حمامة، فتاة الأحلام لتكون شريكته في الحياة وفي العمل، وأنتجا معًا عددا من الأفلام التي خلّدتها السينما، وقد أسرته فاتن بموهبتها فصنعا تاريخا فنيا كبيرا. كان اللقاء الأول بينهما حين جسّد أمامها دور حبيبها «محمود» فى فيلم «خلود»، كما أشرنا. في هذا الفيلم كان ذو الفقار يحفظ الحوار عن ظهر قلب ليؤدي دوره على أكمل وجه، لكنه كان عندما يقف أمام النجمة التي وقع في حبها، يتلعثم في المشاهد التي أتقن حفظها، ولم يكن يعلم أن تلك البطولة الأولى في فيلم «خلود»، الذي لم يحقق نجاحًا يذكر، ستكون بداية قصة حب جميلة مع «ملهمته» كما كان يطلق عليها.
وبعد تجربته الوحيدة في عالم التمثيل والتي كان من ثمارها زواجه من سيدة الشاشة العربية، حيث أنجبا طفلتهما الوحيدة «نادية»، تفرغ عز الدين ذو الفقار للاخراج وكتابة سيناريوهات أفلامه التي كان أولها بعد الزواج مباشرة، فيلم «بين الأطلال» بطولة فاتن حمامة أيضا، والذي كان محطة هامة في حياتهما معًا، وهو عن قصة ليوسف السباعي. وقد اعترفت فاتن حمامة في حوار لها بأنها كانت متخوفة جدا من القيام ببطولة هذا الفيلم، لكنها سرعان ما عدلت عن رأيها ووافقت على تصويره، ليحقق نجاحًا باهرًا عند عرضه للجمهور.
قصة الطلاق
وعن انفصاله عن سيدة الشاشة يقول عز الدين ذو الفقار فى مذكراته: «بدأت الوقيعة بيني وبينها حين أسندت بطولة فيلم إلى فنانة أخرى، وفسرت فاتن عنايتى بالعمل على أنها عناية بالبطلة وانتهينا إلى الطلاق وكان قرارًا سليمًا لم تطلق فيه رصاصة واحدة على سمعة أي طرف منا.. وذهب ما توهمته حبًا وبقي بيني وبين فاتن الشيء الخالد الصداقة.»
تزوج عز الدين ذو الفقار مرة أخرى من الفنانة كوثر شفيق عام 1954، وانجب ابنته دينا، وكوثر شفيق يمكن حصر مشاهدها على أصابع اليد الواحدة لكنها مؤثرة وحاضرة وبقوة، ولعل أبرز تلك المشاهد التي أدتها أمام العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ في فيلم الوسادة الخالية، أثناء أداء العندليب أغنية «تخونوه» وفيه جسدت كوثر دور إحدى فتيات الليل العاملات في أحد الملاهي الليلية التي تقع في حب صلاح (عبد الحليم حافظ)، بمجرد سماعه يغني.
تكريم ورحيل
حاز عز الدين ذو الفقار على العديد من الجوائز والتكريمات كان أهمها «جائزة الصحافة اللبنانية» عن فيلم «موعد مع الحياة»، وجائزة الدولة لأحسن قصة عن فيلم «بورسعيد» عام 1957، جائزة الدولة عن أحسن إخراج وسيناريو وحوار عن فيلم «صراع الأبطال» عام 1963، وجائزة المركز الكاثوليكي المصري للسينما عن فيلم «الوفاء». ليرحل عن عالمنا عام 1963 عن عمر يناهز 44 عام بعد رحلة عطاء قصيرة لكنها كانت بالغة الثراء، تاركا وراءه ثراثا سينمائيا عظيما تنوع ما بين التأليف والإخراج والتمثيل.
الفيديو جراف
نص: بلال مؤمن
تحريك ومونتاج: عبد الله محمد