حالة وجدانية التصقت بآمال الجماهير المعلقة ما بين حب ضائع ولقاء منتظر وشوق لا ينضب، أغانيه شعور إنساني خاص يحلو لأجيال متعاقبة من الشباب العربي أن يلتصق بها ويعايشها ويجد فيها نفسه، من منا لم يمر على بوابة حليم؟ أو يستنشق عبير شوقه، أو يستشعر أنات هجره وحرمانه وفراقه، أغانية طازجة مٌفعمة بالمشاعر لم تفتر مع مرور الزمن، ولا استطاعت تجارب الحب الإنسانية تجاوزها، فحليم باق ما بقي الحب.
تصادف مرور عبدالحليم حافظ على الأغنية العربية مع مرور جيل من الفنانيين المصريين لا يقلون عنه شغفا بالفن والحب والحياة، هل من السهل أن يتكرر لقاء ثلاثي كحليم وصلاح جاهين وكمال الطويل، أما كمال الطويل وصلاح عبدالصبور فقد جمعته بهم الأغنية الأولى التي تقدم بها حليم للإذاعة المصرية “لقاء” عام1951، تلتها روائعه “يا حلو يا أسمر” و “صافيني مرة” عام 1952 من كلمات سمير محجوب وألحان محمد الموجي.
حليم ورفاقه عكست أغانيهم الأولى نبرات الحب والشغف والإقدام على الحياة، شبابهم الفني انطلق مع حيوية جمهورية مصرية وليدة في أعقاب ثورة 1952 أذكت مشاعر الأمل في نفوس الجماهير، وفجرت منابع الفن ومناجم الإبداع. عكست أغانيهم نبرة التفاؤل في روائع غنائية عديدة منها: “ذلك عيد الندى”، “أقبل الصباح”، “مركب الأحلام”، “في سكون الليل”، “فرحتنا يا هنانا”، “العيون بتناجيك”، “غني..غني”، “الليل أنوار وسمر”، “نسيم الفجرية”، “ريح دمعك”،”اصحى وقوم”، “الدنيا كلها”، لكن موجة التفاؤل سرعان ما انحسرت أمام هجمة بلهارسيا شرسة بدأت أعراضها تطارده مع منتصف الخمسينات لتظهر نبرة حزن في أغانية بدت منسجمة مع محن قاسية ألمت بالوطن بدءا من العدوان الثلاثي 1956 وحالة احباط أعقبت نكسة يونيو 1967.
وكما استدعت حالة الإحباط التي رافقت الوطن التحدي والاستنفار للعبور من الهزيمة إلى الانتصار، قفز حليم بأغانيه لينتصر على أحزانه وعذاباته الشخصية، ويدعم أحلام وطموحات الجماهير، ففي أعقاب حرب 1967 غنى في حفلته التاريخية أمام 8 آلاف شخص في قاعة ألبرت هول في لندن لصالح المجهود الحربى لإزالة آثار العدوان. وقدم عبد الحليم في هذا الحفل أغنية المسيح كلمات عبد الرحمن الأبنودي وألحان بليغ حمدي، وعدى النهار، وهي أيضاً للأبنودي وبليغ، وتعد أحدى أبرز أغاني حفلات عبد الحليم على مدار تاريخه الطويل، فيما جسدت أغنية «أحلف بسماها وبترابها»، التي غناها عبدالحليم حافظ ولحنها كمال الطويل من كلمات عبدالرحمن الأبنودي، مرحلة الاستفاقة من صدمة 1967.
كان القدر رحيما بحليم الذي غنى للهزيمة والانكسار فلم يحرمه من الغناء للعبور والانتصار، وما أن حل انتصار عام 1973 حتى انطلق موجات من زغاريد الانتصار على لسان حليم في روائعه الوطنية “ابنك يقولك يا بطل هات لي انتصار” و “صباح الخير يا سينا”، و”لفي البلاد يا صبية” و “عاش اللي قال” كما غنى حليم أغنية «قومي يا مصر» التي لحنها بليغ حمدي وكتبها عبد الرحيم منصور، ويقول مطلعها: «قومي إليك السلام يا أرض أجدادي.. عليك منا السلام يا مصر يا بلادي»،
يبدو الطابع الاحتفالي والفرحة العارمة لحليم في أغنيته “النجمة مالت على القمر” من كلمات الشاعر محسن الخياط وألحان محمد الموجي.
«النجمة مالت ع القمر فوق فى العلالي..
قالت له شايفة يا قمر أفراح قبالي..
قال القمر بينا نسهر على المينا..
ده النور على شط القنال سهران يلالي..
شاف القمر ع الضفتين زفة وزينة».
على مدار تلك السنوات الطوال اجتمع لحليم باقة من أروع الشعراء وأروع الملحنين ساهموا معه في تقديم أكثر من مائتي غنوة، على رأسهم حسين السيد، وفتحي قورة، ومرسي جميل عزيز، وعبدالرحمن الأبنودي، وكامل الشناوي، ونزار قباني، ومحمد حمزة وغيرهم من خيرة شعراء الأغنية العربية، وغنى حليم من ألحان الموجي، ومحمد عبدالوهاب، وبليغ حمدي، وقدم للسينما نحو 16 عشر فيلما غنائيا بأداء فني رفيع عكس خفة ظله وصدق مشاعره وبساطة أحلامه، التي تدور في أغلب الأوقات حول لقاء طال انتظاره لعاشقين يقف في طريقهما القدر…( قدر أحمق الخطى…سحقت هامتي خطاه).
ظلت الفتاة التي أثرت عبدالحليم حافظ بجمالها وساهمت في تكوين أسطورته الفنية لغزا محيرا للجماهير التي شغلها التعرف عن السر في تفجر ذلك المعين الذي لا ينضب من المشاعر والعواطف، فتناثرت شائعات وأطلقت تخمينات ما بين فتاة الاسكندرية التي التقاها في المصعد، أو سعدية فتاة طنطا عاملة المصنع التي التقاها في الحافلة وحكى عنها بنفسه في مجلة “أهل الفن”، في العدد 264 بتاريخ 19 سبتمبر 1955، أو نجمات السينما كسعاد حسني، وزبيدة ثروت وغيرهما.
وشغلت هذه الحكايات مخيلة أجيال من المحبين، لاسيما من الفتيات اللاتي مثل لهن عبدالحليم حافظ فتى الأحلام الرومانسي العاشق النبيل.