ونواصل رحلتنا مع الدكتور عصمت نصار فى كتابه المهم (رهانات العقل العربى.. من التقليد إلى التبديد) الذى يقدم فيه رؤية مغايرة لكثير من المفاهيم والمصطلحات فى تاريخ الفكر الإسلامى، ومنها مفهوم الحاكمية، وكيف أنها تغيرت من عصر لآخر، وكانت لها تجلياتها المختلفة والمتباينة، حتى تلقفتها الجماعات الجهادية المعاصرة لتسوقها إلى مفهوم واحد فقط يتماشى وأهدافها فى الحكم.
د عصمت نصار، وكتابه «رهانات العقل العربي.. من التقليد إلى التبديد»
الحاكمية الجهادية
يستطرد الدكتور عصمت نصار في شرحه لمفهوم «الحاكمية»، فيذهب بداية إلى أن المفسرين يجمعون على أن المقصود بالحكم الإلهي هو ذلك الدستور الرباني الذي هبط على النبي صلى الله عليه وسلم وحيا، وفي صحيح السنة إلهاما، ثم آراء الفقهاء وعلماء الأمة استيعابا واجتهادا في تطبيقه في أمور الدنيا، وترد بعض الكتابات أصول المصطلح إلى فرقة الخوارج وذلك في قولهم الأشهر (لا حكم إلا لله)، وهي كلمة حق أريد بها باطل، لأن الواقع أثبت أن الخوارج كانوا يُخضعون النصوص الشرعية لتأويلاتهم الخاصة، وعلى هذا الأساس استحلوا دماء كل من يخالفهم.
ولأن البعض يجادل في اثبات العلاقة بين المفهومين عند فرقة الخوارج الشهيرة في التاريخ الإسلامي، وبين جماعات العنف الديني المعاصرة، فإن الدكتورنصّار ينتقل مباشرة إلى رصد وكشف المفهوم في أدبيات الجماعات الجهادية المعاصرة لحظة ونشوءا وتطورا.
يذهب نصار إلى أن أول ظهور يلمح للمصطلح في الكتابات المعاصرة هو تلك الإشارات الواردة في كتابات الشيخ محمد بن عبدالوهاب وتلاميذه، حيثوا ربطوا بين ذلك المفهوم ومفاهيم أخرى مثل (ديار الإسلام، وديار الكفر، والشرك الأكبر والأصغر والخفي، والحكم بخروج من اتبع السياسات الغربية الحديثة بالخروح عن الحاكمية الربانية باعتبارهم أتباع الطاغوت). ففي كتابه «الرد على الرافضة» يذهب محمد بن عبدالوهاب إلى تكفير كل من يٌحكّم غير كتاب الله وسنته في تسييس أمور الدولة، مٌجيزا دفع الحاكم وعزله إذا عدل عن حٌكم الله إلى حكم كفري يتمثل في السياسات الوضعية، وهو نفسه ما يؤكده محمد بن صالح العثيمين في فتاوى العقيدة، حين يؤكد أن (كل من ينزغ إلى غير ما أنزل الله في شريعته يعد من أتباع الطواغيت. يقول ابن عثيمين: «وأعلم أن من لم يحكم بما أنزل الله، وأراد أن يكون التحاكم إلى غير الله ورسوله وردت فيه آيات بنفي الإيمان عنه، وآيات بكفره وظلمه وفسقه». ويستند أبن عثيمين في ذلك إلى عدد من الآيات الواردة في سورتي البقرة والمائدة. و الأمر نفسه يقول به صالح الفوزان في حديثه عن قضية الولاء والبراء حين يرى عدم جواز تولية غير المسلمين من يهود أو نصارى، ولا اعتبارهم أخوة في الوطن أو الدين ولا التشبه بهم في المأكل أو الملبس.
بحسب نصار- يخلط الوهابيون في أحاديثهم بين السياسة الشرعية والعقيدة الإسلامية، لأنه لا فصل عندهم بين الدين والسياسة في الإسلام، وعلى الرغم من انتحال حسن البنا لأفكارهم عن طريق رشيد رضا صاحب المنار إلا أن تأثيرهم فيما يتعلق بمفهوم الحاكمية بقي محدودا في مصر حتى منتصف القرن العشرين، أما التأثير الحقيقي فكان لأبي الأعلى المودودي الذي يعد المنظر الحقيقي، وصاحب الخطاب التطبيقي لكل ما يتعلق بمفهوم الحاكمية الإسلامية تلك التي يعرفها في كتابه «الخلافة والملك» بقوله (إن تصور الإسلام عن الحاكمية واضح لا تشوبه شائبة، فهو ينص على أن الله وحده خالق الكون وحاكمه الأعلى، وأن السلطة العليا المطلقة له وحده، أما الإنسان فهو خليفة هذا الحاكم الأعلى ونائبه، والنظام السياسي لابد أن يكون تابعا للحاكم الأعلى، ومهمة الخليفة تطبيق قانون الحاكم الأعلى في كل شىء).
المودودى وسيد قطب
يؤكد نصار أن «أبو الأعلى» هو المنظر الأول لمفهوم الحاكمية الربانية وأن كتاباته المبكرة ولاسيما كتابه «ترجمان القرآن» الصادر في أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين، كان له الأثر الأعظم على جميع الخطابات السياسية للجماعات الإرهابية المعاصرة، وهو ما يتضح في تقسيمه العالم إلى ديار إسلام، وديار كفر، وأن الحكومات الإسلامية ليست شرعية ما دامت تقتبس من النظم الغربية الوضعية دون كتاب الله وسنة نبيه، وقد نقل بذلك مفهوم السياسة الشرعية من باب الفروع إلى باب الأصول، وبات الخليفة – تأسيسا على ذلك- ظل الله على الأرض، وتنصيبه لا يأتي من قبل أهل الحل والعقد، وإنما بمؤازرة الثائرين المجاهدين الغيورين على الشريعة، وأن محاربة المشركين –بمفهومها المتسع- أول ضرورات إقامة الحكومة الإسلامية العالمية، فعالمية الإسلام هي الهم الأكبر الذي يجب أن تنصرف إليه جهود المسلمين حتى تنشأ دولتهم وفق الرسالة الربانية.
هذا المفهوم للحاكمية عند المودودي هو الذي سيسايره فيه سيد قطب، وفريق من الإخوان المسلمين الذين اشتهروا بالقطبيين، بالإضافة إلى جماعات الجهاد الإسلامي بمختلف مسمياتها، يقول سيد قطب في الظلال (كل من يتبع النظم الغربية في البلدان الإسلامية يعد مرتدا وكافرا وفاسقا وناقصا لسنة الله في أرضه، وجر المجتمع إلى مستنقع الجهالة والكفر)، ويؤكد قطب في الكتاب نفسه على أن الديمقراطية والاشتراكية والرأسمالية وغيرها من الصور تعد مرتدة إلى الجاهلية الأولى، وذلك لنقضها عهد الله وحقه في الحاكمية ، وقد تلقفت الجماعات الإسلامية هذه المفاهيم لتتحول قضايا السياسة الشرعية إلى قضية واحدة ايمانية يُكفَّر بمقتضاها الناس، وتستحل دماؤهم وأموالهم وأعراضهم، وبات كتاب (معالم في الطريق) هو الدستور الشرعي لجماعتي الجهاد، والجماعة الإسلامية، وقد اخترع قطب مصطلحين أولهما المجتمعات الجاهلية، أما الثانية فنظم الشيطان أو الطاغوت وهي التي يندرج تحتها -فى رأيه- جٌل المجتمعات والدول العربية والإسلامية المعاصرة وقد جعل منها دار حرب، فأفرادها غير مكتملي الأهلية، وهي نفسها المفاهيم التي سيتردد صداها في كتابات صالح سرية.
ففي رسالة الإيمان التي صدرت في مطلع السبعينات يقول سرية (كفرنا الحكومات لانها اتخذت شرائع ومناهج بديلة لمنهج وشريعة الله، ولنفس السبب كفرنا الأحزاب والجماعات)، وعلى نفس الدرب يمضي شكري مصطفي في كتابه «التوسمات» والذي أقر فيه بأن المجتمع الحق والوطن الحق، والأمة الإسلامية الحقة هي التي تساس بالحاكمية الربانية، وأن دون ذلك من أوطان ومجتمعات تعد ديار كفر، ويزداد الأمر تعقيدا مع محمد عبدالسلام فرج في كتابه «الفريضة الغائبة» حين يربط بين مصطلحي الخلافة والحاكمية الربانية، وتصبح الخلافة هي النظام الشرعي دون غيره، وإقامتها واجبة على كل مسلم جهادا، وعلى هذا الأساس تنطلق أحلام الجماعات الدينية المتطرفة في إقامة دولة يسمونها إسلامية، على رأسها خليفة يحكم بما أنزل الله وفقا لفهم هذه الجماعات، على هذا النحو يرصد تحول السياسة الشرعية من باب الفروع إلى باب الأصول والعقيدة، والربط ما بين السياسة الشرعية والحاكمية ثم الخلافة على نحو ما يظهر في كتاب سيد إمام (الجامع في طلب العلم الشريف) حين يقرر أن من فرق بين مصطلح السياسة الشرعية والحاكمية الربانية فقد كفر لأنه لا حكم إلا لله.