لم يرد اسماعيل خليفة مدرس الموسيقى بملجأ روض الفرج ،والذى أصبح قائدا لفرقة الموسيقى الملكية، لأحد من أبنائه أن يكون مثله مندوها للموسيقى وللفن. فهو الذى عُرف بموهبته الموسيقية وصادق موسيقيين كبارا كانوا يعرفون قدره وقيمته، مثل محمد حسن الشجاعي مستشار الموسيقى والغناء بالإذاعة المصرية، وعبد الحميد عبد الرحمن قائد موسيقات الجيش، واحمد عبيد أستاذ الموسيقى وقائد أوركسترا القاهرة السيمفونى، لكنه مع ذلك لم يحظ بما يستحقه من شهرة ومجد، ولم تعطه الموسيقى ولا الفن شيئا ذا بال، وتاهت موهبته فى دهاليز المدارس والتدريس والمناسبات الملكية. لكن ابنه الأكبر عليا الذى وُلد فى الثامن والعشرين من ديسمبر عام 1922، كان له رأي آخر، فقد تمرد على إرادة والده، وقرر أن يشق طريقا لموهبته الموسيقية الجبارة، ليكون (علي إسماعيل) هذا الموسيقار الكبير، رائد وأستاذ التوزيع الموسيقى فى مصر والعالم العربى.
https://www.facebook.com/Aswatonline/videos/560858507804850/?t=4
رفيق بداية حليم
ألحق اسماعيل خليفة ابنه «على» بالمدرسة الصناعية البحرية بالسويس بعد أن أنهى تعليمه الإبتدائى، لكن عليا لم يستمر طويلا فى تلك المدرسة بعد أن وجد مكانا يمكنه أن يعّبر من خلاله عن موهبته، فالتحق بفرقة موسيقات الجيش، مجندا بها وعازفا على الساكسفون والكلارينيت، وكانت تلك بدايته فى عالم الموسيقى.. تلك البداية التى سرعان ما تعززت وتطورت بالتحاق علي عازفا بفرقة محمد عبد الوهاب الموسيقية، ليعمل بعدها بكازينو بديعة، حيث تعرّف فى تلك الفترة على حسن الإمام ومحمود وعلى رضا. ثم خطا على إسماعيل خطوة مهمة فى مشواره الموسيقى حين التحق -إلى جانب عمله كموسيقى مجند فى الجيش- بمعهد فؤاد الأول، الذى أصبح فيما بعد معهد الموسيقى العربية، زميلا لـ «عبد الحليم حافظ» و«كمال الطويل» و«فايدة كامل» و«أحمد فؤاد حسن». وفى قسم الآلات توطدت علاقة علي، الذى كان يدرس العزف على الساكسفون بعبد الحليم الذى كان يدرس على آلة الإبوا، وهى علاقة تحولت إلى صداقة متينة وشراكة عمل طويلة، حيث أبدع على توزيع أغلب أغاني عبد الحليم الذى كان يحتفظ بمحبة خاصة لموزع أغانيه، لدرجة أن حليم الذى كان فى إحدى نوبات مرضه وقد علقت له المحاليل الطبية حين سمع خبر رحيل علي قفز من سريره، وخلع إبر المحاليل من ذراعه ليحضر جنازة صديقه ،وهو يقول للمحيطين به الذين حاولوا إثناءه، ومنهم كمال الطويل: «ده علي إسماعيل اللى مات يا كمال.. ده جزء من المزيكا مات».
https://youtu.be/cgEK6Cl9XBI?t=28
مع فرقة رضا
فى بداياته مع الموسيقى عمل على إسماعيل فى فرقة ببا عز الدين، كما تولى الإشراف الموسيقى على فرقة رتيبة وأنصاف رشدى شقيقتى فاطمة رشدى، إلى أن رشحه أستاذه الذى يدين له بفضل كبير أندريا رايدر، لكى يكتب الموسيقى التصويرية لفيلم «عاشور قلب الأسد». كان رايدر- وهو موسيقى يونانى حصل على الجنسية المصرية واعتنق الإسلام – قاسما مشتركا فى وضع الموسيقى التصويرية لأبرز الأفلام المصرية فى الخمسينات والستينات، مثل دعاء الكروان، والنظارة السوداء، وشروق وغروب وغيرها، وقدعُرض عليه أن يضع موسيقى فيلم عاشور قلب الأسد فرشح علي إسماعيل مكانه، وأصر عليه، ليمنحه فرصة ذهبية استغلها علي بجدارة وكفاءة واستحقاق، وظل يذكر بكل الحب فضل أستاذه أندريا عليه.
لاحت فرصة ذهبية أخرى لعلي إسماعيل شكلت بداية مرحلة جديدة فى حياته الفنية، حين أصبح رئيس الفرقة الموسيقية لفرقة رضا ومؤلفا لموسيقى رقصات الفرقة واستعراضاتها، وسافر مع الفرقة أغلب دول العالم مبدعا لأعمالها الموسيقية والغنائية، مثل استعراضات وفاء النيل، ورنة خلخال، وخان الخليلي، والناي السحري وغيرها، ومصاحبا بموسيقاه لكل عروضها مثل الدبكة والدحية والحجالة والعتبة جزاز، فقد كان إسماعيل يؤلف موسيقى رقصات الفرقة ويلحن تابلوهاتها المختلفة.
كما ابتكر علي إسماعيل فكرة الثلاثى المرح وتميز خلال تلك الفترة بقدرته الرائعة فى إبداع موسيقى الأغانى الخفيفة ذات الطابع الموسيقى الخاص والفريد.
مبدع «الوطنيات»
غير أن أحد أهم منجزات علي إسماعيل الموسيقية كان اشتراكه -تلحينا أو توزيعا – في عدد كبير وهائل من الأغانى الوطنية التى كانت تعبيرا عن الشعور الوطنى الجارف فى مصر بعد ثورة يوليو و مقاومة مؤامرات القوى الاستعمارية المتواصلة ضد الثورة وبعدها في الحروب المختلفة ضد العدو الإسرائيلي. ومن هذه الأغنيات «دع سمائي» التى غنتها فايدة كامل عقب العدوان الثلاثى على مصر وأغنية «راجعين» التى غنتها المجموعة و لحنها علي كمقدمة لفيلم «العصفور» عام 1972 من إخراج يوسف شاهين ،وكانت من كلمات الشاعرة نبيلة قنديل زوجة علي، وتقول كلماتها: رايحين شايلين فى ايدنا سلاح.. راجعين رافعين رايات النصر، وقد حملت هذه الاغنية بشرى نصر أكتوبر المجيد.
كما لحن علي إسماعيل أغنية «أم البطل» لشريفة فاضل، والتى كانت من تأليف زوجته نبيلة قنديل أيضا، وقاد إسماعيل الفرقة الموسيقية للأغاني الوطنية التى كانت تصاحب عبد الحليم حافظ وهو يغنى أغنياته الوطنية فى أعياد ثورة يوليو مثل «صورة» و «مطالب شعب» و«المسئولية»، وفى إحدى الحفلات، طلب منه عبد الناصر أن يقص شعره حيث لم يكن علي يقص شعره على الإطلاق، فقال لناصر أؤمر يا افندم، وبالفعل قص علي شعره، فلما رآه عبد الناصر فى الحفلة اللاحقة وقد قصر شعره ضحك وقال: «أنا باحمد ربنا إنك قصيت شعرك»، كما لحن علي إسماعيل النشيد الوطنى الفلسطينى، حيث قضى أربعة أيام فى معسكرات الفدائيين بصحبة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ليعود بعدها ويسجل لحن «فدائي».
ومن العجيب فى سيرة علي إسماعيل الفنية أن أم كلثوم قالت له ذات يوم: إنت مش عايز تلحن لى يا واد يا علي؟ فاجابها قائلا: يبقى عايزة تكتبي شهادة إعدامي، وهو نوع من الرفض بذكاء شديد ـ فالإجابة الظاهرة تعني أنه يخشى ويخاف أن يفشل لحنه لها، بينما فى الحقيقة هو رفض ذكى أما السبب الحقيقى فلم يبح به علي أبدا.
رحيل وتكريم
وضع علي إسماعيل الموسيقى التصويرية لأكثر من 300 فيلم سينمائي، منها أفلام فرقة رضا مثل «أجازة نصف السنة» و«غرام فى الكرنك»، وافلام أخرى مثل «الأيدى الناعمة» و«السفيرة عزيزة» و«الحقيقة العارية» و«الأرض» و«معبودة الجماهير» و«أبي فوق الشجرة» و«حرامي الورقة» و«عائلة زيزي» و«الإختيار» و«حكايتى مع الزمان».
أما بالنسبة للتوزيع الموسيقى فقد كان لعلي إسماعيل رؤيته المتجاوزة المتقدمة فى توظيف الآلات النحاسية والإيقاع، وجدد وطّور فى سرعة الإيقاع وأدخل موسيقى الجاز فى ألحانه، وكان قاسما مشتركا فى توزيع معظم الأغانى التى لحنها بليغ حمدى وكمال الطويل، وكذلك الأغانى التى شدا بها عبد الحليم حافظ. وبسبب هذه المسيرة الكبيرة كرّمه الرئيس الراحل أنور السادات بافتتاح متحف فى بيته بعد رحيله، وكان علي إسماعيل قد شارك وزوجته فى حفل زفاف ابنة السادات الذى كان قد طلبهما بالإسم. غير أن عليا كان قد حصل على جوائز كثيرة خلال مسيرته الفنية، مثل وسام العلوم والفنون عام 61، والجائزة الأولى عن موسيقى فيلم «أجازة نصف السنة» عام 64، وغيرها من الجوائز التى كان يستحقها هذا الموسيقي الكبير، الذى رحل عن عالمنا فى السادس عشر من يونيو عام 1974، قبل أن يكمل عامه الثانى والخمسين.