ما إن نشرت الهيئة المصرية العامة للكتاب، كتاب الأديبة الراحلة عايدة الشريف «شاهدة ربع قرن» حتى قامت قيامة بعضهم، وتناولوا الكتاب بوصفه من كتب «النميمة الثقافية». وللحق والإنصاف فإن الكتاب هو شهادة شاهدة عيان على أحداث خطيرة، وقد نشرته الكاتبة في حياتها وحياة بعض الذين تناولتهم فما كذّبها أحد. ثم بحثتُ عن عايدة الشريف حتى أضناني البحث، فما حصدت إلا القليل الذي لا يُذهب الظمأ.
وُلدت عايدة الشريف لأسرة عريقة، فوالدها هو أحد كبار علماء الأزهر الشريف، وكان خطيبًا لأحد أكبر مساجد حى المنيل الذي عاشت به عايدة معظم سنوات حياتها.وشقيقها هو الكاتب الصحفي الشهير يوسف الشريف. درستْ عايدة الحقوق والفنون المسرحية وقد نالت شهادتيْهما. لكنها لم تكن ترى نفسها محامية ولا ممثلة ولا كاتبة، كانت تحلم بأن تكون رسامة!
عملت في مؤسسة السينما مع المخرج صلاح أبو سيف، كما عملت مع نجيب محفوظ، وكانت قارئة نصوص للسينما والمسرح، وكانت حريصة على مصادقة الكبار أمثال توفيق الحكيم والعقاد وطه حسين ومحمود شاكر ومحمد مندور وحسين فوزي ومحمد عودة.
خريطة علاقات السيدة عايدة عجيبة جدًا، فقد رضي عنها اليسار واليمين والوسط. تتلمذت على يد محمد مندور الذي لم يكن يتركها حتى وهو في زيارة لوالديه في قرية من قرى الدلتا، ولكن صاحب الكلمة الحاسمة في حياة عايدة كان المخرج الكبير صلاح أبو سيف الذي قال لها يومًا: «اصنعي شيئًا نقدمك به للناس، فإن كان حسنًا فاخرنا به وإن كان غير ذلك اعتذرنا عنك». سمعت عايدة النصيحة وبدأت ممارسة الكتابة التي لم تتوقف عنها إلا برحيلها في أبريل من العام 1989.
الذي أعرفه من مؤلفات عايدة هو كتبها «شاهدة ربع قرن» و «حياة قلم »، وهو ترجمة مطولة لحياة الأستاذ محمود شاكر و«الإنسان والطائر.. قراءة بين العقل والفطرة».
عملت عايدة مراسلة لمجلة الآداب اللبانية، عندما كانت الآداب من كبريات المجلات العربية، كما نشرت الشهير من كتاباتها على صفحات مجلة الدوحة القطرية في عصرها الذهبي، عندما كان يرأس تحريرها الناقد الكبير رجاء النقاش.
كتبت عايدة بخط يدها تعترف أنها ليست مشهورة وتاريخها يبدو مطموسًا، العجيب أن تلاميذها وعارفي فضلها وأبناء أسرتها، لم يسارع واحد منهم بأن يصنع لها صفحة على ويكيبيديا تتضمن البيانات الرئيسية عن هذه الشخصية صاحبة العطاء الثري.
توفيق الحكيم، العقاد، طه حسين
أجور رمزية
يضم كتاب عايدة «شاهدة ربع قرن» ما يمكن وصفه بخمس عشرة لوحة، فقد كانت الكاتبة كأنها النحلة تتنقل بين الأزهار لتقدم في النهاية ما يشفي الناس. وبسبب لوحتين من لوحات الكتاب قام بعضهم بإثارة الغبار في وجه الكتاب للتعتيم عليه.
اللوحة الأولى كانت عن أجور كبار الكتاب، فماذا في تلك اللوحة؟.
لقد سجلت عايدة الشائع المعروف عن أجور كبار الكتاب، كما سجلت ـ وقد كانت قريبة جدًا منهم ـ عاداتهم المادية وطريقة تعاملهم مع المال بصفة عامة.تقول عايدة: إن طه حسين كان يرفض إجراء أي أحاديث إذاعية أو تلفزيونية إلا بعد تقديم مقابل مادي. وعندما كانت الإذاعية آمال فهمي رئيسة لإذاعة الشرق الأوسط، فكرت في أن يتحدث العميد لبرنامج «لغتنا العربية يسر لا عسر» وكان البرنامج سيبث في شهر رمضان، فوافق العميد، ولكن بشرط تسلم أجره كاملاً قبل إجراء التسجيل، وحين حاولت إقناعه بأن لوائح الإذاعة توجب صرف المكافآت المالية بعد الانتهاء من التسجيل، أصر على موقفه، مما جعلها تجمع المبلغ المرتفع الذي طلبه العميد من أصدقائها، لكي لا تضيع فرصة تحقيق ذلك السبق الإذاعي.
كل ما تضمنته لوحة «أجور كبار الأدباء» تمضي على النحو السابق، ولكن الجزء الخاص بالناقد الشهير محمد مندور هو الذي أغضب تلاميذه، فهاجموا الكتاب ووصفوه بالنميمة!
عندما تقرأ بعين الإنصاف ما كتبته عايدة عن مندور ستجدها تدافع عنه، إلا إذا كان المطلوب من الأديب أن يكتب مجانًا ثم يطعم أولاده مخطوطات كتب الجاحظ!
تقول عايدة ما ملخصه: إن الدكتور سهيل إدريس مؤسس مجلة الآداب وصاحبها قد أوصاها عندما عملت مراسلة لمجلته من القاهرة بأن تقول لأي كاتب: «أجرك أجر رمزي لا يليق بمقامك». ثم تتكلم في ذلك السياق شارحة أسباب رمزية الأجر وما إلى ذلك من مبررات. ثم حدثت مقابلة بين محمد مندور وسهيل إدريس فقال مندور لسهيل: «يا أخي أنت للأسف لم تعد عصريًا ولم تعد تقرأ». فرد سهيل متعجبًا: «كيف لا أقرأ وأنا أنشر لكبار مثقفي العالم». فقال مندور: «لأن المذهب الرمزي تطور وظهر بدلًا منه المذهب التعبيري ثم المذهب الواقعي وأنت لا زلت تحاسبنا بالرمزي».
ثم تقول عايدة: إن مندور كان يملي مرة مقالًا عليها، وفجأة توقف وسألها: «اللي كتبته ده يغطي كام صفحة في المجلة؟». فأجابته: «يغطي صفحتين لو اتنشر جنبهم إعلان صغير». فقال مندور: «طيب اكتبي الجملتين دول كمان وبعدين وقّعي، وهذا يكفي مقابل الخمسة جنيهات، هذه ثقافة أضعنا في سبيلها المال والجهد والزمن فلماذا نبيعها بأثمان رمزية؟».
الكشف المر
المثقفون ونقاد الكتب ليسوا مثلي ومثلك، ناس على باب الله، إنهم يعرفون جيدًا كيف يراوغون، لقد استغلوا اللوحة الخاصة بأجور كبار الأدباء لكي يعتموا على اللوحة الأخطر التي تضمنها الكتاب. والمقصود هنا اللوحة الثانية، وهى الخاصة بزيارة كاتب فرنسا الأشهر جان بول سارتر للقاهرة.
فقبل ما سجلته عايدة ،كنا نعرف أن جريدة مصرية كبرى هى الأهرام هى التي وجهت الدعوة لسارتر ،وقد قبلها احترامًا لمجد الأهرام ومكانتها، والحقيقة غير ذلك. فالدولة المصرية وفي أرفع مناصبها، هى التي وجهت الدعوة لسارتر مرارًا وتكرارا وكان يرفضها في كل مرة، حتى قبلها أخيرا لغرض في نفس يعقوب!
لم تكن الأهرام سوى ستار الدولة المصرية، وقد حملت الدعوة اسم «توفيق الحكيم» بوصفه أكبر الكتاب سنًا وعرّاب الثقافة الفرنسية في القاهرة، وعلى ذلك جاء سارتر إلى القاهرة في زيارة كانت أيامها تاريخية واستثنائية.
إن ما سجلته عايدة عن الزيارة يعد كشفًا مرًا لحقائق أراد البعض لها أن تذهب إلى القبور برفقة أبطالها.
جان بول سارتر
عجائب الصهيوني
جاء سارتر لمصر بصحبة رفيقته الكاتبة الشهيرة سيمون دي بوفوار، لكن الغريب أنه أصر على أن يرافقه الكاتب الشاب كلود لانزمان. ولانزمان هذا صهيوني حتى النخاع، هدفه النهائي كان خدمة الكيان الصهيوني والدفاع عنه. فلماذا كانت الدولة المصرية حريصة على زيارة سارتر وقابلة بشروطه؟.
كان سارتر مناصرًا لتحرير الجزائر، وكان يشن الغارات ضد حكومة بلاده التي تقتل يوميًا المئات من ثوار الجزائر، ثم كان سارتر مؤيدًا لمقاومة مصر للعدوان الثلاثي. وكانت مصر أيامها تريد أن يتبنى صوت عالمي مجمل قضاياها المصيرية، وكان هذا الصوت هو سارتر ،والذي من أجله عملت الدولة المصرية وفق المثل الشعبي القائل: «من أجل الورد يُسقى العليق».
من البداية عمل كلود لانزمان على أن تفشل الزيارة التي تواصلت على مدار ستة عشر يومًا، وبدأت قبل وقوع قاصمة الظهر يونيو 1967 بقرابة الشهرين. فقد قيّد لانزمان حركة سارتر وألجم فمه، حتى عندما قابل سارتر الزعيم عبد الناصر، أفشل لانزمان المقابلة، حيث ذهب إلى القصر الجمهوري متخليًا عن الملابس التي تليق بمقابلة مع رئيس دولة. فقد كان يلبس – في تعمد – القميص والبنطلون ويضع يديه بحركة استهانة في جيبي البنطلون، ويجلس واضعًا ساقًا على ساق في حركة تبجح ظاهرة. كل ما سبق أدى إلى عدم نشور صور مقابلة عبد الناصر لسارتر، وذلك رغم انبهار سارتر بعبد الناصر ووصفه له برجل السياسة المحنك.
بعد زيارة سارتر للقاهرة زار غزة، التي كانت تحت الإدارة المصرية. يومها تقدم طفل فلسطيني نحو سارتر وقدم له على سبيل الهدية لفافة، وعندما قام سارتر بفتح اللفافة، همس له لانزمان: إن ما بيدك ليس سوى علم المقاومة الفلسطينية.
انزعج سارتر جدًا خاصة بعد أن التقط له مصور صحفي صورًا وهو يحمل علم المقاومة، فما كان من الفيلسوف التقدمي سوى أن أصر على إخراج الفيلم من الكاميرا وتعريضه للضوء حتى يتلف ما به من صور، وقد كان له ما أراد!
سيمون دي بوفوار
رفيق الرفيقة
عندما رأت عايدة الشريف، كلود لانزمان تأكدت أن الزيارة ستفشل، وذلك لأن عايدة كانت تعرف الرجل وأخته التي أحبت قياديًا من قادة الثورة الجزائرية، وعندما باعدت المصالح بينها وبينه، قتلت أخت كلود نفسها.
كان سارتر يرافق سيمون، وهذا معروف مشهور، ثم انصرف عنها لمرافقة فتاة أمريكية، لكنه لم يقطع علاقته بسيمون، وفي تلك الفترة تعرفت سيمون على لانزمان، وكان يصغرها بقرابة السبع عشرة سنة، وكان سارتر يعرف ما بين سيمون ولانزمان. ولأنه لا يستطيع قطع علاقته بسيمون فقد تواصل الأمر على ذلك النحو العجيب، الثلاثة في علاقة واحدة متشابكة معقدة.
ما سبق قالته عايدة لتوفيق الحكيم في مكتبه بالأهرام ،فجُن جنون الحكيم وراح يصيح في وجهها: «كيف تتطاولين أنت على هؤلاء الفلاسفة العظماء حجمًا، النصعاء سيرة؟، هل هم أناس عاديون حتى تخوضي أنت في هذا السن في سيرتهم هكذا وبهذه الطريقة المشينة غير الصادقة أو الأمينة؟»
وعلى صياح الحكيم جاء الكاتب أحمد بهجت فقال له الحكيم: «تعال يا سيد أحمد، واستمع لما تقوله هذه الفتاة، هل تصدق أن علاقة ما يمكن أن تنشأ بين السيدة المسنة الوقور ورفيقهم الشاب الصغير، تصور هذا الافتراء، أين سيقف سارتر من هذه العلاقة؟». رد أحمد بهجت قائلًا : البينة على من أدعى واليمين على من أنكر .
قبل أن نكمل القصة نسأل لماذا كانت عايدة حريصة على كشف الأسباب الحقيقية لفشل الزيارة التاريخية؟.
لقد جاء كشفها لمنع الدولة المصرية من جلد ظهرها، واتهام نفسها بأنها قصرّت في حق الفيلسوف العالمي. وللحق لم تقصر الدولة، وقدمت لسارتر ومرافقيه لبن العصفور، فقد يسّرت له التجول بحرية من السد العالي جنوبًا إلى كمشيش في قلب الدلتا شمالًا، كما سمحت له بمقابلة من شاء من كبار كتابها، ودعته لمقابلة حاشدة مع طلاب جامعة القاهرة، وأنزلته في أفخم فنادقها، ومع كل هذا التكريم، عاد سارتر إلى باريس ليؤيد إسرائيل!
توفيق الحكيم
البينة الدامغة
أدركت عايدة أن الطريق إلى سارتر يمر بسيمون والطريق إلى سيمون يمر بكلود لانزمان، ولأن سارتر لا يستطيع الاستغناء عن سيمون فهو لن يستطيع التخلي عن لانزمان!
ولذا عادت إلى الحكيم ومعها البينة الدامغة. وكانت البينة كتاب سيمون الشهير «قوة الأشياء»، والذي تعترف فيه بصراحة بحقيقة العلاقة التي تربطها بالصهيوني لانزمان.
من العجيب أن رجلًا من عرابي الثقافة الفرنسية مثل توفيق الحكيم لم يكن قد قرأ الكتاب، لا في طبعته الفرنسية ولا في ترجمته للعربية.
وبخصوص الترجمة العربية فقد ارتكب ناشرها الدكتور سهيل إدريس كارثة من الكوارث العربية الغريبة. فمترجمة النسخة العربية من كتاب «قوة الأشياء» هى السيدة عايدة مطرجي، زوجة الدكتور سهيل إدريس، الذي قام وهو يراجع الترجمة بحذف صفحات يشيد فيها لانزمان بما حققته إسرائيل من نجاح وانتصارات.
وضعت عايدة الشريف تحت نظارة توفيق الحكيم فقرات مطولة من كتاب قوة الأشياء تقول سيمون في إحداها: «كان لانزمان قد قام برحلة إلى إسرائيل، وعاد إلى باريس، والتقى جسمانا في فرح، وبدأنا نبني مستقبلنا، وبالرغم من أنه يصغرني بسبعة عشر عامًا، فإن هذا الفرق لم يكن يرعبني». فقرات كثيرة وضعتها عايدة تحت نظارة الحكيم فنظر لها مذهولًا ولم يرد!.
من يوم تلك الزيارة و وحتى اليوم، لايزال بعضهم يسبح بحمدها بوصفها فتح الفتوحات، وعندما تتجرأ كاتبة على كشف حقائق الزيارة، يقومون بالتعتيم عليها وعلى كتابها، فلله الأمر من قبل ومن بعد.