«جنة آدم» المقصودة هنا،هي الجزيرة التي شهدت مهبط أول الخلق سيدنا آدم عليه السلام، وفقا لما رواه الرحالة العرب الذين زاروا الجزيرة قبل قرون ليتتبعوا آثارها ويدونوا أحوال أهلها وأساطير أسلافهم. تقع هذه الجزيرة، التي كانت تعرف بـ«سرنديب» -سريلانكا حاليا- وأطلق عليها لفترة طويلة اسم «سيلان»، في شمال المحيط الهندي، جنوب شبه القارة الهندية.
ويقول الرحالة ياقوت الحموي في كتابه «معجم البلدان» عن واقعة هبوط أبي البشر بـ«سرنديب»: «فيها جبل هبط عليه آدم، ويُقال له الرهون وهو ذاهب في السماء (أي شاهق الارتفاع)، وفيه أثر قدم آدم، وهي قدم واحدة مغموسة في الحجر طولها نحو سبعين ذراعاً، ويزعمون أنه خطا الخطوة الأخرى في البحر وهو منه (أي من الجبل) على مسيرة يوم وليلة».
مهبط أبي البشر
يصف أمير الرحالة محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي المعروف بـ«ابن بطوطة» أهم معلم من معالم الجزيرة في كتابه «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، فيقول: «وفى قمة جبل سرنديب توجد أثر القدم الكريمة لسيدنا آدم عليه السلام، وهى فى صخرة سوداء مرتفعة بموضع فسيح، وقد غاصت القدم الكريمة فى الصخرة حتى عاد موضعها منخفضا وطولها أحد عشر شبرًا، وأتى إليها أهل الصين قديمًا، فقطعوا من الصخرة موضع الإبهام وما يليه، وجعلوه فى كنيسة بمدينة الزيتون يقصدونها من أقصى البلاد».
وتشتهر تلك الجزيرة بغاباتها الاستوائية الكثيفة وأشجارها العالية وشواطئها الساحلية الخلابة ،ومناخها الاستوائي، لكن إحاطة البحر بها لطّف من درجة حرارتها. ومن أشهر مدنها كولومبو وهي عاصمة البلاد وأهم ثغورها. وتكثر فيها أشجار الفاكهة والخضر وجوز الهند، ويُزرع فيها الشاي والبن والأرز والقطن والتوابل والطباق، ومن حيواناتها الفيلة والنمور والدببة والجاموس والغزلان. ويدين نحو 70 % من أهلها بالبوذية، والباقون موزعون ما بين الإسلام، والهندوسيّة، والمسيحية.
هزيمة ثورة
وأما عرابي، فهو الأميرالاي أحمد الحسيني عرابي، الذي قاد ثورة الضباط الوطنيين ضد الاستبداد والتدخل الأجنبي في الشأن المصري، وطالب هو ورفاقه الخديوي توفيق بإقامة حياة دستورية، ولاقت حركته تأييدا واسعا، والتف حولها عموم الشعب المصري.
حاصر عرابي بقواته سراي الحكم في عابدين، وواجه الخديوي توفيق وأملى عليه مطالب الشعب المصري، فرضخ الخديوي، واستجاب لمطالب الأمة، إلا أن الرياح لم تأت بما تشتهي السفن، وانهزم العرابيون ليس عن ضعف أو جُبن، بل عبر سلسلة من الخيانات شارك فيها ساسة وزعماء قبائل وقادة جند سلموا أنفسهم للعدو الغازي وللخديوي المتآمر، وانتهى الأمر باحتلال الإنجليز لمصر بتواطؤ توفيق ورجاله، وسيق قادة الحركة إلى ثكنات العباسية وتمت إحالتهم إلى المحاكمة العسكرية التي قضت بإعدامهم في 3 ديسمبر من عام 1882، بتهمة العصيان استنادا إلى المادة 96 من القانون العسكري العثماني، ثم تم تخفيف الحكم إلى النفي مدى الحياة في جزيرة «سرنديب» أو «سيلان».
وعن مشهد النفي يقول الدكتور محمود الخفيف في كتابه «عرابي الزعيم المفترى عليه»: «أُخرج عرابي من مصر مغلوبا على أمره وأسدل الستار على حركته، ومهما يكن من حقد خصومه عليه ومن محاولاتهم المتصلة النشطة لتشويه حركته منذ أن ذاع صيته في حادث عابدين، فإن شيئا واحدا هو حسبه من المجد والفخر سوف يبقى على الرغم من كيدهم وسوف تزيده الأيام وضوحا ورسوخا، ألا وهو أن عرابي كان الزعيم القومي الأول في مصر، فهو أول فلاح من أعماق القرى هتف بحرية مصر واستخلص لها الدستور وآنف أن يخضع لحكم الفرد»، ويؤكد على هذا المعنى أحد خصوم الثورة العرابية وهو اللورد كرومر المعتمد السامي البريطاني في مصر، فيقول: «إن حركة عرابي أكثر من أن تكون مجرد فتنة عسكرية، لقد كان فيها إلى حد ما طبيعة الحركة القومية الحقيقية، ولم تكن هذه الحركة موجهة كلها أو في جوهرها ضد الأوربيين والتدخل الأوربي في الشؤون المصرية ولو أن النفور من الأوربيين والتجني عليهم كانا يسيطران على عقول قواد هذه الحركة، إنما كانت هذه الحركة إلى مدى عظيم موجهة من المصريين ضد الحكم التركي».
نهاية منسية
معظم الكتابات التي تناولت الثورة العرابية ،اعتبرت أن القصة انتهت بنفي عرابي ورفاقه إلى جزيرة سيلان، بعد أن تم تخفيف حكم الإعدام بحقهم. لكن هناك بعض الكتابات والدراسات القليلة التي تتبعت ما جرى لقادة الثورة في المنفى.. «كيف استقبلهم أهل سرنديب، وكيف تعاملت معهم سلطات الاحتلال في تلك الجزيرة النائية؟، ولماذا اختلفوا وتنازعوا؟، ومن منهم كسرته الغربة فاُضطر إلى استعطاف الإنجليز ليسمحوا له بالعودة إلى الوطن؟، ومن منهم نال منه المرض فمات في المنفى غريبا؟».
«أصوات أونلاين» تتبع على مدى حلقتين، تفاصيل تلك المساحة الغامضة والمنسية من حياة عرابي ورفاقه في المنفى، استنادا إلى عدد من المصادر والمراجع المعتبرة، أولها مذكرات عرابي نفسه التي ضمنها مراسلاته إلى أصدقائه وأهله في مصر، وكتاب الدكتور محمود الخفيف «أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه» الذي رصد فيه مسيرة عرابي من النشأة حتى العودة إلى مصر، وأخيرا الدراسة الهامة التي أعدتها الدكتورة لطيفة سالم أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في ثمانينيات القرن الماضي، وأعادت نشرها مرة أخرى عن دار الشروق عام 2009 ،تحت عنوان «عرابي ورفاقه في جنة آدم».
الطريق إلى سرنديب
«إني أخرج من مصر بستان الدنيا.. لأذهب إلى سرنديب جنة آدم»، قالها عرابي قبل أن يخرج من مصر منفيا، وهو يحدث صديقه مستر ويلفرد بلنت، وأخذ يذكره بقصة هبوط سيدنا آدم، وكيف أنه حل بهذه الجزيرة فصارت تعرف بـ«جنة آدم»، وظل الزعيم الذي نجا من حكم الإعدام يعدد مزايا الجزيرة التي سيكمل فيها حياته، أهلها وساحلها وفواكهها وتوابلها، فقد حاول القائد العسكري المهزوم أن يقنع نفسه بأن الحياة لم تنته، وسعى عبر حديثه المصطنع مع صديقه الذي داوم على زيارته في السجن إلى صناعة صورة ترضيه عن ذلك المكان المجهول الذي سيقضي فيه بقية عمره.
في كتابها «عرابي ورفاقه في جنة آدم»رصد الدكتورة لطيفة سالم، رحلة عرابي ورفاقه «محمود فهمي، ويعقوب سامي، وطلبة عصمت، وعبد العال حلمي، ومحمود سامي البارودي، وعلى فهمي»، في المنفى، من خلال أربعة فصول، تناولت الواقع الذي عاشه المنفيون غرباء عن وطنهم، بعيدا عن أهلهم، فهي تلتقط الخيوط من حيث انتهى المؤرخون لتنسج صورة دقيقة أبرزت فيها المعالم الرئيسية».
اعتمدت لطيفة سالم في هذا الكتاب المهم على ما أطلعت عليه، خلال مهمة علمية لها في انجلترا، من المجلدات والدوريات والوثائق والمخاطبات، التي تسرد قصة رفاق الثورة العرابية في سيلان، ومنها كتاب «المنفيون المصريون في سيلان.. عرابي ورفاقه».
وتقول سالم إن الحكومة البريطانية كانت ترغب في إعدام عرابي على يد الخديو «بناء على محاكمة شكلية» وأن الصحافة البريطانية أيدت هذا الأمر ،لكن التقارير القادمة من الهند سجلت التفاعل الاسلامي تجاه المحاكمة ،كما لعبت المعارضة في البرلمان البريطاني دورا في التراجع عن توجيه المحكمة نحو إعدام عرابي الذي دافعت عنه صحافة حزب الأحرار «باعتباره من أبطال الحرية» وأدت الضغوط الى أن يطالب الرأي العام البريطاني بمحاكمة عادلة.
تتبعت سالم خطا عرابي ورفاقه صوب هذا الطريق، والاتجاهات المصرية والإنجليزية نحو العقوبة وكيف تحول مجراها من الإعدام إلى النفي، وتعدد الآراء حول مكانه، إلى أن رسا المطاف على جزيرة سيلان المعروفة بـ«سرنديب» أو «جنة آدم»، وخلال المداولات ظهر اقتراح بتفريق المنفيين ما بين «سرنديب» و«هونج كونج»، إلا أن الضغوط على الخارجية البريطانية ووزارة المستعمرات نتج عنها صدور قرار بجمع قادة الحركة في «سرنديب».
وقد ظهرت أزمة جديدة قبل الرحلة إلى «سرنديب»، حيث أسهم وقوف الحكومة المصرية أمام رغبات المنفيين، في مفاقمة تعاستهم، فعند سفرهم لم يصطحب إلا ثلاثة منهم زوجاتهم، وتُركت باقي الزوجات في مصر، إما لكون الحالة الصحية لبعضهن لم تكن تسمح بالسفر، وإما لأنهن لم يعرفن كيف تكون الإقامة في سيلان فرفضن، وإما لأنهن فضلن انتظار ما سيتم بخصوص أملاك أزواجهن. وعندما استقرت الأوضاع بهم في منفاهم، لم تنقطع طلبات المنفيين لإحضار زوجاتهم، وهو ما أخذ وقتًا طويلًا وعشرات المراسلات، وكان أحد منغصات حياة عرابي ورفاقه.
استقر الرأي على أن يبحر المنفيون ومن يصحبهم على الباخرة ماريوتيس الإنجليزية لنقلهم إلى كولومبو، وبعثت لندن إلى لونجدن الحاكم البريطاني لسيلان، لتُعلمه أن عرابي ورفاقه لا يعتبرون معتقلين -أي تحت الحجز- ولكن في الوقت نفسه تطلب إخطارها عند رحيل أي منهم من الجزيرة أو عند مخالفة أي منهم لتعهداته، وأن يختار ضابطا على درجة عالية من الذكاء للإشراف على الحرس المعين لخدمتهم، وأن تُراقب تحركاتهم، مع التعرف جديا على كل من يتصل بهم من مسلمي سيلان أو المتعاطفين معهم عقب وصولهم.كما أبلغت وزارة المستعمرات البريطانية حاكم سيلان، بأن الحكومة المصرية قررت لكل المنفيين ثلاثين جنيها مصروفا شهريا، وأنها مستعدة لزيادة هذا المبلغ بناء على تقديره عندما يرى أنه لا يفي بحاجتهم وراحتهم.
يتذكر عرابى دراما لحظة فراق مصر وقت أن بدأت الباخرة مغادرة الميناء قائلا: «بعد قيامها ولينا وجوهنا شطر مصر ننظر إلى جمالها وحسن منظرها ونودعها بقولنا «يا كنانة الله صبرا على الأذى، حتى يأتى الله لك بالنصر.. ومازلنا ننظر إلى جوها وجبالها حتى توارت عن أعيننا».
أولياء الثورة في كولومبو
وما أن رست السفينة التي تقل المنفيين على ميناء كولومبو، حتى تجمعت حشود من المسلمين من سكان سيلان، لاستقبال عرابي ورفاقه، وانضم إليهم أوربيون. وعندما نزل عرابي إلى الشاطئ ارتفعت الأصوات بالصياح والهتاف وأسرع البعض ليقبل يده، ثم نزل باقي المنفيين.
لم يشأ حاكم سيلان الإنجليزى أن يغير مكان إقامة المنفيين، وفقا لما تذكره لطيفة سالم في كتابها، فقد «اعتبر أن مدينة كولومبو تلائمهم، نظرا لارتفاع نسبة المسلمين بها، فهى تبلغ 13,3 % من مجموع السكان، ويتوفر فيها أماكن العبادة، حيث ضمت سبعة مساجد، بالإضافة إلى أن موقعها قرب الجنوب يجعلها أقل تأثرا بالتيارات الهندية، وأخيرا فإن التغيير ربما يترك البصمات السيئة على المنفيين الذين هيئوا أنفسهم للإقامة فيها».
ويتذكر عرابى تلك اللحظة قائلا: «تقدمت لنا العربات فركبنا وتوجهنا إلى البيوت المذكورة، وكان قد خصص لنا بيت عظيم يسمى «ليك هاوس»، ومساحة بستانه 14 فدانا، ومعظم أشجاره من جوز الهند والموز وغيره، فتوجهنا إليه والناس مزدحمون على جانبي الشوارع من الميناء المذكور، يهتفون لنا بالترحيب والإكرام، إلى أن وصلنا إلى المنزل المذكور، وأخذنا معنا طلبة باشا عصمت وعبد العال باشا حلمى لإقامتهما معنا، حيث إنهما تركا عائلتيهما فى مصر، وكذلك توجه محمود باشا سامى مع محمود باشا فهمى، لإقامتهما فى منزل واحد، لكون الأول ترك أهله وأولاده فى مصر أيضا، وانفرد كل من على باشا فهمى ويعقوب باشا سامى فى بيت على حده لوجود عائلتيهما معهما. ويضيف عرابى: «لما دخلنا البيوت المعدة لنا أخذت تلك الطوائف تتوارد علينا للسلام بوجوه باشة، وقلوب طافحة بالمحبة والحنان ليلا ونهارا».
وبعد ثلاثة أيام من وصول الزعماء المنفيين إلى الجزيرة أقام لهم كثير من أعيانها وتجارها الولائم، واشترك في ذلك المسلمون وزعماء الطوائف الأخرى، واستمرت تلك الولائم عدة أيام. ورغم أن عرابي ورفاقه كانوا ضيوفا على أهل الجزيرة، إلا أن الأصل الشرقاوي لعرابي نضح عليه، فقرر إقامة وليمة كبيرة لزعماء الطوائف وكبار المدينة، «أقمنا وليمة جامعة لأعيان المسلمين والإنجليز والتاميل والسنهاليز (المجموعتان العرقيتان الرئيسيتان في الجزيرة)، وكان عدد المدعوين إليها 200 شخص من مختلف الأجناس والمذاهب والمعتقدات.. شكرنا فيها لهم حسن حفاوتهم بنا» يقول عرابي في مذكراته.
ويصف عرابي في خطاب أرسله إلى صديقه السير برودلي في 24 يناير من عام 1883 الحفاوة التي استقبله بها أهل سرنديب قائلا: «وقد لقيتنا السلطات هنا في الجزيرة بالحفاوة، وأعدوا بيوتا لراحتنا، وزودونا بقدر كبير من الأطعمة الدسمة التي كفتنا وأسرنا بضعة أيام، ونجد الجزيرة ملائمة لسكنانا كل الملائمة، ونعتزم أن نرسل أبناءنا إلى المدارس المحلية، وأن نتعلم نحن الإنجليزية».
برودلي المحامي الإنجليزي يخبر عرابيًّا في سجنه أنه نفي إلى سرنديب
أسرى حرب
وتوضح لطيفة سالم أن عرابي ورفاقه بعد أيام من استقراراهم في الجزيرة أقروا بأنهم «أصبحوا أسرى حرب»، فالحاكم لونجدن كان «يستشعر خطرا في امكانية قيام حركة إسلامية في الهند وسريلانكا»، وتخوف من النظرة للمنفيين على اعتبار أنهم «أبطال ومخلصون لوطنهم وأن عرابي يعد قائدا من قواد المسلمين» الذين كان عددهم في الجزيرة آنذاك 200 ألف شخص يتكلمون اللغة العربية «كما يتكلمها المصريون»، لهذا فرض الرقابة على تحركاتهم ولم يسمح للجمهور بالاتصال بهم أو دخول منازلهم، كما تلقوا تحذيرا ألا يغادروا الجزيرة إلى الهند.
ومن التحذيرات التي تلقوها «ألا تكون لهم صلة بالسياسة أو الاتصال بمصر»، ففرضت الرقابة على مراسلاتهم مع ذويهم في القاهرة وأبلغهم بذلك حاكم الجزيرة بعد معرفته بإرسالهم خطابات لشركائهم في الثورة، وكان وزير المستعمرات يشتبه في أن تكون بين عرابي «وبين المهدي في السودان» خطابات متبادلة.
(يتبع)