*أودو بولاما بوكارتي – باحث في «مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية» (SOAS) بجامعة لندن، ومحلل في «معهد توني بلير للتغيير العالمي»
*عرض وترجمة: أحمد بركات
يعاني سكان نيجيريا، الذين يقدر تعدادهم بحوالي 200 مليون نسمة، من مستوى عنف مثير للقلق، ومدفوع بمزيج مسمم من الجماعات المتطرفة الوحشية، والعصابات الإجرامية، إضافة إلى الإشكاليات التي خلفتها أزمة الأراضي الزراعية في البلاد.
وتدور هذه الأزمات جميعها في فلك واحد، وتتغذى على بعضها البعض، بحيث يصعب فهم كل منها على حدة. وتعتبر جماعة «بوكو حرام» أحد أبرز ’اللاعبين‘ – أو أبرزهم على الإطلاق – في حلقة العنف التي تشهدها المنطقة حاليا، بوصفها تنظيما سيء السمعة يدعي القتال دفاعا عن الإسلام.
على مدى العقد الماضي، في الفترة بين عامي 2009 إلى 2019، شنت «بوكو حرام» حملة عنف شامل، وعاثت فسادا في منطقة بحيرة تشاد، التي تضم شمال نيجيريا وجنوب شرق النيجر وأقصى شمال الكاميرون وغرب تشاد. وتشير بعض التقديرات إلى أن الجماعة قتلت 18 ألف شخص، وتسببت في نزوح مليون شخص آخرين، مما أدى إلى نشوب أزمة إنسانية واسعة النطاق.
في عام 2014، صنفت «بوكو حرام» على أنها أكثر الجماعات الإرهابية فتكا في العالم، حيث قتلت – في هذا العام وحده – 6600 شخص. تشتهر بوكو حرام أيضا بعنفها ضد الأطفال، فقد لفتت أنظار وسائل الإعلام الغربية لأول مرة في أبريل 2014 عندما قامت باختطاف 276 فتاة من أحد عنابر مدرسة في قرية تشيبوك في شمال شرق نيجيريا.
وتستخدم الجماعة الفتيات كعبيد جنس وخادمات في المنازل، كما تستخدمهن كقنابل بشرية لاستهداف مواقع مدنية، مثل الأسواق والمستشفيات ومخيمات النازحين ودور العبادة، وغيرها. وتضم الجماعة أيضا آلاف الصبية (الذكور) الذين تجندهم في جيشها، وتجبرهم على القتال في مقابل البقاء على قيد الحياة. وبهذه الطريقة – إضافة إلى طرق أخرى سيرد ذكرها – أسست جماعة بوكو حرام نفسها كقوة هائلة، حيث تبدو في الوقت الراهن أشد قوة من أي وقت مضى، وذلك بموجب أعداد القتلى الذين تمكنت من إسقاطهم من صفوف قوات الأمن النيجيرية في عام 2019، والبالغ عددهم 750 قتيلا، وهو أعلى رقم تشهده المواجهات منذ اندلاع عمليات العنف.
نشأة الجماعة.. ومنظروها
تشكلت جماعة بوكو حرام في الأصل في عام 2003. وتنقسم الحركة اليوم إلى ثلاثة فصائل، هي «جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد»، والتي تُعرف على المستوى العام باسم «بوكو حرام»، ويقودها «أبو بكر شيكاو». وكان شيكاو هو القائد الوحيد للجماعة منذ عام 2009 حتى وقوع الانقسام الأول في صفوفها عام 2012، عندما قام أعضاء ساخطون على عمليات القتل العشوائي التي يمارسها شيكاو ضد المدنيين، بتشيكل «جماعة أنصار المسلمين في بلاد السودان».
وفي أغسطس 2016، في أعقاب تحدي شيكاو لإعلان تنظيم الدولة الإسلامية بعزله، حدث انشقاق آخر في صفوف الجماعة تمخض عنه ظهور «تنظيم الدولة الإسلامية – ولاية غرب أفريقيا» كحركة تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (دولة الخلافة آنذاك).
وتنشط «جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد» و«تنظيم الدولة الإسلامية – ولاية غرب أفريقيا»، اللذان يضمان ما بين 5000 إلى 7000 مقاتل، في منطقة بحيرة تشاد، حيث تتركز عملياتهما على شن هجمات ضد التشكيلات العسكرية، وقتل المدنيين، والإغارة على القرى وحرقها، وتنفيذ عمليات اختطاف.
أما «جماعة أنصار المسلمين في بلاد السودان» فتتخذ من شمال غرب نيجيريا مقرا لها. ولم تنسب هذه الجماعة لنفسها أي هجوم منذ عام 2013، رغم أنها لا تزال تُصَدر رسائل تستهدف ضم مجندين جدد، ونشر التطرف بين العامة. وقد صدرت مؤخرا عدد من التقارير تفيد بأن مقاتلي «جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد» و«تنظيم الدولة الإسلامية – ولاية غرب أفريقيا» ينشقون عن جماعاتهم، وينضمون إلى جماعة «أنصار المسلمين في بلاد السودان»، بسبب الضغوط العسكرية الواقعة عليهم في منطقة بحيرة تشاد، وهو ما يفاقم خطر تجدد العنف من قبل جماعة «أنصار المسلمين في بلاد السودان».
ووفقا لروايات قيادات الجماعة، فقد استلهمت جماعة بوكو حرام، منذ نشأتها في عام 2003، من العديد من المنظرين الأيديولوجيين والأحداث والجماعات في جميع أنحاء العالم، مثل أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة. رغم ذلك، وبغض النظر عن العديد من الكتب وأكثر من 500 تقريرومقالة تناولت الجماعة عنها منذ نشأتها، فإنه لا يٌعرف عن الأصول الأولى لتنظيم «بوكو حرام» سوى النذر اليسير، حتى من قبل النيجيريين أنفسهم. ويرجع ذلك إلى أن الأدبيات المتاحة عن الجماعة تقوم بالأساس على تقارير إعلامية غير محققة، صاغها باحثون قضوا وقتا قليلا للغاية في هذا المجال، وعدد محدود من الذين أجريت معهم مقابلات، ولا تخلو تقاريرهم من التحيز.
حلقة كاناما
وبينما تواصل بوكو حرام نشر الفوضى الدموية، تتواصل أيضا النقاشات حول نشأتها، والعلاقات التي تربطها بالجماعات الجهادية المزعومة الأخرى. وينقسم الباحثون إزاء ذلك إلى معسكرين كبيرين؛ أولهما باحثون مثل أليكس ثورستون وآدم حجازي وكياري محمد، الذين ينظرون إلى بوكو حرام باعتبارها جماعة ذات جذور محلية، أي جماعة تولدت عن عوامل منهجية وهيكلية متجذرة في البيئة المحلية، بينما ينظرون إلى تأثير تنظيم القاعدة والجهادية العالمية بوجه عام على الحركة باعتباره هامشيا وغير نافذ.
وثانيهما فريق من الباحثين، بقيادة أندريا بريجاجليا ويعقوب زين، ينكر أهمية العوامل المحلية ويثمنون دورالتنظيمات الجهادية العالمية، وبخاصة القاعدة، في صعود وتطور بوكو حرام. وفي القلب من هذا الجدل، الذي تحول مؤخرا إلى تراشق غير موضوعي، توجد ’حلقة العنف‘ التي وقعت في الفترة بين عامي 2003 و2004 في كاناما، وهي قرية نائية في شمال شرق نيجيريا. تتعلق هذه الحلقة بمجموعة شكلت البذور التي ستصبح فيما بعد «بوكو حرام».
على مر السنين، أصبحت هذه ’الحلقة‘ علامة فارقة في تاريخ بوكو حرام. ولا نبالغ إذا قلنا أن جميع الباحثين الذين تناولوا بالبحث نشأة بوكو حرام قد كرّسوا جزءا من جهدهم الأكاديمي لهذه الحلقة. رغم ذلك، يحفل التحليل البحثي والإعلامي لهذا الحدث بالتناقض والالتباس والمبالغة.
وينكر الباحثون أقوال بعضهم البعض، سواء عن قصد أو عن غير قصد. وتتباين الروايات عن أحداث هذه الحلقة بدرجة كبيرة، مما يشير إلى حالة من عدم الوضوح العام تتعلق بالحادثة، وعدم الدراية الكافية بتفاصيلها من جانب الباحثين. يرجع ذلك إلى أن جميع الكُتاب يعتمدون بالأساس على معلومات منقولة (غير مستمدة من شهود عيان مباشرة) غالبا من تقارير إعلامية غير محققة، اعتمدت بدورها أيضا على معلومات منقولة دون تقييم نقدي لمصداقية مصادرها؛ ومن ثم فهي تمثل حالة كلاسيكية من ’قلة الأدلة وكثرة الالتباس‘.
ما يمكن قوله دون جدل هو أنه في وقت ما من عام 2003، ذهبت مجموعة أغلبها من الشباب من مدينة مايدوجوري، ومدن أخرى في شمال نيجيريا، إلى الجزء الشمالي من ولاية يوبي في الشمال الشرقي، بالقرب من الحدود مع النيجر. وهناك، في الصحاري النائية، قاموا بتأسيس جماعة انفصالية متشددة عرًفت نفسها بالتضاد مع «التأثيرات الفاسدة لحياة المدينة».
وفي أواخر عام 2003، اشتبكت هذه الجماعة مع قوات الشرطة، وتمكنت من نهب أسلحتهم ومراكبهم، لكن الجيش سرعان ما تدخل، ونجح في تفكيك الجماعة، حيث قتل بعض أعضائها وألقي القبض على آخرين. أما من تبقى من هذه المجموعة فقد شكّل النواة الأولى لجماعة «بوكو حرام».
وفي ضوء الجدل الدائر حول هذه الواقعة والالتباس الذي يكتنف أحداثها، يصبح البحث في أغوار هذا الحدث من باب الفريضة العلمية، ليس فقط لقيمته الأكاديمية والتاريخية، وإنما أيضا لأنه يسهم في فهم البدايات الأولى لنشأة الحركة، وهو ما سينتج عنه تداعيات سياسية مهمة يمكن الاستفادة منها في الظرف الراهن. فمن بين أشياء أخرى، يمثل فهم ملابسات نشأة بوكو حرام محورا مهما في جهود دحر الحركة، وفي التقاط أجراس الإنذار المبكر الخاصة بجماعات مشابهة، من أجل الحيلولة دون وصولها إلى ما وصلت إليه بوكو حرام من رسوخ وتمكين.
واستنادا إلى البيانات الأولية، بما في ذلك العمل الميداني المكثف في شمال شرق نيجيريا، والوثائق الداخلية الأولية المتاحة بلغات الهوسا والكانوري والعربية، تحاول هذه الدراسة تسليط الضوء على «حلقة كاناما» من أجل وضع هذا الملف في نصابه الصحيح. وقد تحقق لنا من خلال هذا الجهد البحثي أن «مجموعة كاناما» لم تكن مركز تدريب تابعا لتنظيم القاعدة، كما فهمها البعض، كما أنها لم تكن أيضا جماعة دينية سلمية، كما ارتآها آخرون.
وبينما تؤكد هذه الورقة أنه لم يكن هناك رابط عملياتي بين «بوكو حرام» وتنظيم القاعدة في عام 2003 عندما تأسست الجماعة النيجيرية لأول مرة، إلا أن هناك أدلة على توافر الرابط الأيديولوجي بين التنظيمين منذ البداية. ويعد فهم هذه الحقيقة مهما للغاية، لتقديم تحليل موضوعي لظاهرة «بوكو حرام»، ومساعدة صناع السياسات على وضع استراتيجيات فعالة للتعامل مع الجماعة والأزمة التي تمخضت عن وجودها في المنطقة.
(يُتبع)
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي ومراجع الدراسة من هنا