نبدأ عاماً جديداً والأوضاع الداخلية للأوطان طاغية على الساحة السياسية والعلاقات بين الدول، وينتظر أن يكون «تحديد الهوية الوطنية» ثم «الإقليمية والدولية» هو القضية الرئيسة للمجتمعات والدول في بداية العقد الثاني من هذا القرن، ويشمل ذلك دولاً صناعية متقدمة تدار وفقاً لنظام ديموقراطي غربي، وأخرى متنوّعة لها أسس مختلفة للحكم، وبدرجات مختلفة من النمو الاقتصادي.
وعلى رأس قائمة الدول المشغولة بتلك القضية نجد الولايات المتحدة، أقوى وأغنى دول العالم، فشهدنا ولاية جورج بوش الابن وسيطرة المحافظين الجدد على ولايته الأولى، وميلهم إلى استخدام القوة لفرض المنظور الأميركي على ساحات العالم وربوعه، ثم 8 سنوات لباراك أوباما ذي الميول الدولية، الذي تباهى بالمبادئ والتجربة الأميركية، وتجنب استخدام القوة كلما أمكن ذلك، وفضّل الخروج من بؤر النزاعات.
والآن تعيش الولايات المتحدة في عصر ترمب انعزاليّ الهوية، الذي يستهدف المصلحة الأميركية المباشرة والعائد قصير الأجل والسريع، حتى في تقييم علاقات الصداقة مع الدول، بخاصة التي تستفيد من علاقاتها مع أميركا أمنياً واقتصادياً.
وإذا أُعيد انتخاب دونالد ترمب ينتظر أن نشهد تكثيفاً لهذه السياسات، أمّا إذا خسر السباق أمام مرشح الحزب الديموقراطي، فستنجرف الولايات المتحدة مرة أخرى إلى مرحلة سياسات «تصحيح مفاهيم الرئيس السابق»، على غرار ما قام به الرئيس الحالي ذاته، الذي توسّع في ذلك برفض كثيرٍ من السياسات التقليدية للمؤسسات الأميركية أيضاً.
أمّا إذا عُزِل ترمب، وهو احتمالٌ قائمٌ لكن مستبعد، فيتولى نائب الرئيس بنس موقعه الرئاسي، وميوله السياسية أقرب إلى جورج بوش الابن عقائديّ السمات والتزمّت، وإن كان أقرب إلى المؤسسات الأميركية من رئيسه الحالي.
في أيّ من تلك الاحتمالات الثلاثة ستتحرّك البوصلة السياسية الأميركية وفقاً لاعتبارات داخلية وتترنّح بين هوية انعزالية حادة الطباع، وفرض هوية عقائدية على المواقف الأميركية التقليدية، وثالثهم نبذ ما هو قائم والعودة إلى أسس قديمة للسياسات الأميركية التقليدية، مع الترشيد الشديد في استخدام القوة، في كل الأحوال سيكون عام 2020 وما نشهده من تغيرات عاماً حاسماً في تحديد الهوية الأميركية المقبلة في بداية القرن الـ21.
وأوروبا أمام معضلة تحديد الهوية أيضاً، فبعد أن انشغلت طوال العامين الماضيين بتداعيات ممارسات رئيس أميركي غير تقليدي وحاد الطباع، غير مرتاح لسياسات أعضاء الحلف الأطلنطي وتقاسم الأعباء فيه، وبعد أن حسم أمر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بصرف النظر عن ترتيبات المرحلة الانتقالية المكلفة التي قد تطول، فسيكون على أوروبا أيضاً تحديد هويتها لوجود تباين في القارة حول فلسفة ومعايير تباهت بها أوروبا بخاصة في الترويج لحقوق الإنسان والالتزام باحترام استقلالية القضاء، وتطبيق القوانين الأوروبية على جميع أعضائها، وتوجد توترات واضحة في هذا الصدد مع بولندا والمجر، ومشكلات أيضاً مع مالطا وكرواتيا.
وتوجد قضايا عديدة أخرى مرتبطة بتحديد الهوية الأوروبية، مثل كيفية التعامل مع التحديات الاقتصادية لأعضائها مع الفروق الواسعة بين المستويات الاقتصادية لدولها، وتحديد الدور العالمي المأمول لأوروبا، فهل تظل الداعم الاقتصادي للسياسات الأميركية، أم تلعب دوراً سياسياً أكثر استقلالية بكل ما يحمله ذلك من أعباء ومسؤوليات، وقد تحدّث الرئيس الفرنسي ماكرون أخيراً عن أهمية بناء جيش أوروبي، وانتقد فشل الحلف في طرح أفكار مبتكرة في عالم جديد وساحة دولية متغيرة.
وفي آسيا، أمام الصين خيارات بين الاستمرار في الانفتاح الاقتصادي وتشجيع القطاع الخاص مع تحمّل ما يفترض أن يترتب عليه من تنامي نفوذ وطلبات القطاع الخاص للمشاركة في ترتيبات حكم البلاد أو على الأقل الاقتصادية منها، وبين إعادة تقييد المساحة المتاحة للقطاع الخاص، ويوجد تساؤل مهم أيضاً حول توجهات الصين المستقبلية مع جيرانها، وأتذكر مقولة لأحد القادة الآسيويين الحكماء بأنه إذا كان واجب الحذر من تنامي القوة الصينية، فيجب أن نشعر بقلق بالغ والانزعاج الشديد من صين مضطربة وقلوقة وتشعر بعدم الثقة.
وتمر روسيا بمرحلة استقرار داخلي إلى حد كبير، وينتظر أن يستمر ذلك خلال عام 2020، وتحديد الهوية بالنسبة لها يرتبط بدرجة أكبر بالنسبة لدورها الدولي ومكانتها كدولة عظمى سابقة، بعد أن سقطت إلى المرتبة الثانية مع تفكك الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو، قبل أن تستعيد قدراً من عافيتها تحت الرئاسة القوية لبوتين وممارسته دبلوماسية قديرة، ومع هذا توجد مراجعة جارية بين توجهها لأوروبا أو آسيا ودورها في سوق الطاقة العالمية، ومع تركيا في المشرق والمناطق المجاورة، ومع الصين الصاعدة بقوة دولياً، التي قد تكون منافساً مستقبلاً بقدر ما هي طرف متعاون حالياً، وهنا نلاحظ الاهتمام الروسي بانعقاد القمة الروسية الأفريقية الأولى، وكلها خطوات نحو تخفيض التركيز على أوروبا دولياً، لصالح توجه آسيوي بمنظور مستقبلي.
وأعتقد أن التطورات الداخلية ستكون حاسمة في توجهات عديدة في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي، فسنشهد في الربع الأول من العام الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية الثالثة، التي ستحسم على أقل تقدير المستقبل السياسي لبنيامين نتنياهو، وإن كان من الصعب وضع تصور واضح للرؤية الإسرائيلية المقبلة حتى الآن نظراً لتقارب القوة الانتخابية الإسرائيلية، مما يرجح أن تُشكّل الحكومة الإسرائيلية المقبلة مثل الكثير مما سبقوها من ائتلاف بين أطراف عديدة.
وعربياً، ليس من المبالغة القول إن 2020 سيكون عام تحديد مدى استمرار مصداقية الهوية العربية السياسية من عدمه، فالتغيرات المجتمعية الداخلية التي نشهدها في الدول العربية عديدة، وهناك عدم استقرار في عدد غير قليل منها، كلها تجعل الأجندة السياسية الداخلية طاغية على اهتمامات وأولويات الدول العربية الإقليمية، ومؤثرة سلباً على قدرات تلك الدول والتعامل بفاعلية مع التحديات الإقليمية العديدة التي يشهدها الشرق الأوسط.
لذا، على العرب التوصل إلى معادلة اجتماعية جديدة بين الحكومات والشعوب، للاستجابة إلى تطلعات مواطنيها، تضمن لهم الأمن والأمان والتنمية، وكذلك المشاركة السياسية لضمان الاستقرار، إنما عليهم أيضاً الدفع نحو مواءمات وطنية عربية تحافظ على الهوية الوطنية وتحترم التوجهات السياسية المتعددة في مجتمعاتنا في آن.
ومن الملفت أن الأشهر الثلاثة الأخيرة شهدت تغيرات أو تعديلات حكومية في الجزائر وتونس ومصر والسودان ولبنان والأردن والعراق والكويت والسعودية، فضلاً عن تواصل الأزمات في ليبيا وسوريا واليمن وغيرها.
وسيواجه العرب طوال العام المقبل انهيارات وتدخلات في الساحة الليبية، ومحاولة لإعادة التوازنات في غير صالح العالم العربي مشرقياً، وعجرفة تركيا وغرور إيراني، فضلا عن تعنت إسرائيلي وانحياز شديد في المواقف الأميركية يتعارض مع أسس عملية السلام بعدم جواز الاستيلاء على الأرض بالقوة، وتصعب من إقامة الحل السلمي على أساس دولتين بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، فضلاً عن عدم اعتبار الاستيطان الإسرائيلي مخالفاً للقانون الدولي.
بعد عام مضطرب يُنتظر أن تحسم الهوية الداخلية والإقليمية والدولية الكثير من الأمور، وعلى المجتمع الدولي تحديد ما إذا كانت هويته انعزالية ومحصلة أعضائه، أم هوية جامعة تتحرك وتتفاعل وفقاً لنظام دولي متكامل مع احترام خصوصية أعضائه، نظام تحكمه قوة القانون لا قانون القوة.
وعلى الولايات المتحدة الاختيار بين أن تكون دولة كبرى تستفيد من الفرص المتاحة، أو أن تكون دولة عظمى وعمود رئيس لنظام دولي تتحمل مسؤولية رائدة في صيانة أسس وضمان الأمن والسلم الدوليين.
وعلى روسيا إيجاد التوازن الملائم بين تطلعاتها الآسيوية واهتماماتها الأوروبية، ولعلها فرصة لدفع النظام الدولي لتغيير نقطة ارتكازه من الأطلنطي إلى نقاط متعددة عبر العالم.
وعلى الصين الوصول إلى توافق وطني بين الانفتاح الاقتصادي والسياسي، وبين أن تكون سياساتها مكملة أو رد فعل للسياسات الأميركية والروسية أم سياسات مبادرة لقوة عظمى.
وعلى أوروبا إعادة تحديد الهوية الأوروبية، بعد أن تغيّر عالم القطبين، واتسعت الساحة الأوروبية بأعضاء جدد، وانكمشت بخروج أو انحصار دول رئيسة فيه.
وعلى العالم العربي اتخاذ زمام المبادرة بمعالجة أموره وأوضاعه، بتجديد معادلة مجتمعية جديدة في أغلب دوله، وبتفعيل العمل العربي والدبلوماسي والمبادرة في التعامل مع قضايا شمال أفريقيا والمشرق والخليج، حماية لمصالحها وحفاظاً على مكانتها الإقليمية.
وعلى تركيا اختيار هوية واقعية ووطنية، فلن تُقبل كدولة رائدة في أوروبا أو العالم العربي لاعتبارات سياسية وثقافية.
وعلى إيران الخروج من منظور «العالمية»، والقبول بأنها دولة شرق أوسطية، ما يتطلب قبل كل شيء النقاش والتعايش السلمي مع جيرانها.
وعلى إسرائيل أن توقن أخيراً أنها لن تحظى باستقرار وأمان دائم على حساب الحقوق الوطنية للفلسطينيين أو العرب، وأن العلاقات الشاملة تتطلب احترام القانون الدولي والحقوق التاريخية للآخرين.
نقلا عن: اندبندنت عربية