فن

المعادلة الصعبة.. من يصدّر العنف والبذاءة للآخر.. الفن أم المجتمع؟

هل سمعت عن «ولاد رزق» إحنا نسخة منهم؟ هكذا صرخ الشاب في حارسه أمام باب وكيل النائب العام، حيث كان يقف مع مجموعة من أصدقائه في انتظار التحقيق معهم، قبل أن يواصل بحدة قائلا «اللي يجي علينا نقطعه يا عمنا».

هذا الموقف الذي رواه أحد المحامين عبر صفحته على مواقع التواصل الإجتماعي، يشير لحجم تأثير الشخصيات الدرامية على كثير من الشباب و الصبية والمراهقين، خصوصا تلك النماذج التي تتمرد علي «الكليشيهات التقليدية» وتحلق  بعيدا عن السائد والمتداول إجتماعيا.

الأمر الذي يجعلنا نسأل هل الفن حقا «مرآة للواقع»، بحيث يتأثر صناع الدراما قهرا لا اختيارا بكل ما يدور حولهم وينقلونه للشاشات سواء عبر السينما أو التليفزيون؟، أم أن العكس هو الصحيح، إذ يتم تصدير العنف وكثير من الظواهر السلبية للمجتمع وخاصة العنف عبر مشاهد تبثها الدراما و يتأثر بها المشاهد و خاصة الأطفال؟ 

بإختصار من يصدر العنف والبذاءة للآخر المجتمع أم صناع الفن؟ وهل المطالبة بحذف هذه المشاهد، التي يتحفظ عليها البعض بوصفها خارجة عن السياق، وصاية على الإبداع و ضد الحريات كما يرى البعض؟، أم أنها مجرد محاولات لضبط موازين القيم والأخلاق التي انحدرت وباتت في أسفل سافلين؟

 وهذا ما يقودنا إلى سؤال آخر عن حدود دور الفن، وهل هو تقويم السلوكيات أم فقط لفت الأنظار إلى الظواهر المنحرفة والتنبيه لمدى خطورتها؟ وحتى لا نحمله فوق طاقته برسائل و مواعظ، بينما دوره الأهم من وجهة نظر البعض هو الترفيه والتسلية؟

استسهال

المؤكد أن التدني وهبوط المستوى لا يتعلق فقط بالدراما، لكنه يمتد لكثير من أشكال الفنون ربما في مقدمتها الغناء بشكل عام وليست فقط  تلك الأغاني المسماة «بالمهرجانات». إذ بات من الصعوبة أن تضبط نفسك معجبا بكلمات إحدى الأغنيات بعدما داعبت وجدانك، فتنفذ لقلبك من دون إستئذان، فهل نجوم الغناء – رغم تميزهم فيما سبق- لم يعد يشغلهم تدقيق اختياراتهم لكلمات أغانيهم وانحازوا لموجة الإستسهال التي سيطرت على كثير من تفاصيل المشهد الفني؟، أم أنه في إطار البحث عن الجديد والمختلف ينحاز صناع الفن لكل ما هو غريب و شاذ؟

يعترف الناقد الفني مجدي الطيب بأن ما نعيشه حاليا من ترد فني ،هو انعكاس لما يدور حولنا من ترد وتدن على مستويات عدة، والفن بكل تنويعاته ليس إلا انعكاسا أو ترجمة لما يعيشه الفنان علي أرض الواقع.. بتعبير أدق ما يعيش فيه ويتأثر به، الاختلاف الوحيد يكمن في طرق التعبير عنه، فهناك من يعكس الواقع حرفيا في نقل لغته وأسلوبه و مجمل مفرداته بدعوى «الواقعية»، فيما البعض الآخر يلجأ لتهذيبه أو تنقيته من بعض الشوائب الي لا تصلح للظهور من خلال الأعمال الفنية سواء درامية أو عبر الأغنيات. 

الناقد الفني مجدي الطيب

نفس الرأي يؤكده أيضا السيناريست محمد سليمان عبد الملك مشيرا إلى أن الخلطة التجارية وكل ما هو غريب و شاذ، بات يغري بعض صناع الفن، فيتخيلون أنه سيسهم في نجاح أعمالهم بصورة أكبر، وهو ما ليس حقيقيا بالضرورة.. صحيح أن الفن عموما يتأثر بالواقع، لكنه في نفس الوقت يؤثر فيه، بمعنى أدق هناك بعض الظواهر تعرف طريقها للشاشات عبر الواقع الذي يفوق الخيال في أحيان كثيرة، بينما في حالات أخرى يتأثر الواقع بالمعروض فنيا و بالأخص مشاهد العنف التي تركت أثرها سلبيا على الأطفال تحديدا، فنراهم يقلدون الكثير من نجومهم المحبوبين، وهو ما نحذر منه دوما، بضرورة تخفيف مشاهد العنف أو المخدرات أو غيرها من السلوكيات السيئة بالأعمال الفنية.

عبد الملك و الطيب يتمسكان بالجودة والمصداقية من دون إدعاء كمعيار وحيد و أكيد للنجاح، فالجودة فقط  هي القادرة علي جذب الجمهور و إجباره علي متابعة هذه الأعمال حتى في المواسم التي لا تحظى بكثافة المشاهدة، مدللين على ذلك بكثير من الأعمال التي حققت نجاحا كبيرا لكونها انحازت للصدق وفقط، مقابل أعمال أخري توافرت لها كل عناصر الجذب ولكنها فشلت تماما، ما يعنى أن العمل الجيد يستطيع أن يفرض نفسه فى أى وقت و يلاحقه الجمهور على أى وسيط فضائي أو إلكترونى.

السيناريست محمد سليمان عبد الملك

تفعيل الحنين

كلما تعالت أصوات القبح و امتلأت الشاشات بمشاهد وألفاظ شديدة التدني و الإسفاف، يسترجع أكثرنا أزمنة الفن الجميل وكيف كان صناعه ينتصرون للمشاعر الإنسانية التي باتت مفقودة الآن، حتى اللغة نفسها، وما كانت تحمله من رقي وتحضر نفتقده بشدة في أعمال يتسم أكثرها بالبذاءة سواء فيما يتعلق باللغة أو طبيعة العلاقات التي ترصدها هذه الأعمال.

https://youtu.be/ocIpYJV2H9M

بعيدا عن «تفعيل الحنين» لزمن و ماض جميل لماذا وكيف وصلنا لهذا التدني علي أرض الواقع ما إنعكس علي الفنون؟

 يرجع الناقد مجدي الطيب هذا الانهيار في القيم والمعايير والأذواق إلى افتقادنا إجتماعيا «مشروع قومي» نلتف جميعا خلفه وندعمه و ينشغل الجميع لإنجاحه، وهو ما كان متحققا في الستينيات من القرن الماضي، و نفتقده الأن للأسف.

وتوافقه الرأي د. منال عمران أستاذ علم الإجتماع بالمركز القومي للبحوث الإجتماعية والجنائية، مشيرة إلى أن الحنين لأزمنة مضت هو رد فعل طبيعي لما نراه حولنا من فساد و إفساد طال الكثير من جوانب الحياة و لأسباب عديدة ربما في مقدمتها الضغوط الإقتصادية التي أفرزت أسوأ ما فينا ما انعكس بالتالي على منظومة القيم والأخلاق التي تراجعت لأسباب أخري كثيرة تحتاج لتكاتف الكثير من مؤسسات الدولة و إعلامها لتصحيح المسار خصوصا في ظل ارتفاع نسب الجهل والبطالة، فكيف لنا مثلا أن نحفز شابا على استكمال تعليمه بينما يرى غيره يبيع المخدرات فيكسب الملايين، أو يغني «مهرجانات» فيجمع بين الشهرة والملايين في ضربة واحدة.

أما عن التأثير والتأثر بين المجتمع والفنون بشكل عام والدراما علي وجه خاص فتشدد عمران على ضرورة التعامل بحذر في نقل الواقع، مؤكدة أن «المصداقية» ليست مبررا للهبوط مثلا بمستوى الحوار في الأعمال الفنية أو كلمات الأغنيات ولكن يمكن لأهل الصناعة رصد كل ما طرأ علي المجتمع من تحولات بلغة فنية راقية و معبرة.

المعادلة الصعبة

الجمهور يدرك الواقع جيدا و يعيشه بآلامه ومعاناته وفي أحيان كثيرة ينجح في ترجمته بمصداقية تفوق أهل «الصنعة» نفسها، حقيقة يشير إليها السيناريست محمد سليمان عبد الملك مؤكدا أن الجمهور الآن لم يعد ينتظر الفنان ليعبر عنه، ولكنه وعبر وسائط متعددة وفرتها التكنولوجيا المتطورة أصبح قادرا على مخاطبة الجميع بما فيهم النجوم، ما يصعب بالقطع مهمة أهل الفن قدرة الجمهور على رصد معظم الظواهر التي نعيشها و التعبير عنها بحلوها ومرها و بجرأة أيضا، وبعيدا عن «تنقيح الواقع».

 وهنا تكمن الخطورة كما تؤكد د. منال عمران أستاذ علم الإجتماع نظرا لأن نقل الشارع بكل ما فيه أجبر أهل الصناعة علي اللهاث وراء ما ينشر عبر مواقع التواصل و غيرها من وسائل التعبير التي لجأ لها الجمهور بحكم آليات العصر و تطورها و نظرا لقصور أهل الفن في ترجمة الكثير من همومهم ومعاناتهم، ما يفسر كثيرا هذا الكم من التدني الذي بات يحاصرنا واقعيا وفنيا.

مرة أخري هل يجب علي الفنون عامة ترجمة الواقع بكل تفاصيله ومن ثم نقل لغته بكل ما عليها من تحفظات؟

قبل سنوات كانت الدراما تتحفظ كثيرا في استخدام لغة الشارع حتى لو تناولت شخصيات تنتمي للعشوائيات، مقابل السينما الأكثر جرأة في تناول العلاقات و الشخصيات و حتي العادات و التقاليد والكثير من المفاهيم لم يتحرج صناع السينما من تناولها بجرأة وكانت حجتهم دوما أن الجمهور يذهب للسينما بإرادته الحرة المستقلة بعكس الدراما التلفزيونية التي تقتحم البيوت من دون استئذان لذا يجب التعامل معها بتحفظ شديد، إلا أنه ومؤخرا سارت الدراما علي نفس درب السينما و شاهدنا أعمالا كثيرة كانت لغة الحوار فيها هابطة إلى حد كبير، ما يرجعه البعض إلى التحول في لغة الشارع والتي باتت معها المصطلحات الغير لائقة مقبولة من مختلف الطبقات في ظل غياب دور المؤسسات التي تقع على عاتقها إعادة الانضباط للشارع كما تقول د. منال، ما ينعكس بالتالي على الشاشة.

المؤكد أن الحل لا يكمن أبدا في المنع أو المصادرة، ولكن في فتح المجال أمام الإنتاج الجيد القادر وحده على الصمود أمام هذا التردي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock