يعد التنوع والاختلاف من دلائل حيوية الأمم وتجدد دمائها، لكن نعمة التنوع والاختلاف تنقلب إلى نقمة عندما تتجاوز حدودها، وتصبح تطرفًا وتزيّدا ونوعًا من أنواع العناد والمكايدة، فتذهب أنت شمالًا وأذهب أنا جنوبًا، لا لشيء إلا لكي لا ينزل أحدنا على رأي صاحبه!
الحادث الآن على الساحة المصرية هو نوع من أنواع التطرف الفكري والثقافي بين فريقين عظيمين من الأمة، يتنافران في تطرف عجيب فلا يقدم أحدهما الخدمة المنتظرة منه وهى تنوير الأمة والأخذ بيدها إلى سلم التطور والترقي.
طاعون عمواس
فشا فيروس «كورونا» في الصين، التي تعد قاطرة التنمية على المستوى العالمي، اجتهد الأطباء في محاصرة هذا الفيروس المميت، وعملت الدولة الصينية بمساعدة عالمية على التخلص منه، وكل هذا طيب ويتوافق مع رقي العقل الإنساني، إلا أن فريقًا من المصريين قدم قراءة غاية في التطرف لانتشار الفيروس، فقال قائلهم: إن الله يعاقب الصين بفيروس كرونا جراء ظلمها لمواطنيها المسلمين!
ما هذا الكلام العجيب؟. متى كانت الأوبئة والأمراض بل والبراكين والزلازل دليل على سخط الله على قوم من الأقوام؟
إن أصحاب هذا التفسير المريب لم يتلفتوا إلى الكيان الصهيوني الذي يظلم فلسطين ويقتل شعبها لم يمسسه سوء، فهل معنى هذا أن الصهاينة قد شملهم الله برضوانه؟
ثم تناسى القائل بالتفسير الديني للأوبئة أن المسلمين الأوائل الذين هم خير أصحاب لخير نبي قد ضربهم الطاعون مرتين في سنة واحدة، فقد ضرب الطاعون المسلمين في عهد الفاروق عمر بن الخطاب، حيث ضرب البصرة والشام، وقد أسفرت كتب التاريخ في الحديث عن طاعون الشام الذي ظهر في قرية فلسطينية تعرف باسم عمواس وقد راح ضحيته جماعة من خيرة صحابة الرسول على رأسهم معاذ بن جبل، كما راح ضحيته أبو عبيدة بن الجراح الذي جاء في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل أمة أمينا، وإن أميننا – أيتها الأمة – أبو عبيدة بن الجراح» فهل كان تعالى ساخطًا على الفاروق عمر وعلى معاذ بن جبل وعلى أبي عبيدة؟
لوحة تخيلية لطاعون عمواس
كان يجب على العقلاء الرد على القائل بسخط الله على الصين، وكان يجب أن يكون ردهم عاقلًا، ولكن الذي حدث هو أن تطرفه قد جلب تطرفًا مضادًا، فقال الذين ردوا: إن الطاغية التي أهلكت قوم نبي الله صالح والريح الصرصر العاتية التي أهلكت قوم نبي الله هود والطوفان الذي أهلك قوم نوح ، كل هذه العقوبات وغيرها، ما هى إلا أساطير مأخوذة من الملاحم القديمة خاصة ملحمة جلجامش البابلية!
ماذا نقول لهؤلاء؟ لن نستطيع الرد، لا لعجز، ولكن لأنهم من الذين استغشوا ثيابهم ووضعوا أصابعهم في أذانهم فهم لا يريدون رؤية محدثهم ولا سماع كلامه. هم في عناد مع شيخ ذهب يمينًا فتطرفوا هم يسارًا، فداسوا في طريقهم التوراة التي هى منبع من منابع قصص الأمم الغابرة، فليس القرآن فقط هو الذي خلد الطوفان، بل إن التوراة تناولت أدق تفاصيل هذا الطوفان.
الحق أن الفريقين يركبان مركب العناد والتطرف ويتهربان من مسئوليتهما الحقيقة ألا وهى تنوير الأمة.
كارثة الختان
لم تكن لتهدأ أزمة كورونا، حتى شبت نيران أزمة ختان الإناث، فقد احتفلت الأمم المتحدة باليوم العالمي لمنع ختان الإناث، وهذا طيب وجيد وأمر صالح يجب مباركته ودعمه، وقد شارك الأزهر الشريف في دعم هذا التوجه، بأن قام إمامه الشيخ أحمد الطيب بإرسال رسالة إلى معالي النائب العام المصري جاء فيها: «لقد تبين للأزهر الشريف من خلال ما قرره أهل الفقه والطب الموثوق بهم وبعلمهم أن للختان أضرارًا كبيرة تلحق شخصية الفتاة بشكل عام وتؤثر على حياتها الأسرية بعد الزواج بشكل خاص، بما ينعكس سلبًا على المجتمع بأسره، وبناء عليه قرر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف بعد أن تدارس موضوع الختان من كافة جوانبه الفقهية الصحيحة وبإجماع أعضائه بجلسة أن الختان لم ترد فيه أوامر شرعية صحيحة وثابتة لا بالقرآن ولا فى السنة، وأنه مجرد عادة انتشرت فى إطار فهم غير صحيح للدين، وثبت ضررها وخطرها على صحة الفتيات. وبذلك يكون الختان محظورًا ويكون إيقاع العقاب على من يزواله أمرًا جائزًا شرعًا».
هل كلام الأزهر طيب أم خبيث؟… أي عاقل سيقول: هذا كلام طيب ويجب البناء عليه لمحو آثار تلك الكارثة التي تدفع بناتنا ثمنها قربانًا لعادات قديمة لا يصح أن تظل مهيمنة ومسيطرة.
هذا كلام العاقل، أما المتطرف فيستغل موقف الأزهر فيقود فريقًا عظيمًا من الناس صارخًا: يجب تجريم ختان الإناث والذكور!.. فما الذي جاء بختان الذكور في هذا السياق؟
إنه شيطان التطرف وليس غيره، فلا نعلم ذكرًا مصريًا مسلما شكا من ختانه، ولا نعلم طبيبًا قال إن ختان الذكر مضر بذكورته. عندما يقابل موقف الأزهر الداعم لتجريم ختان الإناث بهذا الكلام المتطرف والهزلي، فلن يكون عجيبًا أن يتطرف بعض شيوخ الأزهر ويبحثون في الكتب القديمة عن فتوى تؤيد بل توجب ختان الإناث، فتفقد الأمة الأرض التي كسبتها قبل قليل.
كيد النساء
ثم نبتت من قلب أزمة ختان الذكور، أزمة جديدة يغذيها تطرف نعرفه باسم كيد النساء، فلأن التي قادت حملة تجريم ختان الذكور سيدة من السيدات، فقد تطرفت في مواجهتها سيدة مثلها، وكأن الأمر هو ما يعرفه أهل السينما باسم «سرقة الكاميرا» وليس أمر أمة تتوق لمن يعيدها لمكانتها اللائقة بها.
المتطرفة الثانية أمرها عجيب جدًا، فعدد متابعي حسابها على تويتر يبلغ ثلاثة ملايين مصري، وأكثر منهم يتابعونها على الفيس بوك، ثم هناك عشرات إن لم نقل مئات الملايين يشاهدون برنامجها التلفزيوني الذي جعلته منصة تطلق منها دعوة بعث «سي السيد» من مرقده، السيدة تحرض على الهواء مباشرة ضد بنات جنسها وتطالب الرجال بقمع النساء، ولا تجد بين الرجال رجلًا سوى «سي السيد» الذي لم يكن سوى طاغية خائن، أفنى ماله ونفسه وشرفه على فراش الغواني.
أين الأمة ومصلحتها في فكر السيدتين؟
لا أظن أن السيدتين تفكران في شيء سوى في سيادة منطقهما الشخصي، وفي الحصول على مزيد من المكاسب المادية والمعنوية، والتمركز تحت الأضواء الساطعة، أما الأمة ومصلحتها فلتذهب إلى الجحيم!
فتاوى الجهلاء
ولأن أيامنا عجيبة فهى لا تلد إلا كل عجيبة، ومن عجائب أيامنا أن شابًا مصريًا مسلمًا رقيق الحال، طلب بأدب بالغ وبطريقة عابرة من ثري مصري مسيحي أن يتحمل عنه تكاليف العمرة، باغت الثري المصري المسيحي الشاب بأن أعلن موافقته على دفع تكاليف رحلة العمرة، بل قال مداعبًا للشاب «أبقى أدعيلي هناك».
الأمر كله مهذب وفي غاية الرقي، وقد جرى أمام أعين متابعي حساب الرجلين، فهل نشكر الثري ونبارك للشاب؟.
بشرط تدعيلى هناك 🙏❤️ https://t.co/PT5oGwrHAb
— Naguib Sawiris (@NaguibSawiris) February 19, 2020
لا، لقد حدث العكس تماما، فقد صب ملايين من الجهلاء نيران الفتاوى الشاذة الكاذبة على رأس الشاب، وظلوا يخوفونه من قبول هدية الثري، ثم راحوا يسبونه، حتى رضخ الشاب المسكين لجهلهم وقام بإغلاق حسابه الذي كان يتواصل من خلاله مع الثري!
بعض عشرات تصدوا للجهلاء المتطرفين، ونصحوا الشاب بقبول هدية الثري وشكره عليها، ولكن الحماقة والتطرف غلبا العقل، فلم تصل أصوات العقلاء إلى الشاب الذي فقد الثري أثره بعد أن أغلق حسابه، لتضيع عليه فرصة العمرة، ولتضيع على الأمة فرصة من فرص التنوير الحق، فلله الأمر من قبل ومن بعد.