منذ الصباح الباكر نصب أهالي إحدى قرى الشرقية سرادقا كبيرًا علقوا على مداخله شعارات مكتوبة بخط اليد «الله أكبر نحن المحمديون ولله الحمد»، ثم فعلت السكاكين بعشرات الخراف فعلتها من الذبح والسلخ والتقطيع، وبعد اقتراب صلاة الظهر، بدأت أفواج الغرباء من خارج القرية تترى محتشدة داخل المخيم الكبير.
لم تشهد تلك القرية من قبل ثمة مظاهر دينية تشبه تلك التي تجرى سوى ما يفعله تنظيم الإخوان من نشاطات، أو الجماعات السلفية من جولات ومظاهر دعوية، كانت المرة الأولى التي تظهر فيها جماعة جديدة تحت مسمى «الأسرة الدندراوية».
لم تستطع التيارات الأخرى في البلدة صد الجماعة الجديدة من ممارسة فعاليتها، فقد نهضت على أيدي عناصر تنتمي لعائلات كبرى لم يكن بوسع تلك الجماعات إيقاف زحفهم، نأيا عن الدخول في صدام اجتماعي لم يكن بوسع أحد تحمل تبعاته، إلا أن الجماعات المنافسة لم تعدم وسائل التشوية والهجوم الفكري والتشوية السلوكي لتلك الجماعة الجديدة، التي وصفتها بأنها مبتدعة من جهة، أو محاولة النيل من سمعة كوادرها الجدد والتشكيك في تاريخهم الأخلاقي، بدعوى أنهم يدخنون السجائر، أو أنهم لا يؤدون الصلاة في أوقاتها، أو شوهدوا قبل ذلك وهم يؤدون أفعال غريبة أثناء أداء الصلاة.
ربما يعتقد كثير من المهتمين بالحالة الدينية في مصر أنها مكشوفة وواضحة المعالم، كما يقع هؤلاء في فخ التصنيفات الرسمية للمؤسسات والهيئات الدينية، أو المعروفة إعلاميا، دون التطرق للتشكيلات الدينية غير الرسمية، أو النائية بنفسها عن أضواء الكاميرا وضجيج الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، لم يكن ذلك صوابًا.
عند التفتيش في تلك الجماعة التي تقترب في سلوكها من الطرق الصوفية، لاحظنا امتدادا واسعًا لها في مصر، وفي عدد من الدول الأخرى، مع أنها لم تحظ بتغطية إعلامية عرفنا بعد ذلك أنها لا ترغب فيها، كما أنها لم تحصل على تصريح من مشيخة الطرق الصوفية، إذ أنها لا تعترف بنفسها كطريقة صوفية.
إنهم يصفون أنفسهم بوصف جامع «سلفيون وصوفيون وسياسيون وتنمويون واجتماعيون» .. يقولون إن أتباعهم يتجاوزون السبعة ملايين عضو، ولهم أمير وتنظيم شبه هرمي، ولهم مبادئ وأفكار وشعارات وصيحات وزي موحد تعرف به، (جمع إنسان محمد – الأسرة الدندراوية)، لا يعرف حقيقة هذا المسمى إلا دعاة الجماعة دون غيرهم من الأتباع.
يرجع الفضل في الانتشار لأميرها الراحل والمؤسس الفعلي لها الفضل بن العباس الذي لا يكاد يستقر في دندرة «موطن دعوته»، حتى يرجع ليطوف بجميع دول العالم داعيا إلى فكرته ودعوة جده حتى نجح في إقناع الآلاف داخل مصر وخارجها بصدقية دعوته وجمع حولها ملايين من المؤيدين والمنتسبين.
ومع هذا عندما بحثنا عن معلومات عن هذه الجماعة لم نجد عنها كتابا مطبوعا، ولا بحثا منشورا، ولا مقالا مكتوبا فلجأنا إلى بعض منتسبيها لنسألهم إمدادنا بالمعلومات الكافية عن الجماعة ومعتقداتها فرفضوا حتى مجرد السماح بمناقشتنا إلا بعد الاستئذان من الأمراء في دندرة «مقر الجماعة بصعيد مصر» الذين جاء ردهم بعد طول انتظار باللجوء إليهم مباشرة دون الاتصال بقواعدهم، عرفنا بعدها أن الدندراويين لا يرغبون في وضع أنفسهم وجماعتهم تحت عدسة الإعلام، ولا مرصد الباحثين، الأمر الذي لم نجد له تفسيرا مؤكدا، لكننا لم نعدم مصادر داخل الجماعة أمدتنا ببعض الرسائل المطبوعة والمكتوبة بخط اليد، والمنسوبة إلى أميرها الفضل بن العباس آل الدندراوي، كما كشفت لنا عن كثير من الأمور التي ليس مسموحا لأحد غير دندراوي أن يعرفها.
نشأت الدندراوية على يد محمد الدندراوي، الملقب بالسلطان، والذي يعتبره الدندراويون جدهم المعنوي، وكان يقيم في دندرة، وجاء في إحدى الرسائل التعريفية بالفكر الدندراوي والمنسوبة إلى أميرها الفضل بن العباس أن جدهم محمد هو من أحفاد السلطان اليوسف أحد أحفاد الشريف إدريس الأول مؤسس دولة الأدارسة بالمغرب العربي الذي نسب نفسه إلى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب «وفق مصادر الطريقة».
ومع أننا لم نجد إجابة تفسر سبب إطلاق لقب السلطان على محمد الدندراوي، ولا لقب سمو الأمير على الفضل بن العباس، إلا أنه يبدو أن هناك ارتباطا بين إطلاق هذه الألقاب على زعماء الدندراوية وبين نسبتهم إلى أمراء وسلاطين دولة الأدارسة.
في إحدى الرسائل التي كتبها الفضل بن العباس وصف فيها جماعته بأنها دعوة شاملة، وقال عنها إنها: ليست بدعوة مذهبية حديثة.. وليست بطريقة صوفية جديدة.. وليست بجماعة سياسية قومية.. وليست بجمعية خيرية إقليمية. يوضح الفضل في فصل لاحق أنه لم يرد أن يكون كيان أسرته كيانا متخصصا يضاف إلى الكيانات السابقة، بل يكون كيانا يضم كل هذه الكيانات ويحتوي على كل مميزاتها وخصائصها، فيذكر أن «جمع إنسان محمد – الأسرة الدندراوي» ليست كيانا من الكيانات الطائفية أو الطبقية ولا القومية أو الإقليمية، وإنما هي كيان اجتماعي يجمع الأفراد المتفرقة والتجمعات المتفرقة في وعاء الأسرة الواحدة، فجمع إنسان محمد صيحة نداء لجميع المسلمين أيا كان مذهبهم السلفي أو طريقتهم الصوفية أو تنظيمهم السياسي أو جمعيتهم الخيرية بأن يتجاوزوا حواجز الفرقة، وأن يتألفوا تحت ظل الزعامة المحمدية الجامعة.
وفي كتاب “الوثيقة البيضاء” يحاول مؤلفه الفضل بن العباس أمير الأسرة الدندراوية تعريف الفكر الدندراوي، فيبدأ بأسباب نشأة الفكرة نفسها على يد جده السلطان محمد ويضع خلفية لصورة الواقع المتردي للأمة الإسلامية وقتها، التي “أنهكها الهوان وأضنتها المهانة”، هذا الواقع هو الذي دفع مؤسس الأسرة بصفته “واحدا من المصلحين” إلى محاولة البحث عن تفسير لهذا الواقع المؤلم، ومن ثم اتخاذ خطوات لعلاج “ذلك البلاء المهين”.
هي الفكرة نفسها التي دفعت جميع زعماء الجماعات إلى تشكيل تنظيماتهم «هوان الأمة .. والعودة لمجد الأوائل».