«كان الطاعون سيد المدينة طوال فترة إقامتي، وظهر الخوف في كل شارع وكل حارة، لكن الشرقيين يمتلكون حظاً وافراً أكثر من أوروبا تحت بلوى من هذا النوع. ففي مدن الموت، نُصِبت الخيام، وعُلِّقت المراجيح لتسلية الأطفال، عيد كئيب، لكن المسلمين تباهوا بإتباعهم عاداتهم القديمة غير عابئين بظل الموت»!
يصَدّر «شلدون واتس» كتابه ـ الذي يعد من المصادر المهمة في تاريخ الأوبئة ـ بهذه العبارة التي كتبها «إلكسندر كينجلاك» فى عام 1836، إبان معايشته للوباء بالقاهرة.
الروح المصرية أمام الشدائد
يعلق الكاتب دكتور محمد المخزنجي على هذه العبارة قائلا: تلك الملاحظة الغربية عن الروح الشرقية لدى المصريين عموماً، وليس المسلمين فقط، هى التى انتبه إليها أوروبى آخر عاش فى مصر تحت شدة مماثلة. وأورد «روبير سوليه» في كتابه «مصر ولع فرنسي» ما أثار تعجب ذلك الأوروبي من المصريين، ففي عز سطوة الوباء رآهم يسهرون ليلعبوا الكرة في الشوارع لتشتيت «الجن» الذي يحمل «الموت الأسود» للناس، فيرتبك، وتُخطئهم ضربات منجل الموت الذي يحصد به الأرواح.
يصف «شلدون واتس»، ما حدث بعد انتهاء الطاعون فيقول: «عندما انتهى الطاعون عام 1349، كان قد أتى على الأخضر واليابس، وانتشرت المجاعة، لكن في خلال سبع أو ثمان سنوات، كانت معظم قرى الدلتا تنتج القمح والمواد الغذائية الأخرى المطلوبة لتغذية القاهرة وسائر المدن بالمحروسة. وفي القاهرة والمدن الأخرى استعادت الأعمال الحرفية، والبيع والشراء، والأنشطة اليومية، عافيتها في تأكيد على الاستمرارية التي كانت طريقة مصرية خالصة»،
لكن هذه الطريقة المصرية الخاصة لم توقف الشدائد، فظلت موجات الأوبئة تتوالى، وكان للمصريين سلوكهم الخاص تجاهها. فما بين عامي 1347 و1805 لم تتغير ردود أفعال المصريين بأي شكل ملموس، لأنه لم تكن لدى أية مجموعة منهم سبب ملزم لتغيير أنماط سلوكها المعتادة، وبرغم ذلك عندما كان يواجَه أهل القرى بقوى خارجية، تأتي من الخارج (كالأوبئة)، فإنهم يقفون مع بعضهم البعض جميعا موقفا أخلاقيا، وفي الأوقات العادية يعودون إلى سيرتهم المعتادة، فكانوا ميالين إلى الانقسام إلى مجموعات عائلية تميل الى التنازع،
أما المماليك فكان سلوكهم تجاه الطاعون يختلف من مجموعة لأخرى حسب ترتيبات المصالح، فعندما داهم الطاعون مصر عام 1347 هرب العديد منهم بقيادة السلطان الناصر محمد بن قلاوون (الذي كان يبلغ من العمر آنئذ أحد عشر عاما) من القاهرة إلى القرى الخالية من الطاعون شمال المدينة، إلا أن معظم المماليك قرروا البقاء بالقلعة للدفاع عن مصالحهم خشية أن يتمكن منافسوهم من خلعهم والقفز على تخت الحكم، وكان من جراء هذا القرار ان قضى الطاعون على نصف من فضَّل البقاء بالقلعة تقريبا، فانخفض عدد المماليك بالقلعة من عشرة آلاف مملوك عام 1346 الى ما بين 5 او 6 آلاف وقت غزو الأتراك العثمانيين عام 1517.
العوام، وأولاد الناس
ومن خلال عدم وجود افتراض بمسئولية فئة ما من السكان في نقل العدوى، حيث كانت الثقافة السائدة بين المصريين (بوجه خاص العوام من الناس في المدن والفلاحين في القرى) تؤكد الاعتقاد بأن «الجن» هو المسئول عن وجود الوباء وانتقاله من شخص إلى آخر، فلم يكن هناك داع ـ بناء على ذلك الاعتقاد ـ لوجود فكرة تقييد حركة البشر لإيقاف انتشار الوباء.
وعلى عكس ما كان سائدا بين العوام من الناس في المدن والفلاحين في القرى، فبين «أولاد الناس» (من تجار ومشايخ وموسرين) في القاهرة والمدن الأخرى، كان الاعتقاد السائد أن الوباء هو أمر مقدر من «الله جل وعلا» لا فكاك منه، وأن وفاة المؤمن بالطاعون يمهد له السبيل لدخول الجنة، وأن وفاة الكافر بنفس هذا الطاعون يذهب به إلى الجحيم.
وبناء علي هذين الاعتقادين المتعاكسين فقد كانت النتيجة بالنسبة لسلوك المصريين تجاه وباء الطاعون واحدة، تستند إلى تفسير الإصابة بالوباء إلى قوى خارجية قاهرة (الجن، أو الله جل وعلا)، وهي قوى لا راد لقضائها ولا يمكن (وأحيانا لا يُحَّب) اتخاذ أية تدابير صحية تجاهها.
وعلى أية حال فإن المماليك (باعتبارهم حكام البلاد) لم يفكروا إطلاقا في اتخاذ تدابير صحية تجاه النوبات المتتالية لهجوم الوباء على البلاد. وبشكل عام لم تعرف البلاد في تلك الفترة أسلوب الحجر الصحي الذي بدأ في الظهور تدريجيا بدول أوروبا المختلفة بشكل متفاوت. فقد برز في القرن السادس عشر «مفهوم النظام»، الذي برر التدخل في حياة الناس العاديين خلال أزمة الوباء، حيث ابتكر هذا النظام أولا في فلورنسا، وانتشر بالتدريج في فرنسا وإسبانيا، ثم امتد شمالا وغربا إلى انجلترا وسويسرا.
وجاء اﻟﻔﺮﻧﺴﺎوﻳﺔ بالأعاجيب
ظل سلوك المصريين على هذا الحال حتى مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798، ولنتابع مع المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي ما كان في هذا الشأن، حيث يقول: «وﻓﻴﻪ (شهر شوال سنة 1215 هـ، فبراير 1800 م) ﺑﺪأ أﻣﺮ اﻟﻄﺎﻋﻮن ﻓﺎﻧﺰﻋﺞ اﻟﻔﺮﻧﺴﺎوﻳﺔ ﻣﻦ ذﻟﻚ، وﺟﺮدوا ﻣﺠﺎﻟﺴﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﻔﺮش وﻛﻨﺴﻮﻫﺎ وﻏﺴﻠﻮﻫﺎ، وشرعوا في عمل ﻛﺮﻧﺘﻴﻼت (جمع كرنتيلة، أو كرنتينة، وهو الحجر الصحي.. وأصلها انجليزي «quarantine»). وفي ثامنه (شهر شوال)، ﻗﺎل وﻛﻴﻞ اﻟﺪﻳﻮان ﻟﻠﻤﺸﺎﻳﺦ: إن حضرة ﺳﺎري ﻋﺴﻜﺮ بعث إليَّ ﻛﺘﺎﺑا ﻣﻌﻨﺎه إﻳﻀﺎح ﻣﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺄﻣﺮ اﻟﻜﺮﻧﺘﻴﻠﺔ، وﻳﺮى رأﻳﻜﻢ في ذﻟﻚ، وﻫﻞ ﺗﻮاﻓﻘﻮن على رأي اﻟﻔﺮﻧﺴﺎوﻳﺔ أم ﺗﺨﺎﻟﻔﻮن؟ ﻓﻘﺎﻟﻮا: ﺣﺘﻰ ﻧﻨﻈﺮ ﻣﺎ ﻫﻮ المقصود. ﻓﻘﺎل: حضرة أرﺑﺎب اﻟﺪﻳﻮان ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻴﻬﻢ أن ﻳﻌﻤﻠﻮا اﻟﻄﺮﻳﻖ اﻟﺬي ﻳﻜﻮن سببا لانقطاع ﻫﺬه اﻟﻌﻠﺔ، فإننا ﻧﺒﻐﻲ ﻟﻬﻢ وﻟﻐيرﻫﻢ اﻟﺨير، ﻓﺈن أﺟﺎﺑﻮا ﻓﺬاك، وإلا ﻓﻠﻴُﻠﺰَﻣﻮا وﻟﻮ قهرا، ورﺑﻤﺎ اﺳﺘﻌﻤﻠﻨﺎ اﻟﻘﺼﺎص وﻟﻮ ﺑﺎلموت ﻋﻨﺪ المخالفة، ﻓﺈن رأﻳﻨﺎ ﻗﺪ اﻧﻌﻘﺪ على ذﻟﻚ وﻳﺠﺐ أن ﻳﺘﻔﻖ ﻣﻌﻨﺎ أرﺑﺎب اﻟﺪﻳﻮان ﻷن ﺣﻔﻆ اﻟﺼﺤﺔ واﺟﺐ، ولذا نرى كثيرا من الناس، ﻳﺴﺘﻌﻤﻞ اﻟﻄﺒﻴﺐ ﻋﻨﺪ المرض وﻏﺎﻳﺘﻪ ﺣﻔﻆ اﻟﺼﺤﺔ، وﻣﺎ ﻧﺤﻦ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ذﻟﻚ، وﻧﺬﻛﺮ ﻟﻜﻢ أن ﺑﻼد المغرب (يقصد أوروبا) ﻗﺪ اﻋﺘﻤﺪوا ﻓﻌﻞ اﻟﻜﺮﻧﺘﻴﻠﺔ اﻵن، فأعلِموا أهل القاهرة بأن لا يتأخروا عن استعمال الوسايط، اذ قد رُبطت الأسباب بالمسببات. فقيل له: وما الذي تأمرون به أن نفعل؟» واستمر الجدال والأخذ والرد بين المشايخ اعضاء الديوان من جانب ووكيل الديوان الذي يمثل ساري عسكر الفرنساوية من جانب آخر، وانفض المجلس بعد طلب المشايخ من الوكيل أن يفاوض ساري عسكر حول تدبير طريقة يكون فيها الراحة للناس، فإن ما يطلبه ساري عسكر فيه مشقة على أهل البلد لعدم ألفتهم لهذه الأمور.
لم يتفهم المصريون ما كان يطلبه منهم الفرنسيون من أشياء بدت لهم غريبة غير مألوفة ومخالفة لمعتقداتهم الراسخة والمستقرة. كيف يطلب منهم الفرنسيون ذلك؟
فكيف يتركون ذوي قرباهم بعيدا عنهم في وقت الشدة والمرض؟
وكيف لا يدفنون موتاهم بالترب القريبة من مساكنهم، ويدفنونهم بعيدا عنهم!!
كيف يقول الفرنسيون: «إن اﻟﻌﻔﻮﻧﺔ ﺗﻨﺤﺒﺲ ﺑﺄﻏﻮار اﻷرض، ﻓﺈذا دﺧﻞ اﻟﺸﺘﺎ وﺑﺮدت الأغوار بسريان اﻟﻨﻴﻞ والأمطار واﻟﺮﻃﻮﺑﺎت، ﺧﺮج ﻣﺎ ﻛﺎن ﻣﻨﺤﺒﺴا بالأرض ﻣﻦ الأبخرة اﻟﻔﺎﺳﺪة، ﻓﺘﻌﻔﻦ اﻟﻬﻮاء ﻓﻴﺤﺼﻞ اﻟﻮﺑﺎ واﻟﻄﺎﻋﻮن. «.. أليس الوباء هو مس من الجن، أو قدر من الله جل وعلا. فما فائدة إذن ما يطلبه هؤلاء الفرنسيس من «ضرورة نشر اﻟﺜﻴﺎب والأمتعة واﻟﻔﺮش بالأسطحة ﻋﺪة أﻳﺎم، وﺗﺒﺨير اﻟﺒﻴﻮت ﺑﺎﻟﺒﺨﻮرات المُذْهبة ﻟﻠﻌﻔﻮﻧﺔ»!!
وهل يفيد الأطباء في دفع مس الجن أو ما قدره الله عز وجل؟ فما فائدة قولهم: «إن ﻣﺮض ﻣﺮﻳﺾ ﻓﻼﺑﺪ ﻣﻦ الإخبار ﻋﻨﻪ، ﻓيرﺳﻠﻮن ﻣﻦ ﺟﻬﺘﻬﻢ حكيما ﻟﻠﻜﺸﻒ ﻋﻠﻴﻪ إن ﻛﺎن ﻣﺮﺿﻪ ﺑﺎﻟﻄﺎﻋﻮن أو ﺑﻐيره، ﺛﻢ ﻳﺮون رأﻳﻬﻢ ﻓﻴﻪ».!!
وكيف نسمح لهم دهس بيوتنا والإطلاع على حرماتنا المصونة على هذا النحو. يقول الجبرتي: «…… ثم ﻧﻮدي ﺑﻨشر اﻟﺤﻮاﻳﺞ وﻛﺘﺒﻮا ﺑﺬﻟﻚ أوراﻗا وألصقوها بالأسواق، وﺷﺪدوا في ذﻟﻚ ﺑﺎﻟﺘﻔﺘﻴﺶ واﻟﻨﻈﺮ ﺑﺠﻤﺎﻋﺔ ﻣﻦ ﻃﺮف ﻣﺸﺎﻳﺦ اﻟﺤﺎرات، وﻣﻊ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﻢ ﻋﺴﻜﺮي ﻣﻦ ﻃﺮف اﻟﻔﺮﻧﺴﺎوﻳﺔ، واﻣﺮأة أﻳﻀﺎ ﻟﻠﻜﺸﻒ ﻋﻦ أﻣﺎﻛﻦ اﻟﻨﺴﺎ، ﻓﻜﺎن اﻟﻨﺎس ﻳﺄﻧﻔﻮن ﻣﻦ ذﻟﻚ وﻳﺴﺘﺜﻘﻠﻮﻧﻪ وﻳﺴﺘﻌﻈﻤﻮﻧﻪ وﺗﺤﺪﺛﻬﻢ أوﻫﺎﻣﻬﻢ ﺑﺄﻣﻮر ﻳﺘﺨﻴﻠﻮﻧﻬﺎ ﻛﻘﻮﻟﻬم إﻧﻤﺎ ﻳﺮﻳﺪون ﺑﺬﻟﻚ اﻻﻃﻼع على أﻣﺎﻛﻦ اﻟﻨﺎس وﻣﺘﺎﻋﻬﻢ».
هذا بعض مما استهجنه المصريون بشأن ما جاء به الفرنسيون من أعاجيب لم يألفوها.
———————–
المصادر:
شلدون واتس، الأوبئة والتاريخ، المرض والقوة والإمبريالية، ترجمة وتقديم أحمد محمود عبدالجواد، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى ،2010.
عبد الرحمن الجبرتي، الجزء الرابع، عجائب الاثار في التراجم والاخبار، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013.