منوعات

مظاهرات كورونا.. نتاج السلفية السكندرية

«يا خفي الألطاف .. نجنا مما نخاف» الهتاف الذي ردده المصريون منذ أكثر من قرنين من الزمان عاد بصورة أخرى ليحتل مكانة مميزة على الساحة الشعبية، فمع فرض حظر التجوال بالعديد من مدن العالم نتيجة لتصاعد أزمة فيروس كورونا، طالعتنا وسائل التواصل الإجتماعي «الفيسبوك .. واتساب» بالعديد من الفيديوهات المصورة لكيفية تعامل بعض الشعوب مع تلك الأزمة، الشعب الإيطالي وقف بنوافذ مساكنه يعزف على الآلات الموسيقية، ينشد المقطوعات الغنائية ويردد النشيد الوطني، والأسبان يطلون من نوافذ منازلهم كل مساء في تمام الثامنة يصفقون تحية للأطباء وطاقم التمريض، أما أهالي المغرب فخرج منهم بعض المتصوفة يناجون الله ان يقف معهم وينجيهم من هذا البلاء العظيم، تبعهم في اليوم التالي خروج بعض أهالي الأسكندرية، الذين غلب عليهم الطابع الصوفي أيضا مرددين بعض الدعوات والهتافات كان منها: «الله اكبر .. الله أكبر .. لا إله إلا الله وكورونا عدو الله»، تبعهم في الليلة التالية بعض أهالي تونس، فبات الأمر وكأنه عدوى تنتقل من بلد إلى أخرى.

https://www.facebook.com/YaSsOo1King/videos/1443534775808529/?t=66

 

أثارت تلك «التظاهرات الدينية» إذا جازت التسمية الكثير من السخرية لدى جمهور صفحات «الفيسبوك»، ووجه البعض الإتهام لجماعات الإسلام السياسي، وهو تفسير لا يبدو كافيا لتفسير هذا السلوك الاجتماعي الذي يتعارض كليا مع طبيعة الأزمة التي تستلزم البقاء بالبيت والإبتعاد كليا عن أي تجمعات؟ ثمة تفسيرات آخرى يمكن أن تكون أكثر ملائمة في التعاطي مع تلك الحالة.

سيكولوجية الجماهير

دراسة السلوك الجمعي للجماهير يعد واحد من أهم الموضوعات التي أنشغل بها عدد غير قليل من الباحثين المتخصصين في مجال علم النفس الإجتماعي، ويعد كتاب «سيكولوجية الجماهير» لغوستاف لوبون أحد أهم الكتب المؤسسة لهذا المجال، وتكمن أهمية لوبون في تفسيره لظاهرة الجماهير حيث رأى أنها تشترك في ميزة أساسية تتمثل في إنصهار الأفراد في روح جماعية واحدة وعاطفة مشتركة، ومن ثم تقضي تلك الروح الجماعية على التمايزات الشخصية وينجم عنها ممارسة الجماهير لبعض السلوكيات المجرمة أو المدمرة أحيانا، غير أنها في أحيان أخرى قد تسلك سلوكيات تتسم بالكرم والتضحية والبطولة ودون أي مصلحة في بعض الأحيان، وفي أحيانا أخرى تجمع الجماهير ما بين هذا وذاك بذات الوقت.

فالجماهير عند لوبون تمثل ظاهرة اجتماعية، ويلعب التحريض دورا في تفسير إنحلال الأفراد في الجمهور وصولا حد الذوبان فيه، وقد يلعب فرد ما دور القائد المحرك الذي يستجيب له الجمهور وكأنه تحت تأثير عملية تنويم مغناطيسي، وعلى ذلك فإن الجمهور النفسي يختلف عن التجمع العادي أو العفوي للبشر في ساحة عامة، ذلك أن الجمهور النفسي يمتلك وحدة ذهنية على عكس التجمعات غير المقصودة.

سيكولوجية الإنسان المقهور

الإعلان عن تنامي المخاطر المتعلقة بظهور فيروس كورونا بالعديد من بلدان العالم، أشاع حالة من الفزع النسبي، غير أن رد فعل تلك الجماهير قد تباين وأختلف من بلد لأخرى ومن منطقة لأخرى داخل ذات البلد، الأمر الوحيد المتفق عليه أن ظهور هذا الفيروس اللعين قد خلق حالة من عدم التوازن لدى البعض، ومن ثم برزت الحاجة إلى مجابهة تلك الوضعية المأزومة، الدكتور مصطفى حجازي الباحث المتخصص في مجال علم النفس الإجتماعي في كتابه «التخلف الاجتماعي.. مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور» يتناول الأساليب الدفاعية التي يلجاء لها البشر لمواجهة الأزمات الكبرى فيشير إلى وجود فيئتين أساسيتين من الحلول، الفئة الأولى وهى الفئة الأكثر فاعلية وتتمثل في محاولة تغيير الأوضاع الخارجية بشكل يتلائم مع الحاجات الحيوية والأهداف الوجودية وتحقيق الذات، لكنها حلول ليست ممكنة دوما، لذا يلجاء بعض البشر لتلك الحلول الدفاعية وهى بطبيعتها لا تحاول التغيير ولا تقوى عليه، بل تهدف إلى التأقلم والتلاؤم مع الوضع الراهن بطريقة قد تخفف من وطأته، لكن هذه الحلول الدفاعية ونتيجة ما تتصف به من سلبية ولكونها ملغومة من الداخل، فهى تعيد التوتر إلى الإرتفاع والتوازن إلى الإختلال بعد فترة تطول أو تقصر، مما يدفع الشخص في النهاية إلى اللجوء للحلول التغييرية.

الإنكفاء على الذات والسلفية

فيروس كورونا بوصفه «بلاء اعتباطي» فرضته الطبيعة على البشر قد يُوَاجهه بعض البشر «بالإنكفاء على الذات»، وهى حالة تتضمن وفقا لدكتور حجازي السير نحو التقوقع والإنسحاب ويستعين بها الإنسان حينما يسكنه إحساس داخلي بالعجز وقلة الحيلة.

الوسيلة الثانية التي يلجاء إليها بعض البشر في مواجهة مخاطر الطبيعة، تتمثل في العودة للماضي ومن ثم التشبس بكل ما هو سلفي، وتترسخ السلفية وفقا لدكتور حجازي كلما زاد الشعور بالعجز عن مجابهة تحديات الطبيعة، فالسلفية هنا تعد وسيلة أولية للدفاع عن النفس.

تشيع السلفية بشقيها «الرضوخ للتقاليد والأعراف، والإحتماء بالماضي وأمجاده» من الناحية النفسية بمقدار القهر الذي يمارس على الإنسان وبمقدار إحساسه بالعجز والضعف والغلبة على أمره إزاء غوائل الطبيعة وعنت المتسلط على حدا سواء.

هذه الوظيفة الدفاعية قد لا تبرز على السطح بشكل منتظم، لكنها تتعزز في حالات الأزمات الكبرى، حيث تبرز السلفية بوضوح كوسيلة حماية تعتمد بشكل أساسي على الإنكفاء على الذات والعودة إلى الماضي التليد. وتدل التجربة على أن ما يبدو واضحا في أوقات الأزمات أو الفترات العصيبة من تاريخ مجتمع ما، إنما يعمل بشكل خفي في فترات الهدوء، وله وظائف متقاربة في الحالتين.

السلفية وفقا لتلك الرؤية تعد وسيلة دفاع وجودي، يلجاء لها البشر لتحقيق نوع من التوازن النفسي الضروري لإستمرار الحياة، غير أنها على المدى البعيد تتعارض مع مصالح الإنسان الذي يتبناها ذاته ومن ثم فهى تتعارض مع مصالح المجتمع ككل.

https://www.facebook.com/323342924363204/videos/622918921857067/?t=8

السيطرة الخرافية على المصير

هل الحديث عن نهاية العالم، وقرب موعد ظهور المسيح الدجال وغيرها من الخرافات التي شاعت مؤخرا مع ظهور فيروس كورونا، مثل البحث عن شعرة بالمصحف أو الإنجيل لدى المسلمين والمسيحين ووضعها بكوب ماء ومن ثم شربها للتخلص من مخاطرالفيروس محض مصادفات أم أنها عوارض لمرض إجتماعي يعاني منه المجتمع؟

حين يصل الإنسان لمرحلة العجز عن مواجهة واقعه فإنه وفقا لدكتور حجازي يلجاء إلى البحث عن حل ما يجعله قادر على إستيعاب مأساته، فالسيطرة الخرافية على الواقع والتحكم السحري بالمصير هما آخر ما يتوسلهما الإنسان حينما يعجز عن التصدي والمجابهة، فهى بالنسبة له تعد أخر خطوط الدفاع، ويتناسب شدة إنتشار الخرافة والتفكير السحري مع شدة القهر والحرمان الذي يعاني منه الشخص، وتضخم الإحساس بالعجز، وإنعدام الوسيلة، وتزدهر هذه السيطرة الخرافية مع الجهل والعوز بصفة خاصة.

 وبقدر ما تُدخل تلك الخرافات الإطئنان الوهمي إلى نفس البعض ممن يلجاء إليها، فإنها تستخدم كأداة للإرتزاق من قبل المشعوذين الذين يدَعون العلم بها، والقدرة على تغيير أحوال الإنسان، ومساعدته على التحكم في مصيره من خلالها.

مع سيطرة الخرافة على تفكير البعض لم يكن من المستغرب على مجتمعنا أن يلجاء البعض إلى زيارة مقامات الأولياء، حيث يجمع جماهير زوار تلك المقامات على أن أصحابها يتمتعون بالعديد من الكرامات، هذا بالإضافة إلى إيمان البعض بقدرة الجن والعفاريت والشيطان على التجسد في صورة بشر ومن ثم فإنها تمتلك القدرة على التاثير على حياة البشر.

أما الأمر الأكثر شيوعا فيتمثل في الإعتقاد بالحسد والذي يؤثر على علاقات البشر بعضهم ببعض بصورة تتسم بالكثير من السلبية، فالشخص الذي يعتقد في الحسد يجد تفسير ملائم لكل النكبات التي تلم به أو بذويه أو ممتلكاته، وهو تفسير يرضى الشخص «المحسود».

نعود لما عرف بتظاهرات بعض أهالي الأسكندرية الذين غلب عليهم الطابع الصوفي ضد فيروس كورونا، لنشير إلى أنها ربما تكون حالة من الفزع الجماعي والشعور الجمعي بقلة الحيلة الأمر الذي دفعهم نحو العودة لتراثهم السلفي القائم على مناجاة الله بشكل جماعي طمعا في ان يمنحهم ذلك شعور ما بالأمان والسكينة، متغافلين عما قد ينجم عن هذا السلوك من أضرار جمة.

ربما يتسائل البعض عن الأسباب الخفية وراء إنتشار الدعوة السلفية بمدينة الأسكندرية، على الرغم من طبيعة تلك المدينة ذات الطابع «الكوزموبوليتاني» التي عُرِفت بتميزها بإختلاط ثقافات وعادات شعوب البحر المتوسط، وما أرتبط بذلك من نزعة وميل نحو التحرر والتجديد والتنوع والقدرة على تقبل الآخر، الدكتور «أحمد زغلول شلاطة» في كتابه «الدعوة السلفية السكندرية.. مسارات التنظيم ومآلات السياسة» يناقش تلك القضية فيشير إلى أنه يمكن النظر لوجود الفكر السلفي التقليدي بمدينة الأسكندرية، بوصفه رد فعل مضاد لتلك الحالة من التنوع الثقافي.

يلفت دكتور شلاطة في كتابه النظر إلى أن تاريخ المدينة حافل بالعديد من الشخصيات التي لعبت دورا محوريا في تغذية الفكر السلفي بالمدينة، ومن أمثلتهم محمد عبد الظاهر أبو سمح، و عبد السلام الطباخ، و صلاح رزق، و أمين رضا وصولا إلى ياسر برهامي.

يتناول شلاطة سمات المنهج الفكري الذي تتبعه الدعوة السلفية بالإسكندرية، فيشير إلى كونها قد اعتادت على أن تقدم نفسها على كونها الامتداد الطبيعي للسلفية التراثية سواء تلك التي نادى بها أحمد بن حنبل وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، ورشيد رضا، ومحب الدين الخطيب، ولذلك فإن منهجها لا يختلف عن المنهج السلفي المتعارف عليه والذي يتمثل في تقديم النص على العقل.

على أي حال لعل أزمة فيروس كورونا وما أفرزته من تداعيات مجتمعية تصبح بمثابة فرصة مؤاتية لمختلف المتخصصين لطرح مجمل القضايا المتعلقة بالتراث السلفي وما يحمله من قنابل موقوتة يمكن لها أن تنفجر دون سابق إنذار، إضافة لطرح مجمل القضايا المتعلقة بمنظومة التعليم وما تقدمه للأجيال الجديد من رؤية حول الذات والآخر، إلى جانب طرح القضايا المتعلقة بالمراكز الثقافية وطبيعة الدور الذي يمكن لها أن تلعبه في حياة الشباب. 

اقرأ أيضا:

لماذا وكيف تجذّر السلفيون في عروس المتوسط؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock