نقلا عن: صفحة الكاتب على فيسبوك
اعتدنا دئما علي أن التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ليست واحدة وإنما تختلف من مكان إلي آخر، ومن شعب لآخر، ولم نري في حياتنا يوما توحدت فيه البشرية كلها علي كوكب الأرض خوفا من شبح الموت مثلما يحدث اليوم مع وباء كورونا. لقد أثبتت الأزمة مدي هشاشة التقدم العلمي الذي كانت تفخر به الحضارة الغربية في الطب والوقاية من الأمراض، وكشفت الأزمة أيضا مدي سذاجة وتهافت الثقة الجوفاء في قدرة المكتشفات العلمية الحديثة علي إطالة العمر والقضاء علي الموت. ورغم ما حققته الحضارة الإنسانية الحديثة من معجزات علمية خارقة في السيطرة علي الطبيعة، فإن غضب الطبيعة الكاسح مازال ممكنا وخطرا داهما لا مفر منه.
من الواضح أن الأزمة الراهنة كبيرة تتسع رقعتها يوما بعد يوم، ولا يدري أي أحد منا، خاصة في الشعوب التي لا تملك إلا غريزة البقاء، متي ينتهي خطر الوباء؟ ولا بأي أرض تتمدد آثاره؟ ولا حل لمواجهته سوي بالتوقف عن الحياة وانتظار المصير المجهول. هذه الحالة الإستثنائية لا يجوز معها تصعيد واساءة استغلال المخاوف الانسانية، وبنفس القدر لا يجوز أيضا التهوين من الأزمة، بل ضرورة التفكير بجدية في التحديات والمخاطر المحتملة علي مختلف المستويات بدءا من الحياة الشخصية، مرورا بالعائلية، والمجتمعية، وصولا إلي العالمية.
ذلك أن الأزمة الراهنة تكشف عن أننا عالم واحد وأن المخاطر أصبحت فيه واحدة بعد أن كانت متباينة من مجتمع لآخر. وأن ضرر الوباء يتمدد كالنار في الهشيم من دولة لأخري ومن قارة لأخري بسرعة بالغة. كما أن ما يضر الصحة يلحق الضرر بالاقتصاد والتعليم والاستقرار الاجتماعي والسياسي في كل مكان علي هذا الكوكب. هذا ما تلخصه كلمة العولمة التي ربطت كل المجتمعات بمنظومة واحدة تقنية واجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية يصعب الفكاك منها. ولهذا ينتشر الضرر اليوم علي نطاق واسع في جسم النظام العالمي علي نحو يشبه الشلل الذي يصيب كل الجهاز العصبي للكائن الحي. ولهذا لم تنجو أي شعوب علي وجه الأرض من الوباء القاتل إلا تلك الشعوب المعزولة عن العالم والتي تدبر حياتها البدائية بنفسها دون أي تبادل للسلع ولا لحركة البشر. تلك هي ضريبة الحضارة والحداثة والعولمة في أسوأ عواقبها.
المشكلة لا تكمن في البعد الصحي وحده للأزمة مهما ارتفع معدل الوفيات علي المستوي الدولي، فالأرض تمتلئ بأكبر فائض سكاني، و يسكنها الان ما يربو علي ٧.٨ مليار نسمة، كما أن معدلات الوفيات المرتفعة تصيب الأكبر سنا، مما يعني أن الشعوب الفتية التي تنعم بالاطفال والشباب وقوة العمل الشابة سوف تفلت من الآثار الصحية الجسيمة لانتشار الوباء. ومن المؤكد أن التقدم العلمي سوف ينتصر في النهاية علي الوباء باكتشاف العلاج مثلما حدث في الماضي مع كوارث أوبئة أخري. غير أن للأزمة أبعاد وتحديات أخري أشد وطأة ناتجة عن حالة الهلع الكاسح التي أصابت كل الاقتصاد العالمي بالشلل التام والمفاجئ.
ومن ثم فإن التوقعات المؤلمة تشير إلي أننا أصبحنا علي أعتاب ركود اقتصادي عالمي غير مسبوق مصحوب بأزمة اقتصادية طاحنة يترتب عليها تداعيات كبيرة علي فرص العمل ومعدلات الفقر والتضخم الحاد في أسعار السلع والخدمات. وهذا يلقي بظلال من الشك حول مصير الليبرالية الاقتصادية المتوحشة بعد انتهاء الأزمة، ذلك أن الحرية الاقتصادية أعلت من شأن التراكم الرأسمالي علي حسب عنصر العمل وعلي حساب جودة حياة البشر ورفاهيتهم. وصدرت للشباب في كل دول العالم كثيرا من أوهام ريادة الأعمال بالتخلي السافر عن أي ضمانات اجتماعية في العمل وتركهم فريسة لأحلام كاذبة ومخاطر كبيرة تحت مظلة العمل الحر والمرن دون أي ضمانات للحياة ودون مسئولية مجتمعية للعدالة والحد من الفقر.
وفي ظل هذه الكارثة سوف تؤدي الخسائر الاقتصادية الكبيرة إلي انكماش كبير في القطاع الخاص وافلاس كثير من المشروعات الصغيرة وارتفاع معدلات البطالة خاصة لدي الشباب وانهيار منظومة العمل الحر. إضافة إلي تداعيات التضخم القاسية علي مستويات المعيشة، خاصة لدي السواد الأعظم من الطبقة الوسطي. ولن تقوي برامج الحماية الاجتماعية الراهنة في العمل والدعم والتأمينات لدي كثير من دول العالم علي امتصاص الأزمة والتخفيف من حدتها. مما يعني أننا مقبلون علي موجة عاتية من التوترات الاجتماعية والسياسية في كثير من دول العالم ضد سياسات الاقتصاد الحر وضد كل الأنظمة السياسية المتحالفة مع رأس المال بمافي ذلك احزاب اليمين المحافظ في اوربا وامريكا، وذلك للمطالبة بتغيير معادلة المواطنة للحصول علي مزيد من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، فيما يشبه الحاجة الماسة لاستعادة الدور الذي لعبته دولة الرفاه عقب الحرب العالمية الثانية، والتي أنفقت الجانب الأكبر من الموازنات علي الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية لبناء البشر وتحسين نوعية الحياة لكل السكان بصورة عادلة بدلا من تركهم فريسة للخصخصة. ومن المتوقع أن تمتد التوترات الاجتماعية والاقتصادية المطالبة بإصلاحات مماثلة في تنمية البشر وليس الحجر إلي دول أخري تعاني من صعوبات اقتصادية وديون كبيرة، خاصة تلك الدول التي لديها كتلة سكانية كبيرة شابه وسكان فقراء ومحدودي الدخل.