نقلا عن: التونسيون
«نحن بصدد انتقال وحشي لم يكن معدا ولا مفكرا فيه».
«أعتقد أن الكثير من الناس سيصبحون مجانين بسبب غياب المعنى».
في حوار مع عالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين، حول تداعيات الأزمة الكونية التي خلفها انتشار فيروس كورونا، خاصة أنه فرض على سكان الكرة الأرضية البقاء في بيوتهم، ما أصبح يعرف بـ«الحجر الصحي»، الذي «جعلنا نعيش اللاّمعنى في بيوتنا»، وفق تعبير تورين.
على مشارف إتمام قرن من العمر، يخلص تورين إلى «أن العالم لم يعد كما كان، حيث إنه يشعر اليوم بالخوف».
تعليقا على تصريح الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، «نحن في حرب»، وهو ما ذهب اليه أيضا رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز. يعلق تورين قائلا: تقنيا تعني الحرب مواجهة بين الجيش (أ) الذي يغزو تراب البلد (ب). وفي حالتنا هذه ينقصنا العنصران، كما أن الحرب تحدث بين بني البشر».
متابعا: «ما نعيشه اليوم هو مواجهة بين ما هو إنساني وما هو لا إنساني. لا أنتقد استعمال لفظ الحرب، لكنها قد تكون حربا دون مُقاتلين. ليست هناك استراتيجية؛ الفيروس ليس رئيس حكومة. وفي الجانب الإنساني، أعتقد أننا نعيش في عالم دون فاعلين».
وحول ماذا يقصد بعالم دون فاعلين؟ يجيب ألان تورين: «لم يسبق قط أن تولى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية شخص غريب الأطوار مثل الرئيس الحالي دونالد ترامب؛ الذي لا يحمل من صفات الرئيس إلى القليل جدا. إنه شخصية خارج القواعد والمعايير، بل خارج الدور الذي يلعبه رئيس الدولة. وهذا ليس محض صدفة، بل هو تحصيل حاصل؛ لقد انسحبت الولايات المتحدة الأمريكية من لعب دور زعيم العالم. وفي أوروبا، إذا بحثت عن أكثر الدول الأكثر قوة، فلن تجد أحدا. وفي الأسفل؟ لا وجود لحركة شعبوية، كل ما هنالك هو انهيار ما كان في المجتمعات الصناعية يخلق المعنى».
أما في «الحركة العمالية، فليس لدينا اليوم فاعلون اجتماعيون، ولا سياسيون، ولا عالميون، ولا وطنيون، ولا طبقيون. لهذا، كل ما يحدث هو كليا عكس الحرب. في جانب، لدينا آلة بيولوجية، وفي الجانب الآخر، لدينا أشخاص ومجموعات دون أفكار، دون قيادة ولا وجهة، دون برنامج، دون استراتيجية، ودون لغة. إنه الصمت».
وحول وجود فترة في حياة تورين –وهو الذي عمر طويلا – شبيهة بما نعيشه اليوم؟ يقول عالم الاجتماع الفرنسي: «قد يكون ربما ساد الإحساس نفسه إبان الأزمة الاقتصادية سنة 1929، لقد ولدت قبلها ويمكنني القول: كان قد اختفى كل شيء، ولم يكن هناك أي فاعل في الساحة، لا في اليسار ولا في الحكومات. لكن سرعان ما ملأ الفراغ السيد هتلر. بيد أن ما يدهشني اليوم، باعتباري عالم اجتماع أو مؤرخ الحاضر، هو أنني لم أشعر منذ زمن بعيد بمثل ذلك الفراغ الذي ساد في 1929، مثل الآن».
ويتابع: «في الحقيقة، هناك غياب الفاعلين، وغياب المعنى، وغياب الأفكار، بل حتى الاهتمام؛ ما يبدو واضحا الآن هو تفضيل الفيروس (كورونا) استهداف كبار السن. كما ليس لدينا إلى حدود الساعة علاج ولا لقاح. ليس لدينا أي سلاح، أيادينا فارغة، نحن محبوسون ومنعزلون.. مهجورون. يجب علينا ألا نتصل ببعضنا البعض، وفوق هذا وذاك يجب أن نلزم البيت. هذه ليست حربا!».
ووجه المحاور السؤال التالي: كنتم في سن أربعة عشر عاما سنة 1940، بداية الحرب الحقيقية، الحرب العالمية الثانية. هل يذكركم الوقت الراهن بذلك الإبان؟
وكانت اجابة تورين التالية: «لا. في تلك الفترة، بالنسبة إلى فتى فرنسي في عمري، لم يكن هناك شيء مبتذل أكثر من الحرب الفرنسية الألمانية. بالفعل، طُرح لدي ذلك مرات عدة. فيما بعد، أثرت فترة الاحتلال الألماني في فترة شبابي. لكن ما يحدث اليوم هو شيء آخر لا مجال لمقارنته بالحرب العالمية الثانية؛ نحن في فراغ، ونُختزل إلى لا شيء. نحن لا نتكلم، ويجب ألا نتحرك، بل أكثر من ذلك نحن لا نفهم ما يجري. وكيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم؟ لقد عشنا قرنين رائعين في المجتمع الصناعي، في عالم هيمن عليه الغرب خلال 500 عام. واعتقدنا، وكان الحال كذلك في السنوات الخمسين الأخيرة، أننا كنا نعيش في عالم أمريكي (تهمين فيه أمريكا). الآن، ربما سنعيش في عالم صيني، لكني لست متأكدا على الإطلاق من ذلك».
ويمضي تورين مشيرا الى أن «أمريكا تغرق، والصين توجد في وضع متناقض لن يستمر إلى الأبد. تريد الصين ممارسة الشمولية الماوية من أجل تدبير عالم رأسمالي. للأسف، لا نوجد في أي منزلة،نحن بصدد انتقال وحشي لم يكن معدا ولا مفكرا فيه».
واذا ما كان يتحدث عن الوقت الآني، في خضم الحجر الصحي، أم عن هذه الحقبة بشكل عام؟ يقول تورين: «أتحدث عن الزمنين معا، لكني أحبذ إبداء وجهة نظر شخص محبوس. أنا شخصيا أجد نفسي في لا مكان، بما أنني لا أملك حق الخروج إلى الشارع».
وبالنسبة لتورين فان وضع الحجر الصحي لم يزعجه، مشيرا : «لا، لأن حياتي اتسمت بالعمل في البيت. أشعر، بطريقة ما، بأنني محمي في ظل الشروط نفسها التي كنت أعيشها يوميا حتى في الأيام العادية».
وحول أين أوروبا من كل هذا؟ هل سمعت، أنت، الكثير من الرسائل الأوروبية هذه الأيام؟ يعتبر تورين «شخصيا لم أسمع أي شيء. أنا أوروبي حتى النخاع. يجب الاعتراف بأن مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي ليست بالشيء السهل. وقل الشيء نفسه عن صعود اللاليبراليين (مناهضو الليبرالية) مثل ماتيو سالفيني في إيطاليا. ونحن لا نعرف كيف ولا لماذا جاءت الجائحة في هذه الظرفية. من السابق لأوانه معرفة ما يجب القيام به اقتصاديا، أما سياسيا، فلا يطلب منا شيء آخر غير ملازمة البيوت. نحن في اللامعنى، وأعتقد أن الكثير من الناس سيصبحون مجانين بسبب غياب المعنى».
وما اذا سيكون هناك عودة إلى القومية والشعبوية؟ يجيب تورين: «هذا موجود هنا أصلا. اليوم هناك قراران أساسيان بالنسبة إلى أوروبا. أولا، التحرر بواسطة النساء، أي، انهيار العقل في مركز الشخصية، وإعادة تكوين الأحاسيس حول العقل والتواصل، بمعنى تشييد مجتمع الرعاية (care). وثانيا، استقبال المهاجرين، وهذه القضية أعتبرها مشكلة كبيرة. فبلداننا الأوروبية تُعرَّفُ اليوم انطلاقا من مواقفها من المهاجرين».
وهل سيغير الفيروس كل شيء؟ التداعيات الاقتصادية، عادات اجتماعية جديدة مع المزيد من البعد بين الأفراد، وأولويات أخرى؟ يشدد تورين: «لا أعتقد ذلك. ستكون هناك كوارث أخرى. سيكون من المدهش للغاية بالنسبة إلي ألا تحدث كوارث إيكولوجية كبيرة في السنوات العشر المقبلة، لاسيما بعد ضياع السنوات العشر الأخيرة. وأنبه إلى أن الأوبئة ليست كل شيء. أعتقد أننا دخلنا في نوع جديد من المجتمعات؛ مجتمع الخدمات، وفق تعبير الاقتصاديين، لكنه مجتمع الخدمات بين البشر. سترفع هذه الأزمة من شأن فئة مقدمي الرعاية؛ لا يمكن أن يستمر هؤلاء في الحصول على رواتب هزيلة».
وتابع «في الوقت ذاته، في ظل هذه الأزمات، هناك احتمال أن تؤدي صدمة اقتصادية إلى ردود فعل أصنفها في خانة الفاشية. لكني لا أحبذ الحديث كثيرًا عن المستقبل، وأفضل، في المقابل، التركيز على الحاضر».
وحلو سؤال مهم هو هل يحكمنا الفيروس اليوم؟ يجيب ألان تورين: «ليس الفيروس، بل عجزنا عن محاربته، لكن سيُنتهى إلى إيجاد لقاح له».
من هو ألان تورين:
رأى السوسيولوجي ألان تورين النور بمدينة هيرمانفيل سورمير الفرنسية سنة 1925. إنه واحد من المثقفين القلائل الذين ينتمون إلى جيل لامع رفع شأن العلوم الاجتماعية والفكر الغربي منذ منتصف القرن العشرين إلى بداية القرن الحادي والعشرين. بصفته عالم اجتماع.
امتد مجال دراساته من المصانع التي رفعت البلاد بعد الحرب إلى مجتمع ما بعد الصناعة، ومن الانشغال بالحركات الاجتماعية، إلى أزمة الحداثة. أصبح بحكم خوضه في الجدل العام، في فرنسا، وفي دول أوروبية أخرى مثل إسبانيا، وفي أمريكا اللاتينية، مرجعا لما يطلق عليه في فرنسا اليسار الثاني، ذا الطابع الديمقراطي الاجتماعي والمناهض للاستبداد.