خلال الشهور الماضية، شغل خطاب المرض فضاءات التواصل العمومى والشخصى والمؤسسى فى أرجاء العالم. فقد تسبب فيروس كورونا فى هيمنة خطاب المرض على التواصل الإنسانى. وازداد تعرض البشر لخطابات تتناول أعراض المرض، وأسبابه، وعوامل انتشاره، وسبل الوقاية منه، وآثاره على جميع الأصعدة الفردية والجماعية، على نحو غير مسبوق.
يصل تغلغل خطاب المرض فى الخطاب الإنسانى الراهن إلى حد يمكن أن أصفه بأنه «احتلال خطابى». فالخطاب حول كورونا «احتل» حرفيا الفضاء العمومى والشخصى فى العالم منذ اتسع انتشاره خارج الصين فى منتصف فبراير 2020. احتل خطاب المرض الفضاء العمومى والشخصى بواسطة فعلين أساسيين؛ الأول هو إزاحة الموضوعات اليومية العادية على مستوى التواصل الشخصى «مثل الحديث عن الطقس، وظروف العمل، والهوايات، وغيرها»، وعلى مستوى التواصل العمومى «مثل متابعة الأنشطة العامة للنخب الحاكمة، ورجال الأعمال، والمشاهير، ومتابعات الأنشطة الترفيهية،… إلخ». أما الفعل الثانى فهو السيطرة على بقية الخطابات بواسطة معالجتها من منظور المرض. فقد سيطر المرض على الخطابات الاقتصادية والدينية والتربوية والسياسية والرياضية والإعلانية، والفكاهية وغيرها. وأصبح معظم الكلام والنصوص الذى يُنتج فى هذه الخطابات يتصل بكورونا بشكل مباشر. ونظرة سريعة مثلا على الخطاب بشأن الاقتصاد أو السياسة أو الرياضة تكفى للتحقق من أننا أمام حالة سيطرة شبه كاملة لخطاب المرض عليها. فمعظم المقالات المنشورة فى الصحف عن الاقتصاد، مثلا، تركز على أثر كورونا عليه، والأمر نفسه متكرر فى بقية الخطابات العمومية.
يحتاج الخطاب حول كورونا إلى دراسات علمية متعددة الاختصاص ترصد موضوعاته، وغاياته، واستراتيجياته، وآثاره فى العالم العربى، يشترك فى إنجازها باحثون فى دراسات الخطاب، والبلاغة، واللسانيات، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وعلوم التواصل، والسياسة، والاقتصاد. ويمكن أن تعالج هذه البحوث موضوعات مثل:
1. دراسة طرق تمثيل مرض كوفيد 19، والمصابين به فى الفضاءات العمومية والخاصة.
2. دراسة استراتيجيات الإقناع والتأثير المستعملة فى حفز الشعوب على الالتزام بالتوصيات الصحية للوقاية من المرض.
3. دراسة استجابات الأفراد العاديين للخطاب المؤسسى حول المرض.
4. دراسة الخطابات المنتَجة على هامش خطاب مرض كوفيد 19، مثل خطاب الإشاعات، والفكاهة، والأدب، والتبسيط العلمى، وغيرها.
5. مراجعة الكتابات النظرية حول خطاب المرض فى الأدبيات العالمية والعربية.
6. دراسة ظاهرة «الاحتلال الخطابى» التى أوجدها فيروس كورونا.
قد يظن البعض أن الخطاب حول كورونا يحظى بدور ثانوى فى مكافحته بالقياس إلى الإجراءات العملية مثل السعى لاكتشاف مصل أو دواء ناجع له، والسيطرة على الآثار الجانبية التى تسبب فيها، خاصة على اقتصاد الأفراد والدول، وعلى صحتهم النفسية والروحية. لكن هذا الظن قد يكون غير صحيح إلى حد كبير. وذلك لأسباب عدة؛ لعل أهمها أن الخطابات المتداولة حول كورونا شديدة التأثير فى الطريقة التى يتصرف وفقا لها الأفراد نحوه. وقد دفعت إيطاليا، على سبيل المثال، ثمنا باهظا لخطاب التهوين من مخاطر انتشار المرض فى وقت مبكر من أوائل فبراير الماضى. ولو تمكن الخطاب المتداول بشأن المرض حينها من إقناع الأفراد بالمخاطر المترتبة عليه، لربما كان عدد ضحاياه، ودرجة تأثيره، أقل مما هو عليه الآن. كما أن خطاب المرض سيكون حاسما كلما زادت فترة انتشار المرض دون التوصل إلى علاج، إذ ستدخل المجتمعات فى تحديات ضخمة، تتعلق بالاقتصاد، وتوفير الاحتياجات الأساسية، والحالة المعنوية الفردية والجماعية. وتحتاج الدول فى الوقت الراهن إلى تطوير استراتيجيات خطابية ناجعة للتعامل مع الأزمة الراهنة، على المديين القصير، والطويل معا. وفى هذا المقال الموجز أود فقط أن أقدم اثنتين من سمات الخطاب الفعال فى التعامل مع أزمة كورونا عربيا، على أمل أن أخصص مقالا آخر أكثر تفصيلا للخطابات العمومية حولها لاحقا.
التضامن
تفرض الأزمات العامة تبنى خطاب تضامنى، يجمع الكل دون تمييز، بهدف خلق ذات جماعية شبه موحدة. أيقونة الخطاب التضامنى هو ضمير «نحن» الجمعى، وأهم وسائل الوصول إليه هو أن تركز اللغة على الأرضية المشتركة بين جميع المواطنين، وتعمل على تنحية الخلافات، وتسكت عن النزاعات، وتجمد الصراعات إلى أقصى درجة ممكنة. يقوم الخطاب التضامنى بخلق هوية جمعية متكاتفة، يُدرك فيها الفرد نفسه على أنه جزء من المجتمع، فيعمل لصالحه، ويتجنب الإضرار به. وليس من المستغرب أن الدول التى تواجه مثل هذه الأزمات العاصفة تختار أن تنحى جانبا الخلافات الحزبية والمذهبية والأيديولوجية مؤقتا؛ حتى تواجه الخطر الذى يهدد الجميع. ولكى يُفعَل التضامن يجب أن يتسم الخطاب بصفة أخرى حاسمة هى المصداقية.
المصداقية
المصداقية هى توافق أقوال المرء مع أفعاله ومع أقواله السابقة. هناك معايير دقيقة تقيس مصداقية خطابات الأفراد والمؤسسات. ويؤدى التناقض بين الأقوال والأفعال أو بين الأقوال الراهنة والسابقة إلى خلق «فجوة مصداقية». هذه الفجوة شديدة الخطورة على صورة الأفراد، والجماعات، والأنظمة، وعلى قدرتهم فى التأثير على الآخرين. وتزداد خطورة فجوة المصداقية فى أوقات الأزمات الجماعية التى تتطلب درجة عالية من الثقة المتبادلة بين الأفراد؛ كى يكونون قادرين على التصدى لهذه الأزمات. فحين تغيب المصداقية تضيع الثقة، وتتحطم إمكانية العمل الجماعى، وتزول إمكانية تقديم المرء للتضحيات. ومن ثمَ، يكون الفشل فى مواجهة الأزمات ذريعا ومؤكدا. لذا يتعين على منتجى الخطاب العمومى بشأن الأزمة الراهنة أن يحافظوا على أعلى درجة من المصداقية، حتى يحافظوا على الثقة المتبادلة على المدى الزمنى البعيد. وإذا كانت هناك معلومات تبدو «مقلقة أو مخيفة»، فإنه يمكن اللجوء إلى استراتيجيات تلطيف لفظى رشيدة، تُقلل من مخاطر الوقع السيئ على الجمهور. أما الكذب فإنه يمنح طمأنينة مؤقتة، لكن ثمنه باهظ على المدى البعيد.
الاقتباس
قد دفعت إيطاليا، على سبيل المثال، ثمنا باهظا لخطاب التهوين من مخاطر انتشار المرض فى وقت مبكر من أوائل فبراير الماضى. ولو تمكن الخطاب المتداول بشأن المرض حينها من إقناع الأفراد بالمخاطر المترتبة عليه، لربما كان عدد ضحاياه، ودرجة تأثيره، أقل مما هو عليه الآن.
نقلا عن: جريدة الشروق