هل يمكن أن تكون العزلة دافعاً للإبداع؟ سؤال يبدو مطروحاً اليوم أكثر من أي وقت مضى٬ فمع اختيار أغلب مبدعي العالم وكُتَّابه وفنانيه للبقاء في بيوتهم إتقاء لخطر فيروس كورونا الذي بات يهدد البشرية جمعاء يبدو السؤال منطقيا حول ما إذا كانت هذه العزلة الاختيارية للمبدعين ستؤدي إلى مزيد من الإبداعات أو ستؤثر سلبيا على العملية الابداعية؟
أعمال خالدة.. في العزل
هنا يبدو من المفيد أن نسترجع أهم النماذج لأعمال فنية وأدبية أبدعها أصحابها وهم في حالة عزلة سواء بسبب الأمراض والأوبئة أو لأسباب تتعلق بالمناخ السياسي الذي ساد الفترة التي كتبت فيها هذه الأعمال، حيث رصد تقرير نشرته مجلة «ريدرز ويكلي» الأمريكية عدداً من الكلاسيكيات في عالم الأدب والفن التشكيلي والشعر وغيرها من المجالات الفنية صنعها أصحابها وهم في حالة من التباعد الاجتماعي عن الآخرين.
شهد شاعر الإنجليزية الأشهر ويليام شيكسبير أكثر من وباء في حياته، حيث ضرب مدينته لندن الطاعون خلال أبرز السنوات التي تألق فيها ككاتب مسرحي وهي الفترة ما بين عامي ١٦٠٣- ١٦١٣ ولا يزال المؤرخون والنقاد مختلفين حول ما إذا كان هذا الوباء قد ألهم شكسبير بعضاً من أهم أعماله التي كتبها في تلك الفترة أم لا.
ويليام شيكسبير
الأمر ذاته نجده عند الكاتب الفرنسي الأشهر فيكتور هوجو مع فارق بسيط وهو أن هوجو لم يختر العزلة بسبب مرض ما وإنما اضطر إليها اضطراراً بسبب مواقفه السياسية، حيث كان هوجو من أبرز منتقدي نابليون الثالث وسياساته وآثر الخروج إلى المنفى لكي يتفادي بطش السلطة وظل يتنقل بين أكثر من منفي بعيدا عن وطنه فرنسا علي مدار عشرين عاماً كاملة، واستغل هذه الفترة في كتابة أعمال شعرية عدة، الا ان ابداعه الأبرز خلال تلك الفترة كان روايته الشهيرة «البؤساء» التي تناولت الثورة الفرنسية وتحولت إلى إحدى كلاسيكيات الأدب الأوروبي وتحولت في العصر الحديث إلى أعمال سينمائية ومسرحية.
https://youtu.be/BDa7az8IN0Q
ومن الطريف حقاً أن إحدي ابرز روايات الكاتب الكولومبي الشهير جابرييل جارسيا ماركيز وهي رواية «١٠٠ عام من العزلة» استدعي إنجازها من الكاتب الابتعاد عن عمله كصحفي في والانكباب على الكتابة حتى خرج بهذا العمل الملحمي.
غابرييل غارسيا ماركيز
اما الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار أحد أبرز رموز الحركة النسوية في فرنسا٫فقد اضطرها احتلال ألمانيا النازية لبلادها عام ١٩٤٠ إلى ترك وظيفتها في مجال التدريس، ورغم اختيارها للعزلة في تلك الفترة٫ إلا أن هذا لم يمنعها من تقديم يد العون إلى المقاومة الفرنسية ضد النازيين وفي الوقت ذاته ابدعت مسرحيتها «افواه بلا قيمة» والتي، رغم كون أحداثها تدور في القرن الرابع عشر الميلادي، إلا أن تحمل اسقاطاً واضحاً على الفلسفة النازية التي لا تمانع في التضحية بالمهمشين مثل المسنين والمعاقين في سبيل الحفاظ على الشباب والأصحاء.
سيمون دي بوفوار
الرسم يتحدى المرض
وفي عالم الفن التشكيلي، شكلت تجربة الفنانة المكسيكية فريدا كاهلو نموذجا لما يمكن أن ينجزه الفنان في فترة العزلة إذا ما توافرت له الإرادة، حيث اختبرت كاهلو البقاء في الدار بسبب المرض مرتين، الأولى وهي طفلة والثانيه وهي مراهقه في سن الثامنة عشرة حيث تعرضت الحافلة التي كانت تستقلها الى حادث سير، واصيبت بجروح خطيرة الزمتها الفراش.
لكن إرادة كاهلو وتصميمها كانا أقوى من الإصابة حيث حولت فترة العزلة هذه الي واحده من اهم الفترات في مسيرتها الفنية الطويلة ورسمت عدداً من اللوحات لعل أبرزها لوحة «بورتريه» أو شخصية.
الأمر ذاته تكرر مع الفنان النرويجي إدوارد مونش صاحب لوحة «الصرخة» الشهيرة٫ حيث عانى هذا الفنان التشكيلي شأنه شأن غيره من الأنفلونزا الخطيرة التي انتشرت عام 1918، وخلال تلك الفترة رسم لوحة تحمل عنوان «بورتريه شخصي مع الإنفلونزا الإسبانية».
https://youtu.be/3dywwaCrztc
والاكتشاف العلمي أيضا
لم يقتصر الأمر على الإبداع الفني وحده، فالعلماء أيضا – وفقاً للمجلة – وجدوا في العزلة مساحة مكنتهم من إجراء تجاربهم والوقوف على حقائق علمية هام، فالعالم اسحق نيوتن- على سبيل المثال – وصل إلى اكتشاف الجاذبية الأرضية عام ١٦٦٥ وهو لايزال طالباً في جامعة كامبريدج وكانت مدينة لندن في ذلك الحين تصارع الطاعون، مما اضطر نيوتن إلى ترك لندن والعيش في مدينة مجاورة لمدة ١٨ شهراً متتالية. في تلك الفترة انكب العالم الشاب علي أبحاثه ودراساته حتى توصل إلى نظريته الشهيرة عن الجاذبية الأرضية، إضافة إلى عدد آخر من الدراسات العلمية القيمة.
العالم اسحق نيوتن
وتخلص المجلة إلى أن فترة العزل الصحي لم تكن عائقا أمام هؤلاء المبدعين بل علي العكس تماما كانت في معظم الأحيان عاملا مساعدا لهم.