السرقات الأدبية قديمة قدم الأدب ذاته، سجلت تلك السرقات حضورها في كل اللغات والأوطان، ونظرًا لما تسببه من ضياع الحقوق، أجمع النقاد على تحديدها بثلاث حالات: الأولى سرقة اللفظ دون المعنى، والثانية سرقة المعنى دون اللفظ، والثالثة سرقة اللفظ والمعنى.
تهمة السرقة لم يسلم منها شاعر، حتى المتنبي الشاهق، فقد رماه بها ابن العميدي في كتابه الشهير “الإبانة عن سرقات المتنبي”، والذي يقرأ الكتاب سيعرف كم تجنى ابن العميدي على المتنبي.
لكن رغم التجني الواضح، فقد كان ابن العميدي يقدم لقارئه مبرر اتهامه للمتنبي بالسرقة، فالرجل كان يكره المتنبي ويشنع عليه لا أكثر ولا أقل، وتلك ميزة نفتقدها عند الناقد الكبير الأستاذ رجاء النقاش.
النقاش صنع مع الشاعر العربي المصري الكبير أمل دنقل ما صنعه ابن العميدي مع المتنبي، لكنه ستر قصده بكلام كثير جدًا عن تقديره لشاعرية أمل وموهبته التي شهد بها الجميع.
أصل القصة أن الأستاذ النقاش أمضى ثلاثين عامًا من عمره يتابع الشعر العربي، من أواخر الخمسينات حتى أواخر الثمانينات، ثم جمع تلك المتابعات في كتاب ضخم صدر تحت عنوان “ثلاثون عامًا مع الشعر والشعراء” عن دار سعاد الصباح في العام 1992.
في ذلك الكتاب مقال خطير جداً كتبه النقاش تحت عنوان “أمل دنقل والماغوط .. سرقة أم تأثر”. عندما تقرأ المقال ستجد أمل سارقًا رغم الحجج المتهافتة التي قدمها النقاش، وكأنه يقول لنا: لقد دافعت عن أمل ولكن كيف أنفى المثبت.
يبدأ النقاش مقاله بقوله إن رسالة من أديب يمني يدعى “عبد الرحمن الوزير” وصلته وفيها مقارنة بين قصيدة أمل دنقل “ميتة عصرية” وقصيدة محمد الماغوط “أمير من مطر وحاشية من غبار”.
وبعد سطور يشكك الأستاذ النقاش في وجود الأديب اليمني ويقول: إن أحدهم قد همس في أذنه بأن صاحب الرسالة هو أديب شامي، وقد يكون الماغوط نفسه. ثم يبدأ النقاش في تقديم قراءته للقصيدتين، وهي القراءة التي تثبت السرقة من حيث أرادت نفيها، وهذا هو العجيب في فعل النقاش.
أمل دنقل شاعر عربي عروبي مصري ولد في ٢٣ يونيو ١٩٤٠ وتوفي في ٢١ مايو ١٩٨٣، هذه التواريخ مهمة لأن النقاش قد جعلها حجر الزاوية في مقاله. كتب أمل في العام 1970 قصيدته “ميتة عصرية” التي جعلها من قصائد ديوانه “تعليق على ما حدث” الذي نشره في العام 1971.
قصيدة أمل هى حوار بين مواطن مصري وحاكم مصري، وموضوعها هو النيل. في بداية القصيدة يسأل الحاكم:
من ذلك الهائم في البرية
ينام تحت الشجر الملتف
والقناطر الخيرية؟
– مولاي هذا النيل
نيلنا القديم
– أين ترى يعمل أو يقيم؟
– مولاي كنا صبية نندس في ثيابه الصيفية
فكيف لا تذكره؟
وهو الذي يذكر في المذياع
والقصائد الشعرية
– هل كان قائدا؟
– مولاي. ليس قائدا
لكنما السياح في الشتاء ذي
الأقمصة القصيرة الأكمامْ
يأتون كي يروه
– آه ويصورونه بوجهه الباكي
وكوفيته القطنية
لكي يشهروا بنا
بالنظم الثورية
تعال كي نودعه
في ملجأ الأيتام
– مولاي. هكذا تحبه الصبايا والرعاة والأغنام
وأم كلثوم تغني له
في وصلتها الشهريةْ
– النيل؟
أين يا ترى
سمعت عنه قبل اليوم؟
أليس ذلك الذي
كان يضاجع العذارى
ويحب الدمٌ؟
– مولاي. قد تساقطت أسنانه في الفم
ولم يعد يقوى على الحب أو الفروسيةْ
– لابد أن يبرز لي أوراقه الشخصية
فهو صموت
يصادق الرعاع يهبط القرى
ويدخل البيوتْ
ويحمل العشاق في الزوارق الليليةْ
– مولاي هذا النيل
– لا شأن لي
بنيلك المشرد المجهول
أريد أن يبرز لي أوراقه الرسميةْ
شهادة الميلاد
والتطعيم، والتأجيل
والموطن الأصلي والجنسيةْ
حتى يمارس الحرية
تلك كانت قصيدة أمل وهى مقطع من ثلاثة مقاطع تشكل مجمل تكوين قصيدته “ميتة عصرية”، وهذا المقطع / القصيدة يحمل خصائص شعر أمل التي يعرفها أهل البصر بالشعر عامة وبشعر أمل خاصة، من سخرية سوداء مريرة ومن تمرد وثورة ومن تكثيف حاد حاسم كأنه كلام سيف عربي منتصر، لا مجال لديه لأنصاف الحلول أو المساومات.
هذا عن أمل فماذا عن الماغوط رحمه الله؟
ولد الشاعر العربي السوري محمد الماغوط في ١٩٣٤ وتوفي في ٣ أبريل ٢٠٠٦، وهذا يعني أن العمر قد امتد به بعد رحيل أمل ثلاثًا وعشرين سنة كاملة.
في العام 1970 صدر للأستاذ الماغوط ديوانه “الفرح ليس مهنتي” وبه قصيدته “أمير من مطر وحاشية من غبار”. في كتاب الأستاذ النقاش لا ذكر لهذا التاريخ، لأنه يقول إنه بحث عن تاريخ قصيدة الماغوط لكن لم يعثر عليه.
يكتب النقاش كثيرا عن تاريخ ميلاد الرجلين، أمل والماغوط، فترجح كفة الماغوط لأنه ولد قبل أمل بأربع عشرة سنة كاملة، وعرف النشر وذاع صيته قبل أمل بعشر سنوات على الأقل، ووفق هذه التواريخ المثبتة فإن أمل عرف الماغوط قبل أن يعرف الماغوط أمل.
قلنا إن قصيدة أمل كانت عن النيل، أما قصيدة الماغوط فهى عن بردى، وفيها يجري الحوار بين الحاكم وبين الشوارع والحانات.
يسأل الحاكم:
– أيتها الشوارع
أيتها الحانات
من هذا الشبحُ الراقدُ على الأرصفة
والنمل يتجاذبُ مسبحته ومنديله
وخصلاتِ شعره؟.
– إنه بردى
– بردى؟
لا أذكر أخا أو صديقا بهذا الاسم
أهو صندوق أم جدار
– مولاي إنه بردى
النهر الذي ترافقه الزهور العطشى
من نبعه إلى مصبّه
– ليراجعني غدا
في مكتبي القائم بين الأرصفة
علّني أجد له ميتما بحريا
أو سحابة شمطاء تتبناه
– مولاي إنه ليس متسوّلا يا مولاي
إنه بردى.. بردى الألثغ الصغير
كبرَ وشبّ
واهترأت مريلته الخضراء على صدره
ولم يعدْ يغادر مجراه
حتى في الليالي المقمرة
حتى في أيام العطل والآحاد
ثم ينهي الحاكم النقاش قائلًا:
– ليراجعْني غدا
في مكتبي القائم بين الرياح
وطلب الاسترحام ملصوقٌ على ضفتيه
بعد قراءة القصيدتين، لا يصح الكلام عن التشابه أو التأثر، كما لا يجوز إيهام القارئ بالدفاع عن أمل كأنه لص، ولا يصح التشبث بتواريخ الميلاد كأن كل لاحق يسرق من كل سابق.
ليست هناك سرقة للأسباب الآتية:
أولًا: قصيدة أمل مكتوبة قبل سنة من نشر الماغوط لديوانه، وديوان أمل به قصائد كتبها قبل النشر بثلاث سنوات، وأهم قصائد الديوان أعني قصيدة “تعليق على ما حدث في مخيم الوحدات” لا يجوز عقلاً أن تكون مكتوبة قبل اندلاع المعارك السوداء بين الأشقاء الفلسطينيين والأردنيين في أيلول الأسود من العام 1970.
ثانيًا: عاش الماغوط بعد رحيل أمل قرابة الربع قرن ولم يذكر عن الأمر كلمة واحدة ولم يتهم أمل بشيء.
ثالثًا: الماغوط قامة شعرية منكرها كالذي ينكر ضوء الشمس، وهو من الذين وهبوا الشعر كل حياتهم فلو حدث وتجرأ أحد على شعره ما كان ليصمت.
رابعًا: أمل هو انفجار الشعر ذاته، وهو رجل حشو جلده كبرياء، وهؤلاء لا يسرقون.
خامسًا: الأمر على حقيقته وبالنظر لمكانة الشاعرين الكبيرين لا يخرج عن قراءة أحدهما لقصيدة الآخر ثم قيامه بمعارضتها، والمعارضة فن عربي قديم جدًا لا يدخل تحت باب السرقة بأي حال من الأحوال. لقد كتب شاعر منهما عن نهر بلاده فرأى الثاني معارضته ذاكراً نهر بلاده. كان من الإنصاف أن يقول النقاش إن شيئاً بينه وبين أمل جعله يدينه من حيث أراد إظهار الدفاع عنه.
إن شوقي العظيم كتب:
“مضنــاك جفـاه مرقده وبكـاه ورحّــمَ عُوَّده”
فهل قال أحد أو هل يستطيع أحد أن يقول إنه سارق للحصري القيرواني الذي قال
“ياليلُ الصبُّ متى غده أقيامُ الساعة موعـده”
نحن أمام معارضة حديثة وهبت لديوان الشعر العربي قصيدتين من أثمن قصائده، وليرحم الله شاعرينا الكبيرين وليعوضنا عنهما بخير منهما.
أغنية مضناك جفاه مرقده بصوت محمد عبدالوهاب