ربما لم ينل توشيحا دينيا شهرة ومكانة في أنفس المستمعين مثل ما حقق توشيح «يا أيها المختار» للشيخ طه الفشني، وبالرغم من أن كثيرين من كبار المنشدين في مصر وخارجها قد أدى هذه القصيدة، إلا أن أداء الفشني ظل ذروة لا تبلغ، وعقبة لا تقتحم.
والقصيدة من نظم الشيخ المقرئ الحافظ ندا علي ندا، وهو أحد المجودين المتلقين لعلم القراءات بأسانيد متصلة.. ولد في حدود العام 1914، وتوفي عام 1977 على الغالب.. والمعلومات عنه شحيحة جدا، ولم يشتهر له شعر سوى هذه القصيدة.
يا أيها المختار من خير الورى.. خُلقا وخَلقا في الكمال توحدا
ماذا اقول لمدحه والله طهر من سفاح الجاهليه أحمدا
ذو رأفة بالمؤمنين ورحمة سماك ربك في القرآن محمدا
نادت بك الرسل الكرام فبشرت وملائك الرحمن خلفك سجدا
لا يحصي فضلك ناثر أو كاتب عددا ولا الشعراء يا غوث الندى
طه صلاة الله مني سرمدا ثم الصلاة عليك يا نجم الهدى
يا رب هب من لدنه شفاعة واجعل كتابك حجة لي شاهدا
وأما اللحن فللموسيقار والمطرب القدير الشيخ مرسي الحريري، الذي ولد في حي الجمالية عام 1913، وحفظ القرآن بالجامع الأزهر، وترعرع في بيئة دينية تهتم بالتلاوة والإنشاد، وتتلمذ على يد علمين من أعلام النغم العربي: الموسيقار المؤرخ كامل الخلعي، وأستاذ الأساتيذ الشيخ درويش الحريري.
تنطلق البطانة باللحن من مقام البياتي، في تماسك مدهش عرفت به بطانة الفشني، ثم يدخل الشيخ بصوته المفرط في العذوبة والرقة ليصول بجمل ارتجالية، وهو ما سيفعله خلال القصيدة كلها.. تنشد البطانة الأبيات باللحن الموضوع مسبقا، ثم يكررها الفشني أو أجزاء منها ارتجالا، يصول فيه ويجول ثم يسلم للبطانة تسليما سلسلا عبقريا فريدا.
ويواصل الفشني تبادل الدور مع البطانة إلى أن يبلغ إحدى أهم المحطات في القصيدة، وهي عبارة «نادت بك الرسل الكرام»، حيث يؤدي لفظة الكرام أداء طربيا بصيغة تستجمع كل ما في البياتي من شجن وأنس، ليرتج الجمهور المحتشد في مسجد الحسين بالهتاف والاستحسان.
ومع عبارة «لا يحصي فضلك ناثر أو كاتب عددا».. يطلق الفشني لحنجرته العنان مع آهة تحمل الحرقة واللوعة وباهتزازات سريعة لأوتار حنجرته، ثم يتخافض ليصل إلى طبقة التسليم.
ويقدم في عبارة «يا غوث الندى» نموذجا رائعا لما نسميه القفلة بالتلاشي.. فبعدما كان يكرر لفظة النداء يا، يا،.. انتهت هذه الياءات إلى آهة خفيضة مناسبة تمام المناسبة للتسليم إلى البطانة.
مع «عبارة يا نجم الهدى»، ولا سيما في إعادتها، يمسك الرجل بحبال مقام السيكاة، ويستخدم المناطق الحادة في صوته، كما يستخدم ذبذباته السريعة، ويقدم قفلة هي من السحر الحلال، والشهد المصفى.
وقبيل ختام القصيدة يستغل الفشني لفظة «يارب» ليبتهل إلى الله ويدعوه بالنصر، والرحمة للشهداء.
لقد اختزن طه الفشني خبرات كبيرة حصلها بالتتلمذ على يد إمام المنشدين الشيخ علي محمود، ثم أضاف إلى تلك الخبرات محصولا نغميا ضخما عبر الممارسة اليومية وإحياء الليالي والمحافل في القرى والنجوع، بالتلاوة وإنشاد القصائد والتواشيح والموالد، بصحبة بطانة منتقاة.
ويبقى أداء الشيخ طه الفشني لقصيدة يا أيها المختار، معلما بارزا من معالم هذا الإنشاد الذي افتقدناه، حينما فقدنا تلك الحناجر الذهبية، والأصوات المدربة، كما يبقى دليلا باهرا على ما بلغه فن الإنشاد الديني المصري من رفعة وجلال، جعلته المصدر الأول الذي يستقي منه الملحنون والمطربون من أعلام الأداء الكلاسيكي العربي.