المتابع لملف سد النهضة لا بد أن يلفت نظره الموقف السوداني من هذا السد وذلك على مدى تسع سنوات، فهناك من يراه قد تحوّل في الفترة الأخيرة، وهناك من يراه يتسم بالغموض، أما الفريق الثالث وهو من السودانيين، فربما يتهمه بأنه يهمل قضايا سلامة السد على حساب الأمن الإنساني للشعب السوداني، وينخرط فقط في قضايا تخزين المياه وتشغيل السد، التي هي هموم مصرية أكثر منها سودانية.
ولعل ما يبرر التركيز على موقف الخرطوم من سد النهضة هو أنه كان ملفاً مسكوتاً عنه تماماً على المستوى الداخلي وقت حكم الرئيس المخلوع عمر البشير، بينما يشهد حالياً جدلاً واسعاً في النقاش العام السوداني، وأوساط الرأي العام، وذلك في وقت تتداخل في هذا الملف فواعل إقليمية رسمية وغير رسمية تؤثر في هذا الجدل السوداني المتصاعد بشأن سد النهضة، منها من يبحث عن مصالحه كإثيوبيا ومنها من يصفي حساباته مع مصر على الجسر السوداني.
ثمة ملامح لتحوّلٍ سوداني من المتوقع أن تكون مغايرة بالكلية لموقف الخرطوم سابقاً، وقد يكون موقفاً قاصراً ومحدوداً يسعى فقط إلى توازن إقليمي وإتفاق محدود قد يغفل معه مخاطر أساسية تواجه السودان تحديداً، ولكن مسكوت عنها حتى اللحظة الراهنة.
ملامح التغيُر في الموقف السوداني
ربما يكون من المتفق عليه أن الرئيس المخلوع عمر البشير ووفق مفهوم قاصر قد نحّى المصالح السودانية في هذا الملف، وتم توظيفه في مسائل التوظيف والابتزاز الإقليمي الذي كان بارعاً فيها إلى حد إعادة تموضع السودان الإقليمي أكثر من مرة على مدى سنوات قليلة، وذلك على نحو يخالف مصالح الدولة الاستراتيجية، وفي هذا السياق تم تعطيل أية دراسات سودانية فنية عن هذا السد في أروقة الجامعات السودانية مثلاً أو حتى في وزارة الري التي تبنت خطاباً يمجد في السد ويعدّد الفوائد العائدة على السودان منه وهي المتمثلة في التحكم في فيضان النيل الأزرق والحصول على كهرباء بأسعار تفضيلية كما وعد الإثيوبيون، حيث تم إسكات الأصوات التي كانت ترى خطورة هذا السد على مصالح الخرطوم، وتم منع حلقات النقاش العلني في هذا الأمر تحت سقف انخفاض الحريات العامة وتحكم أجهزة الأمن في نظام البشير في المحتوى الإعلامي، وكذلك اللجوء إلى توقيف ومصادرة الصحف.
ولكن مع تغيُر النظام في أبريل (نيسان) 2019 وبداية تبلور أطراف جديدة للنظام السياسي السوداني في أغسطس (آب) من العام ذاته، انفتحت أبواب النقاش الداخلي في ملف سد النهضة، كما أفاق السودان على صدمة عدم الحضور الإثيوبي لجلسة التوقيع على اتفاق تم بلورته تقريباً عبر ثلاثة أشهر من المباحثات برعاية من الإدارة الأميركية والبنك الدولي، وذلك في فبراير (شباط) الماضي، كما احتكت النخبة السياسية السودانية الجديدة وعن قرب بالأداء الإثيوبي وطبيعة مراوغاته في مباحثات واشنطن.
عوامل التغيُر
راهنت إثيوبيا على انحياز سوداني كامل لها، وأسست هذا الموقف على أدوارها النشطة في دعم الثورة السودانية، خصوصاً في أروقة الاتحاد الأفريقي الذي انخرط في مطالبة المجلس العسكري بتسليم السلطة للمدنيين بالكامل طبقاً لوثيقة «لومي» عام 2002 التي توافقت فيها الدول الأفريقية على منع الاعتراف بالانقلابات العسكرية ومواجهة صعود النخب العسكرية للسلطة، كما نشطت إثيوبيا أيضاً في منع مواجهات قاسية كانت متوقعة بين التحالف الثوري السوداني «قحت» والمجلس العسكري على خلفية فض الاعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية في 3 يونيو (حزيران) 2019، وهو ما أسفر عن وقوع ضحايا واغتصاب نساء واختفاء نشطاء، في واقعة لم يتحدد المسؤول عنها حتى اللحظة الراهنة.
وقد اعتبرت إثيوبيا أن هذا الأداء السياسي من جانبها يمكن أن يؤمن موقفاً سودانياً منحازاً إليها بالكامل، خصوصاً أن القطاعات الشبابية والقوى السياسية السودانية راهنت على الدعم الإثيوبي لها في مسألة التحول الديمقراطي التي هي حلم سياسي ممتد على مدى التاريخ السوداني المعاصر، وذلك في مواجهة وحدات النظام العربي، التي تسعى ولا تزال إلى تقويض فرص هذا التحول. في هذا السياق أغفلت أديس أبابا أن أداءها السياسي في ملفي الحدود وسد النهضة قد تسبب في وجود قلق سوداني عميق على المستويين الرسمي والشعبي، حيث وفرت أديس أبابا معطيات لهذا القلق يمكن تفصيلها في الآتي:
– إن عدم الالتزام الإثيوبي بالتوافقات التي يتم التوصل إليها في سياق سد النهضة، يسهم بشكل أساسي في تآكل مصداقيتها على المستوى السوداني الرسمي، ويبدد الثقة فيها كدولة يمكن الاعتماد عليها في تأمين المصالح السودانية الواقعية، والحفاظ على شرعية الثورة السودانية وحكومتها الانتقالية أمام جماهير شعبها، وذلك في ملف حساس يرتبط بمعاش الناس المرتبط بالزراعة، وكذلك في أمنهم.
– ممارسة إثيوبيا نوعاً الاستقواء والتهور في ملف الخلافات الحدودية مع السودان، وذلك في منطقة «الفشقة»، وذلك بتقديم إسناد عسكري لعصابات إثيوبية متفلته لها وجود تاريخي في المنطقة، حيث أقدم الجيش الإثيوبي الفيدرالي على التغول في الأراضي السودانية لمسافة تزيد على 15 كيلومتراً، في محاولة لتفعيل ورقة إرهاب للنظام السوداني الوليد الذي يعاني من سيولة داخلية لا يستهان بها، وما زالت قواته المسلحة مستنفرة في ملفات التسويات السلمية مع الحركات المسلحة على المستوى الداخلي.
ويبدو أن إثيوبيا أغفلت أثر تحول صورتها هذه المرة من داعمة لثورة السودان وقواعدها السياسية والاجتماعية إلى داعمة لاعتداء عصابات على المواطنين السودانيين العزل، وهو ما يلهِب بالضرورة الشعور الوطني السوداني ضدها نسبياً بشكل عام.
– أما الخطوة الإِثيوبية الثالثة التي أسهمت في وجود مسافة تتزايد بين عاصمتي البلدين فهي صلف إثيوبي أصبح مشهوداً في تصريحات النخب التي تتحدث ليل نهار عن ملء لبحيرة سد النهضة من دون اتفاق مع الشركاء في حوض النيل الأزرق. وهو أمر يؤثر بشكل واضح في بحيرة سد الروصيرص الذي تبعد بحيرته عن سد النهضة بنحو 100 كليومتر فقط كما يقول وزير الري السوداني. وبطبيعة الحال مع هذا النوع من التصريحات الإِثيوبية شعرت الخرطوم أنها مهددة كما القاهرة في الحصول على حصتها المائية، وأن عدم الالتفات الإثيوبي إلى مسائل الجفاف والجفاف الممتد المؤثر في حياة الناس في كل من مصر والسودان، والإصرار على الملء المتعجل لبحيرة السد هي أمور تجعل المصالح السودانية أمام مخاطر لا يمكن تحملها.
وقد حاولت الخرطوم جاهدة احتواء الموقف الإثيوبي عبر المبادرة التي قدمها رئيس الوزراء السوداني منتصف مايو (أيار) الماضي، باستئناف المباحثات على مستويين، الأول تمهيدي بين السودان وإثيوبيا جرى في الأسبوع الأخير الشهر ذاته، والثاني على مستوى ثلاثي بدأ في الأسبوع الثاني من يونيو، لكن كلتا الجولتين لم تؤديا إلى تطور إيجابي، حيث حسم السودان موقفه في المباحثات التمهيدية بينه وبين إثيوبيا بأن لها نتائج سلبية طبقاً لخطاب وزارة الري السودانية إلى نظيرتها المصرية في نهاية مايو، وذلك بعد أن شاهدت وزير الري الإثيوبي يتحدث في أطر جزئية وهي المرتبطة بالملء الأول لبحيرة السد متجنباً بالكلية مخرجات مسار واشنطن، ما دفع وزيرة الخارجية السودانية إلى القول بأن ملئاً منفرداً لبحيرة السد غير مقبول، وقالت بضرورة بلورة موقف سوداني مصري مشترك لمواجهة الصلف السياسي الإثيوبي.
في هذا السياق، شهدت مباحثات الإسبوع الثاني من يونيو تعثراً أيضاً على خلفية تقديم أديس أبابا ورقة جديدة تنسف ما جرى الاتفاق عليه سابقاً، وهو ما يعزز استمرار التباعد السوداني عن إثيوبيا.
حدود التغيُر في الموقف السوداني
من الثابت أن سد النهضة تم إنشاؤه من دون دراسات كافية، كما قالت تقارير دولية، وأن إثيوبيا عرقلت هذا النوع من الدراسات وتسببت في تعطيل ثم توقف المكاتب الدولية العاملة في هذا المجال. ومن الثابت أيضاً وطبقاً لتصريحات المسؤولين الإثيوبيين أنه قد تم حقن التربة المُنشأ عليها السد بعشرات الآلاف من أطنان من البلاستيك كونها قريبة من الإخدود الإفريقي العظيم بحدود 500 كيلومتر، وأن التربة قابلة للانجراف والتحلل، ومن هنا ليس هناك رقم إثيوبي معلن لعوامل أمان سد النهضة، كما هو معمول به في باقي السدود حول العالم. ومع تصريحات الجيولوجيين عن مدى ملاءمة الإنشاء الهندسي لعوامل الأمان، ومع ملاصقة هذا السد للحدود السودانية، ومع حجم التخزين المائي الهائل للمياه في بحيرة سد النهضة، يكون السودان مهدداً تماماً، مع أي احتمال لانهيار هذا السد بعد ملء بحيرته.
ورغم جسامة هذه المخاطر فإنه حتى الآن يبدو السودان على المستوى الرسمي غائباً عنها بالكامل، لكنها مطروحة نسبياً على مستوى الجدل في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الصحف السودانية. وبطبيعة الحال يبدو هذا الإغفال المصري والسوداني لمسألة مدى أمان سد النهضة وعدم وضوحها أمر ملغزاً، خصوصاً مع توقف عمل المكاتب الاستشارية. وإذا كانت القاهرة تعتبر أن نقص المياه هو همها الأساس بحكم بعدها الجغرافي عن سد النهضة الذي يتجاوز 2000 كيلومتر، فإن القرب الجغرافي للسد من السودان يجعل التغافل عن مدى أمان السد خطأ استراتيجياً من الممكن أن تكون له نتائج كارثية.
نقلا عن: independent arabia