عقب رحيله بأيام، كتب عنه الأديب الكبير عباس محمود العقاد مقالا جاء فيه: كان هو الصلة الأخيرة بين عهدين منفصلين من عهود النهضة المجددة في فنون الغناء والموسيقى والتلحين، وهما: عهد عبده الحامولي ومحمد عثمان، وعهد أم كلثوم وعبد الوهاب… كان صوته كالماء العذب النقي يأخذ من كل إناء لونه كما يأخذ من كل إناء شكله، واستطاع بهذا الصوت الغني «المثالي» أن يحاكي عبده، والمنيلاوي، وعبد الحي حلمي، وسلامة حجازي، ومحمد السبع وإخوانهم وزملاءهم أبناء المدرسة السابقة، فلم يَقصُر عن واحد منهم بحلاوة النغمة، وامتداد النفس، وطمأنينة «المعلم» المرتاح في جلسته وإشارته، ولا أذكر أنني رأيت مغنيًا قط يستوي على «التخت» مثل استوائه، ويمتزج بأعضاء التخت الآخرين مثل امتزاجه.
صالح أفندي عبد الحي
هو أهم الحراس الأشداء للغناء التقليدي، وأبرز من تصدوا لموجة التغريب التي هبت على الحياة الموسيقية والغنائية منذ نهاية العشرينيات، عاش حياته منحازا للطرب الأصيل والتخت الشرقي، ووظف موهبته الفذة وصوته القدير لإظهار جوانب العظمة في الغناء المصري المنتمي إلى الحقبة الحامولية.
صالح عبد الجواد خليل، الشهير بصالح عبد الحي، بعدما نسب نفسه لخاله المطرب النهضوي الكبير عبد الحي حلمي، ولد بالقاهرة، ونشأ محبا للغناء، مولعا بفنون الطرب، فعمل مذهبجيا يردد وراء خاله، ويحفظ ما ينشده من قصائد وأدوار وموشحات ومواويل، قبل أن يصقل موهبته من خلال العمل مع فِرَق القانونجيين الشهيرين محمّد عمر وعلي الرّشيدي، والتتلمذ على يد الموسيقي الكبير الشيخ درويش الحريري.
قصيدة أراك عصي الدمع بصوت صالح
بدأ صالح أفندي رحلته الفنية عمليا عام 1914، أي بعد وفاة خاله عبد الحي حلمي بعامين، وبلغ ذروة المجد في حقبة العشرينيات، حيث كان مطرب مصر الأول بلا منازع، وصاحب الأجر الأكبر بين المطربين جميعا، حيث كان يتقاضى 300 جنيه في الليلة الغنائية، وحين غنى في حضرة الزعيم سعد زغلول تقاضى منه مبلغ 100 جنيه ذهب، كان يعيش كالملوك، وينفق ببزخ على ملذاته، ويركب عربة تجرها الخيول، يذهب بها إلى المحافل التي يحضرها علية القوم، والآلاف من محبي صوته القوي الصداح، وأدائه المتميز الفريد.
وكان صالح يغني في العشرينيات بدون ميكروفون، ويملأ بصوته السرادقات الكبيرة، ويفيض بالطرب والسلطنة، ويأخذ المستمعين إلى ذرى النشوة، ويزحزحهم بطربه عن مقاعدهم، ثم يفقدون صوابهم فيخلعون عمائمهم، ويقذفونه بطرابيشهم، وسط صيحات الوجد والاستحسان المتصاعد مع درجات الصوت الجبار.
دور قد ما أحبك زعلان منك بصوته
أدى صالح عبد الحي كل قوالب الغناء باقتدار بالغ، واشتهر بقدرة فائقة على الارتجال، والإضافات النغمية، والتصرفات اللحنية، ثم العودة بمنتهى السهولة إلى المقام الأصلي، مع خبرة كبيرة في التعامل مع ضروب الإيقاعات المختلفة. وبلغ صالح ذروة لا يطاولها أحد في أدائه لقالب الدور، إذ كان يتفنن في أداء الأدوار تفننا يخلب الألباب.. ومن أشهر الأدوار التي أداها المطرب الكبير: الله يصون دولة حسنك، كنت فين والحب فين، جددي يا نفس حظك، متع حياتك بالأحباب، حظ الحياة يبقى لي روحي، حبيت جميل طبعه الدلال، ياما أنت واحشني، قدك أمير الأغصان، عهد الأخوة نحفظه، بستان جمالك من حسنه، عشنا وشوفنا، أد ما أحبك زعلان منك، أشكي لمين ذل الهوى.
كما أدى أيضا الأدوار الشهيرة: اعشق الخالص لحبك، أوان الوصل قرب، على روحي أنا الجاني، في البعد ياما كنت أنوح، القلب داب يا دموع العين، ليالي الفرح عادت، يا وصل شرف، متع حياتك بالأحباب، كل قلبي يا جميل، عذولي في الهوى دايما يلومني.
وكان صالح أحد عمالقة “الموال”، يؤديه بقوة وتمكن، ويبرز فيه قدراته الكبيرة في الارتجال، وقد وصلنا عدد كبير من مواويله العظيمة، ومنها: فيك ناس يا ليل، ياللي جفاك الحبيب، يا عيني ليه تنظري، دموع عيوني انتهت، يا مفرد الغيد يا سيد الملاح، أصل اشتباكي مع المحبوب في هواك، جرحت قلبي ومش لاقي وا أشفيه، وغيرها.
أما قالب القصيدة فكان له نصيب معتبر من غناء عبد الحي، ومن أشهر القصائد التي تفنن فيها “أراك عصي الدمع” التي وصلنا منها بصوته عدة تسجيلات، يبدو في بعضها تأثره الواضح بأداء عبدالحي حلمي لنفس القصيدة، كما أنشد صالح قصائد: كم بعثنا مع النسيم سلاما، عجبت لسعي الدهر، فتكات لحظك أم سيوف أبيك، غيري على السلوان قادر، وقرطبة الغراء. وترك صالح عبد الحي عددا كبيرا من الطقاطيق البديعة، التي كانت تلقى رواجا كبيرا بين الجمهور لخفة كلماتها، وقربها من الطبقات الشعبية، ومنها” أبوها راضي وأنا راضي، على خده يا ناس ميت وردة، ما كانش يخطر على بالي، يكون في علمك أنا مش فاضي، سيبك منه على كيفه، مع الجمال ده وطايع ربك، لسه طالعة من البيضة، ما تقوم من النوم يا حبيبي… وغيرها كثير.
يغني قصيدة قد كنت أرجو وصلكم من ألحان االسنباطي
كما شارك صالح عبد الحي بالغناء والتمثيل أمام سلطانة الطرب منيرة المهدية، بعدما اختلف معها المطرب الناشئ محمد عبد الوهاب، وتركها خلال عرض مسرحية كيلوباترا ومارك أنطوان، فحل محله صالح أفندي وقام بدور أنطونيو، كما شارك عام 43 في فيلم البؤساء، وغني فيه أغنيته الشهيرة من كلمات بديع خيري: جدي وأبويا وأنا صبوات ولاد صبوات، مع رقصة تؤديها أمينة رزق.
ويذكر موقع مؤسسة التوثيق الموسيقي اللبنانية أن “لصالح عبد الحي فضل كبير في الكشف لنا عن حقيقة أجواء الوصلات الحية التي كان يحييها كبار العصر الذهبي أمثال عبده الحامولي ويوسف المنيلاوي أمام جمهورهم، وذلك من خلال تسجيلاته الإذاعية المطولة لتراث المدرسة الخديوية، إذ لم يبق لنا من ذاك التراث سوى أسطوانات لا تتعدى مدة الوجه منها الأربع دقائق وهي حتما لا تعكس أجواء الحفلات الساهرة التي كانت تدوم حتى بزوغ الفجر”. كان صالح حريصا على أداء ألحان جيل الرواد، أمثال الشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب، وعبده الحامولي، ومحمد عثمان، وسلامة حجازي، وأبو العلا محمد، ولجمال صوته ورصانة أدائه قدم له عدد من كبار الموسيقيين ألحانا خاصة به.
ومن أبرز الأعلام الذين تعاونوا بألحانهم مع صالح عبد الحي: محمد القصبجي، ومرسي الحريري، وأحمد صدقي، ومصطفى بك رضا، وأحمد عبد القادر، وبالطبع رياض السنباطي، الذي قدم لعبدالحي عددا من الألحان من أشهرها على الإطلاق طقطوقة ليه يا بنفسج، من كلمات بيرم التونسي، وتقول كلماته: ليه يا بنفسج بِتِبهِج وأنت زهر حزين.. العين تتابعك وطبعك محتشم ورزين.. ملفوف وزاهي يا ساهي لم تبوح للعين.. بكلمة منك كإنَّك سِرّ بين اتنين.
يغني ليه يا بنفسج في بدايات انطلاق التليفزيون المصري
حققت طقطوقة ليه يا بنفسج نجاحا كبيرا جدا، وعاشت في وجدان الشعب المصري والشعوب العربية، وليس أدل على بقائها وخلودها من حرص عدد كبير من المطربين المصريين والعرب على أدائها رغم مرور عقود طويلة على ظهورها، فقد غناها المنشد السوري حسن الحفار، والشيخ إمام عيسى، والمطرب الكويتي عبد الله الرويشد، وميادة الحناوي، والفنان التونسي لطفي بوشناق، والفلسطيني مصطفى دحلة، وجورج وسوف، على سبيل التمثيل لا الحصر.
وبعد رحلة فنية دامت نصف قرن، توفي صالح عبد الحي في مايو عام 1962.. ففقدت دولة الطرب الشرقي الكلاسيكي أبرز أركانها.