سالينا ترامل – مسئولة «برنامج التضامن المؤقت من أجل هندوراس وبورتوريكو» في منظمة «جراسروتس إنترناشونال»، والمنسق السابق للبرنامج في منطقة الشرق الأوسط وهايتي
عرض وترجمة: أحمد بركات
لم يكن عاما سهلا على الفلسطينيين على الأطلاق، بل ربما كان متفردا في قساوته وشدته. فمع إطلالة عقد جديد في يناير الماضي كشفت الإدارة الأمريكية النقاب عما أسمته، على سبيل المفارقة، بخطة «صفقة القرن»، والتي تسمح لإسرائيل بضم -غير مشروع -لحوالي ثلث الضفة الغربية من جانب واحد.
بعد ذلك، تسلل فيروس كورونا عبر نقاط التفتيش إلى بيت لحم في شهر مارس، ملقيا بملايين الفلسطينيين خلف قضبان الإغلاق. وفي أبريل، شكلت إسرائيل حكومة وحدة وضعت نصب عينيها الضم الفوري التوسعي لوادي الأردن في انتهاك صارخ للقانون الدولي.
واليوم، قبيل أيام من الاسنيلاء على هذه الأراضي في شهر يوليو، تنتاب الفلسطينيين حالة من القلق من أن يمر هذا الأمر دون أن يلتفت إليه أحد في ظل انشغال العالم بحربه على فيروس كورونا المستجد وكبح تداعياته الاقتصادية.
غالبا ما يتم تقديم فلسطين على أنها حالة شاذة في السياسة الدولية. فقد تمكن المدافعون عن الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية من الترويج لسردية الفرادة والاستثنائية بشكل فعال عن طريق التأكيد على الحجم الصغير نسبيا لهذه البقعة الساخنة من منطقة البحر الأبيض المتوسط، والإصرار على أنها تنطوي على انقسامات دينية غير قابلة للرأب. وقد أظهرت الاستجابة لكوفيد – 19 سردية لديناميات مشابهة، حيث انهال المديح والثناء على الحكومة الإسرائيلية بسبب الإجراءات التي اتخذتها لمواجهة الوباء داخل حدودها، بينما كانت -دون رادع – تتركه يتدفق إلى داخل الأرض المحتلة.
المقاومة عن طريق العودة الي الارض وزراعتها
وفي سياق الأزمة التي تفاقمت مؤخرا بخطة الضم التي تلوح في الأفق والمخاطر الصحية التي يشكلها الوباء، صعدت حركات العدالة الاجتماعية في قطاع الزراعة من مستويات مقاومتها. ويأتي في القلب من هذا النضال جهود حماية الموارد الطبيعية، مثل الأرض والماء والبذور، إضافة إلى إدراك وبلورة أشكال عديدة للسيادة الفلسطينية.
«تمثلت استجابتنا لوباء فيروس كورونا في حث شعبنا على العودة إلى الأرض وزراعتها»، كما تقول أمل عباس، من «اتحاد لجان العمل الزراعي»، وهو حركة صغيرة لمنتجي الأغذية تمثل حوالي 20 ألف مزارع وصياد في ريف الضفة الغربية وقطاع غزة. وتعكس هذه النسخة الفلسطينية من «الاحتماء في المكان» استراتيجة أوسع يتبناها الاتحاد منذ عام 1986 لمقاومة الاحتلال والضم غير الشرعيين.
يمتلك نموذج الاحتلال الاستيطاني، الذي يسعى إلى استبدال الفلسطينيين سكان الأرض الأصليين بسكان مهاجرين من الخارج، حزمة من القواعد العبثية والكارثية التي يدعمها النظام القانوني الإسرائيلي العنصري أحد النماذج المهمة لهذه القوانين هو ذلك القانون الذي ينص على أنه في حالة عدم استغلال الأرض لمدة ثلاث سنوات، فإن ملكيتها تؤول تلقائيا إلى الدولة الإسرائيلية. لقد بذل الجيش الإسرائيلي جهودا مضنية ليستولي علي أكبر قدر ممكن من الأراضي الفلسطينية غير المستغلة ويضمها بشكل غير شرعي لبنية دولته. ويستخدم هذا القانون لتبرير عمليات بناء المستوطنات الإسرئيلية غير الشرعية، وتوسيعها، وذلك عن طريق عمليات الطرد القسري للفلسطينيين وهدم المنازل، ومصادرة الأراضي الزراعية المزروعة، وبناء الجدار العنصري الفاصل.
الجدار العنصري الفاصل
ويعمل المدافعون الفلسطينيون عن حقوق الإنسان على كشف زيف هذه السردية والمشروع السياسي الشامل الذي تدعمه وقلبها رأسا على عقب. لقد كان المزارعون والعمال الريفيون الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة عوامل راسخة تضرب بجذورها بعمق في تربة التغيير الاجتماعي، ومن ثم فهمبالنسبة للمخطط التوسعي الاسرائلين علي قوائم القطاعات الأكثر استهدافا في المجتمع الفلسطيني.
وتضع هذه النسخة البطيئة من الانتهاك الاسراييلي العنيف، إلى جانب نموذج الضم الاستيطاني -متسارع الوتيرة المطروح على الطاولة البرلمانية الإسرائيلية، والذي يحظى بدعم أمريكي موسع – تضع مستقبل الضفة الغربية وسكانها على المحك. «إن الجيش الإسرائيلي يستغل بضراوة الأوضاع الطارئة الحالية، ويزيد من سرعة عمله (استيلائه) على الأرض بصورة لافتة»، كما تقول امل عباس.
وقد كان وادي الأردن – وهو المنطقة التي تسعى السلطات الإسرائيلية إلى ضمها على وجه التحديد – مسرحا لبعض هذه الإجراءات البشعة، ما لم يكن أبشعها على الإطلاق، التي مارستها السلطات الإسرائيلية في سياق الوباء الراهن. تقع هذه المنطقة ضمن نطاق المنطقة «ج»، بما يعني أنها جزء من المساحة التي تزيد على 60% من الضفة الغربية التي تخضع لهيمنة عسكرية ومدنية إسرائيلية كاملة. ربما ليس مستغربا أن المنطقة «ج» غنية بمواردها الطبيعية، مثل المياه الجوفية والأراضي الزراعية الخصبة. ولا يمثل وادي الأردن فقط الجوهرة الزراعية التي لا تضاهى في المنطقة «ج»، وإنما يشكل أيضا الحد الاستراتيجي مع الأردن، والبوابة إلى الدول العربية في بلاد الشام الكبرى.
لكن الخدمات العامة لا تتوافر للأغلبية البدوية التي تقطن وادي الأردن، ومن ثم ، فإن الاعتماد يكون على حركات المزارعين والعمال، مثل «اتحاد لجان العمل الزراعي» في سد هذه الفجوة، وذلك من خلال توفير الخدمات الأساسية، مثل المياه والصرف الصحي والتعليم وبذور النباتات والغذاء. لكن، حتى هذه الخدمات تتعرض لمواجهة عدوانية شرسة. فعلى سبيل المثال، في نهاية مارس الماضي، دمرت الآلة العسكرية الإسرائيلية عيادة ميدانية طارئة لمواجهة فيروس كورونا كان الفلسطينيون بصدد الانتهاء من بنائها في شمال وادي الأردن.
وبرغم هذه التهديدات، يقوم «اتحاد لجان العمل الزراعي» وغيره من المنظمات الشعبية الفلسطينية بزيارة كبار السن والحوامل في عيادات متنقلة، وتوزيع المستلزمات التعليمية والوقائية، وبناء أسطح وحدائق حضرية في أماكن متنوعة. وقد نجحت هذه الاستراتيجية في مواجهة فيروس كورونا إلى حد كبير لأنها تمثل إنعكاسا لنوع العمل الذي عادة ما تقوم به الحركات الاجتماعية الفلسطينية في مواجهة الأزمات المستمرة التي يواجهها الفلسطينيون تحت وطأة الاحتلال العسكري.
«جانب من أفضل الأعمال التي نقوم بها لمحاربة فيروس كورونا ومقاومة ضم الأراضي الفلسطينية يتم من خلال ’بنك البذور‘ التابع لاتحاد لجان العمل الزراعي، كما تقول عباس؛ حيث يمتلك الاتحاد هذا البنك منذ عام 2003 لحماية البذور الفلسطينية المتوارثة التي تنتقل بعناية عبر الأجيال. وتتعدد أغراض هذه البذور والمواد الغذائية التي تنتجها. في هذا السياق تقول أمل عباس: «إن بذورنا الأصلية لا تسهل فقط عودتنا إلى الأرض، وحمايتها من خلال زراعتها، ولكنها أيضا تحمينا من التغيرات المناخية، كما أنها لا تستهلك أي مياه». وتضيف: «وفي ظل سياسات إغلاق العديد من القطاعات بسبب كوفيد – 19، يسمح الوصول المستمر إلى هذه البذور للناس بإطعام أسرهم وجيرانهم في الوقت الذي يشكل فيه الحصول على المواد الغذائية من الأسواق خطرا داهما».
ويصر «اتحاد لجان العمل الزراعي» على أهمية التدويل والتضامن في تطبيع محنة صغار منتجي المواد الغذائية الفلسطينيين الذين يمثلهم، حيث يتمتع الاتحاد بعضوية حركة الفلاحين العالمية «فيا كامبيسينا»، التي تبنت موقفا حاسما ضد هيمنة الاستعمار والشركات على الزراعة، وتنشط في 81 دولة. وقد أتاح التمسك بهذه العلاقة السياسية المهمة للنشطاء الفلسطينيين فرصة استضافة ورش ومؤتمرات لتبادل الخبرات في الأراضي الفلسطينية، والمشاركة في نظيراتها التي تعقد في الخارج.
«بالتعاون مع «فيا كامبيسينا»، فإننا ننتهزهذه الفرصة لنثبت للعالم أجمع أن أنظمة الرعاية الصحية وأنظمة الغذاء العالمية فاشلةتماما، وانه بالإمكان ايجادحل بديل للنموذج النيوليبرالي لإنقاذ البيئة الزراعية»، كما تقول عباس. وتضيف: «يمكن أن تساعد إسهاماتنا كفلسطينيين في حركة استقلال الغذاء في خلق وعي عالمي بأن الاحتلال الاستيطاني الاسراييلي للاراضي الفلسطينية يتعلق بالهيمنة على الموارد الطبيعية مثل أغلب العمليات الأخرى التي تهدف إلى الاستيلاء على الأرض».
من المؤكد أن الغزو العسكري الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية له تاريخه الخاص، إلا أنه يحمل أيضا دلالات عميقة وإشارات جلية إلى عمليات الاحتلال الاستيطاني التي وقعت في أماكن أخرى، مثل الأمريكتين وأستراليا وجنوب أفريقيا. وكما تشارف هذه المرحلة التالية من الضم في الضفة الغربية على الاكتمال على خلفية انشغال العالم بالوباء، تبقى هذه الدلالات مهمة للغاية. وبعيدا عن شذوذ سياسات الموارد الطبيعية العالمية، فقد جسدت فلسطين هذه السياسات، وعكستها في صورة مصغرة.
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا