في العام 1929 ولد بمحافظة قنا الطفل محمود يوسف علي مكي، الذي سيصبح الأستاذ الدكتور محمود مكي.
ليس بين أيدينا معلومات عن أسرته ولا عن نشأته الأولى، ولكن من سياق حياته نخمن أن الأسرة كانت محبة للعلم والتعليم في طابعه المدني، فقبل تسعين عامًا من عامنا هذا لم يكن متاحًا أمام المصريين للدراسة سوى الأزهر الشريف، وبجواره عدد محدود جدًا من المدارس العامة.
الدكتور محمود مكي
حصل محمود على الشهادة الثانوية من قنا ثم شد الرحال إلى القاهرة حيث جامعتها العريقة ليلتحق بكلية الآداب قسم اللغة العربية.
أنا كتبت جملتي السابقة بسهولة وستطالعها أنت بالسهولة ذاتها، ولكن الله يعلم بأهوال الخروج من الصعيد الجواني إلى القاهرة الساحرة في العام 1944 وهو تاريخ التحاق محمود بكلية الآداب.
في كلية الآداب حقق الطالب محمود مكي نجاحًا باهرًا فقد كان من أوائل دفعته دائمًا.
قسم اللغة العربية لم تكن تربطه أدني رابطة بالدراسات الأندلسية ، فكيف أصبح ابن القسم العريق رائدًا من رواد الدراسات الأندلسية؟.
يجب أن ننظر إلى لطف الله بعباده نظرة خاصة، فهو سبحانه عندما يريد أمرًا يسهل أسبابه، وكان في علمه تعالى مستقبل محمود فحبب إليه العكوف على قراءة مصادر الأدب والتاريخ الأندلسي، قراءة حرة هدفها المتعة والمعرفة، وتلك القراءات المتعمقة ستكون بوابته الملكية للعبور إلى مستقبله.
في سنوات دراسته قرأ محمود”نفح الطيب”, و” الذخيرة ” وغيرهما من أمهات الكتب الأندلسية، الرجل لم يكن يقرأ للتخصص كان يقرأ للمعرفة والمتعة، حتى شعر شوقي الذي كتبه أثناء نفيه إلى الأندلس قرأه، بل وحكم عليه بالسطحية وذلك لأن شوقي سقط في نوبة اكتئاب تواصلت لأربع سنوات كاملة وهى سنوات نفيه.
مواجهة مع العميد
حصل محمود على ليسانس الآداب، قسم اللغة العربية، من جامعة القاهرة بتقدير جيد جدًا عام 1949وطمحت نفسه للسفر إلى أوربا للحصول على الدكتواره.
تذكر الدكتور محمود أيامه الأولى في حوار أجراه معه الدكتور عبد الواحد أكمير مدير مركز دراسات الأندلس وحوار الحضارات، المغربي فقال: «تخرجت في كلية الآداب وكنت في قسم الامتياز، وهو قسم خاص بالطلبة المتفوقين، وكان معي فيه طالبان أحدهما فتاة والآخر هو الدكتور إحسان عباس، وقد تخرجنا معًا سنة 1949».
وفي صيف تلك السنة تم الإعلان عن بعثتين إلى باريس الأولى خاصة بالفلولوجيا والثانية باللغات السامية، وقد تقدمتُ لاجتياز المباراة في البعثتين، وحصلت على تقدير امتياز فيهما معًا لذا كنت أظن أنني جدير بالبعثتين لا بواحدة فقط (يضحك)، لكن بعد أسابيع، وكان الدكتور طه حسين قد تولى وزارة المعارف، ظهرت لائحة طلبة البعثتين ولم أكن ضمنهما، وأن الذي تم اختياره مكاني هو زميل كان المجموع الذي حصل عليه أقل من ذلك الذي حصلت عليه. وقد أثار ذلك غضبي، ودفعتني حماسة الشباب آنذاك لأبعث برسالة إلى طه حسين، بصفته الشخصية وبصفته وزيرًا، أعبر من خلالها عن استنكاري الشديد لهذا القرار، الذي وصفته بالظالم والمتحيز. وأرسلت نسخة من الخطاب إلى أهم صحيفة للمعارضة في ذلك الوقت وهي «أخبار اليوم».
طبعًا لما كتبت الرسالة كنت أعتقد أن ذلك مجرد صيحة في واد، لأنه مَن يستطيع أن يهتم بكلام شاب في بداية حياته ينتقد فيها ذلك الجبل الشامخ الذي هو طه حسين؟.
لكن المفاجأة أن الصحيفة نشرت الرسالة كاملة وعلى ستة أعمدة وتحت عنوان مثير هو: «جامعي متفوق يقول لوزير المعارف هل يجب أن أكون قريبًا أو محسوبًا؟».
وبعد أسبوع واحد من ذلك، كانت هناك مفاجأة ثانية، وتتمثل هذه المرة في برقية تلقيتها من وزير المعارف طه حسين نفسه، يدعوني فيها لمقابلته، وفعلًا طربت لذلك وذهبت وكلي تفاؤل، بحيث اعتقدت أنه استدعاني لينصفني. لكن الغريب والمفاجئ أن الدكتور طه حسين استقبلني في مكتبه بوجه متجهم وخاطبني بعنف قائلًا: «هل تتحمل تبعة ما كتبت وهل هذا هو الأسلوب الذي يخاطب به أمثالي؟» في تلك اللحظة أحسست أن كل آمالي وأحلامي تبخرت، وبما أن الأمر كذلك ، قلت لنفسي لن أخسر أكثر مما خسرت إن أنا واصلت التحدي، لذا قلت له: «يا معالي الوزير أنا لست فقط أتحمل تبعة ما كتبت وإنما سوف أرفع عليكم وعلى وزارة المعارف كذلك قضية في مجلس الدولة»، وكان ذلك المجلس قد أنشئ لمحاسبة الوزراء. والغريب أني لم أكد أنطق بهذه الكلمات حتى انفجرت أسارير طه حسين وضحك وقال لي تعالَ، وأخذني إلى ركن في مكتبه وحادثني بشيء من الانبساط الذي لم أره في أول المقابلة، وأخبرني أنه اطلع فعلًا على ملفي، وأنه بصدد إعداد بعثة أخرى سيرسلني ضمنها. ولم يكد يمضي أسبوعان آخران حتى استُدعيت من جديد إلى مكتبه، وهناك التقيت لأول مرة ستة شبان آخرين سوف يرافقونني في البعثة. والواقع أن إرسالنا إلى إسبانيا كان مفاجأة ؛ فالبعثات كانت ترسل إلى إنجلترا وفرنسا وبنسبة أقل إلى ألمانيا.
الدكتور طه حسين
وقد كان أحد أفراد بعثتنا الدكتور المختار العبادي ، الذي سوف يلتحق ، بعد عودته من إسبانيا ، بكلية الآداب بالرباط كأستاذ لمادة التاريخ ، وكان ذلك في نفس سنة تأسيسها ، وقد أشرف وهو في المغرب على أطروحات عدد ممن سيصبحون في ما بعد من كبار المؤرخين المغاربة”.
الدكتور المختار العبادي
تسلق الجبال
يرحم الله أبا الطيب المتنبي قال:
“عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ
وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها
وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ”.
غادر الصعيدي دارس الأدب العربي ، مكتب العميد إلى مدريد رأسًا ، كان محمود من هؤلاء النفر الذين نذروا أعمارهم للعلم وللمجد ، كانوا كمن يتسلق جبلًا بيديه الخاليتين من كل آلة اللهم إلا آلة ” الشغف ” سريعًا عرف محمود الأسبانية كأنه أحد أولادها ، ليحصل في العام 1955 على الدكتوراه بتقدير امتياز من كلية الآداب والفلسفة، جامعة مدريد المركزية ، عاد إلى القاهرة متوجًا بالدكتوراه ليعمل في العلاقات الثقافية بوزارة التربية والتعليم، ثم انتدب للتدريس فى قسم اللغة العربية بكلية الآداب، وبعدها وصل إلى مكانه الحقيقي ، لقد عاد إلى أسبانيا ليصبح وكيلًا لمعهد الدراسات الإسلامية بمدريد وكذلك ملحقًا ثقافيًا بالسفارة المصرية فى مدريد، فى الفترة من عام 1956 حتى عام 1965.
تزوج بأسبانية ليرتبط بأسبانيا وتاريخها الأندلسي برباط الدم ، رُزق بأربع بنات هن : الدكتورة كارمن مكي الأستاذ بجامعة أشبيلية بإسبانيا ، والدكتورة فاطمة مكي الأستاذ بجامعة القاهرة ، و الدكتورة ماجدة مكي الأستاذ بالبيت العربي بمدريد ، و الأستاذة نادية مكي الأستاذ بالبيت العربي بمدريد.
( هل لاحظت عمل كريماته ومناصبهن الجامعية ).
أمثال الدكتور مكي لا يشغلهم عن العلم شاغل ، فعندما كان يشغل منصبًا حكوميًا لم ينصرف لجمع المال أو للترقى سلم الوظائف الحكومية ، لقد وضع نصب عينيه هدفًا لا يحيد عنه ، وهو أن يساهم بأقصى ما يستطيع من جهد في إجراء صلح تاريخي بين العرب وأسبانيا ، لكي يعرف الفريقان ما لهما وما عليهما.
كان العرب هم ملوك أسبانيا ثم غادروها، فورث الأسبان كنوزًا عربية إسلامية ، نبش الدكتور مكي تلك الكنوز وحققها وأخرجها للناس ، كما ترجم بعضًا من أدب نجيب محفوظ إلى الأسبانية لكي يعرف الأسبان أدبنا ويعرفوا كم تطور وكم ساهم في رفعة الأدب العالمي .
لا هذا المقال ولا عشرة من مثله تكفي لذكر كل أعمال الدكتور مكي ، فقد أحصى له بعض الباحثين أكثر من مئتي عمل ما بين تحقيق وترجمة وتأليف ، فأي رجل كان هذا؟. الرجل ؟.
التدفق والتكريم
كل الجامعات التي تهتم بالأدب الأندلسي والأسباني ستجد اسم الدكتور مكي لامعًا بين قاعاتها ، من جامعة المكسيك إلى جامعة الرباط في المغرب إلى جامعة القاهرة ، سيجلس بين يدي الدكتور مكي آلاف من الطلاب ينهلون من عمله ، ذلك العلم الهادف إلى إقامة جسور متينة بين الحضارات ، ومحو آثار العداوات القديمة.
منهج الدكتور مكي هو الذي جعل المجامع العلمية تتهافت على ضمه إليه ، فهو عضو مراسل للمجمع الملكى للآداب بمدينة برشلونة ،وعضو مراسل للمجمع الملكى للآداب بمدينة قرطبة ، عام 1967، وعضو مراسل للمجمع الملكى التاريخى بمدريد، عام 1983، وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، عام 1985، وعضو المجمع العلمى المصرى، عام 1987، وعضو المجلس القومى للثقافة والفنون والآداب والإعلام التابع للمجالس القومية المتخصصة ، عام 1987، و عضو مراسلاً للمجمع العلمى العربى فى دمشق عام 1993، وعضو لجنة الدراسات الأدبية واللغوية بالمجلس الأعلى للثقافة.
عطاء الدكتور مكي بدأ فور حصوله على الدكتوراه فقدم للمكتبة العربية بل والإنسانية كتابًا سيصبح عمدة الكتابات الأندلسية ” أثر العرب والإسلام فى النهضة الأوروبية “.
فلا يتصدى أحد للكتابة في هذا المجال إلا وكان كتاب الدكتور مكي مرجعه ، ثم قدم كتاب ” التشيع فى الأندلس” وبعده أمطر المكتبة العربية بالكنوز الأندلسية فحقق طائفة من أبرز تلك الكنوز ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ،تحقيق ودراسة ديوان ديوان ابن دراج القسطلى، وتحقيق كتاب الزهرات المنثورة في نكت الأخبار المأثورة لابن سماك العاملي المالقي وتحقيق كتاب المقتبس من أنباء أهل الأندلس لأبى مروان ابن حيان القرطبى.
وقد نال الدكتور مكي أوسمة من مختلف الدول ، وحصل على جائزتي الدولة المصرية التشجيعية والتقديرية ، كما حصل على جائزة الملك فيصل العالمية ، وبعد رحلة كفاح نادرة فارق دنيانا في العام 2013 وقد دفن في المقبرة الإسلامية بمدريد لكي تكتمل دائرة العشق.