في الجزء الأول من مقالنا عن عالمنا الفذ الجليل الدكتور الطاهر مكي عرفنا أصوله الاجتماعية وتأسيسيه العلمي والثقافي ، وفي الجزء الثاني والأخير نكمل رحلتنا مع عالمنا الكبير
حصل الطاهر على الدكتوراه في الآداب والفلسفة بتقدير ممتاز من كلية الآداب بمدريد في العام 1961ليعمل مدرسًا، فأستاذًا مساعدًا، فأستاذًا، فرئيسًا لقسم الدراسات الأدبية، فوكيلًا للكلية للدراسات العليا والبحوث في كلية دار العلوم.
جامعة مدريد التي درس ودرس فيها
كان همّ كل أبناء هذا الجيل العظيم ، هو تصحيح الصورة ، ومحو الثأر القديم ، فإسبانيا الآن لم تعد أندلسية ولكنها تحتفظ بالكنوز الأندلسية ، والعرب الآن ليسوا غزاة ، فلماذا لا نفتح صفحة جديدة تقوم على تقارب الحضارات لا على الصراع والعداء؟.
الطاهر كان معنيًا بهذا المعنى الكبير الواسع ، وكل ما قدمه في حياته كان تحت الآية الكريمة ” وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا “.
عرف الطاهر إسبانيا جيدًا ولكنه لأنه كان متين الأساس لم يشعر لحظة واحدة بالانسحاق أو الدونية فقد وقف من المستشرقين موقف الند من الند قال في حوار أجراه معه الأستاذ أبو الحسن الجمال:” المستشرقون لا يكتبون لنا وإنما يكتبون لأهليهم ولأوطانهم و”الرائد لا يكذب أهله”.
ولكن الذي يحدث أن بعضهم غير متمكن من اللغة العربية، فلا يفهم النص ويبنى أحكامًا على النص الخاطئ، فتجيء بعض أحكامهم خاطئة، ولكنهم لا يتعمدون الخطأ، لأنه في الأساس لا يكتب ولا يتصور أن ما يكتبه سوف يقرأ في بلادنا، هم طبعا يكتبون بحياد وموضوعية، لا يجاملون، ولا يسكتون عن أخطائنا ولا يزينون ما هو قبيح، أما كلامهم عن عصور الانحدار ومنها: العصر المملوكي مثلا فهم ينظرون إليه من منظور سياسي واقتصادي وهم يضعون في المقام الأول أين يقف النظام السياسي من مصلحة الشعب وهو نفس ما يطبقونه في بلادهم ، أما ذكرياتي معهم فهم أناس أساتذة في جامعات تعاملوا معنا كطلاب فوجدنا منهم كل الرعاية وكل المعاونة ولم يظهر لنا في أيه لحظة من اللحظات أي عداء أو إهمال أو تشفى وصادقت كثير منهم مثل “أميليو جارثيا غومث”، فهو الذى أشرف على دراساتي العليا “.
أميليو جارثيا غومث
عندما بدأ الطاهر التأليف جاءت كتاباته ملتزمة بأصول الكتابات الأكاديمية ومتخلية عن جفافها ، كان ينفخ في كتاباته بعضًا من روحه ، لقد أثرى المكتبة بعطاء شمل التأليف والترجمة والتحقيق والنقد ، نذكر من روائعه “امرؤ القيس حياته وشعره”، و”دراسات في مصادر الأدب” و”دراسات عن ابن حزم وكتابه طوق الحمامة”، و”ملحمة السيد”، و”القصة القصيرة: دراسات ومختارات”.
دراسات عن ابن حزم
و ترجم عن الفرنسية “الحضارة العربية في إسبانيا “للمستشرق ليفي بروفنسال، وعن الإسبانية “التربية الإسلامية في الأندلس”، وغير ما ذكرنا توجد روائع شاهقة حفظت لصاحبها مكانته اللائقة به.
الحضارة العربية في إسبانيا
ويجدر بنا الوقوف ولو للسطور قلائل عند عمليه العظيمين، “دراسة في مصادر الأدب ” ألفه الطاهر وهو معيد بكلية دار العلوم ، وقد راج الكتاب حتى أصبح عمدة في مجاله وقد توالت طبعاته حتى تجاوزت الثلاثين طبعة ، وقد كتب عنه العلامة محمود الطناحي فوصفه بالعمل الخارق العظيم.
ثم هناك ترجمته لملحمة السيد وقد ترجمها عن القتشالية فأبهر الغرب قبل الشرق ، لأن التمكن من القتشالية أمر صعب على الأوربيين ، فكيف هو للعربي.
وملحمة السيد تكاد تكون ـ كما قال بذلك فريق من العلماء ـ النسخة الأوربية من السيرة الهلالية ، فثمة تطابق بين بطلها السيد وبين بطل السيرة الهلالية أبي زيد الهلالي سلامة.
ملحمة السيد
أخلاق الكبار
عطاء الدكتور الطاهر لم يكن يعرف القطرية ، فهو درّس في معظم الجامعات العربية من المغرب غربًا إلى الإمارات شرقًا ، إضافة إلى تدريسه في جامعة مدريد وغيرها من الجامعات الأوربية ، ولكن تظل رحلته إلى الجزائر محطة من أهم محطات حياته ، وأصل قصتها ،كما قصها الباحث ممدوح فرج النابي : يُعزى للطّاهر الدور الكبير في تعريب المناهج في الجزائر بعد الاستقلال، فبعد أن طلب الرئيس هواري بومدين الغيور على اللغة العربية من الرئيس عبدالناصر الدعم. انطلقت فورا من مصر حملتان؛ الأولى كانت لأساتذة المرحلتين الثانوية والإعدادية، والثانية لأساتذة الجامعة. فشارك مكي ضمن الحملة الثانية، وقد نجحت الحملتان في وقف مدِّ التفرنس في المدن والمدارس والجامعات.
اسماعيل معتوق المترجم الشخصي لجمال عبد الناصر
أما الدور المهم لمكي فكان في مطالبة الدولة إلى حد الاستماتة مع إسماعيل معتوق (عضو المجلس النيابي بعد الثورة والمترجم الشخصي للرئيس عبدالناصر) بإنشاء جامعة قنا. مات معتوق دون أن يتحقق الحلم، ولكن تحقّق على يد الطاهر في عام 1995 حين صدر القرار الجمهوري بإنشاء جامعة جنوب الوادي التي كانت أحد فروع جامعة أسيوط.
جمال عبد الناصر يستجيب لدعوة جميد تعريب المناهج في الجزائر
إن الشهرة التي حصدها الطاهر لم تجعله يتكبر أو يتغطرس ، لقد ظل في كل حياته الأستاذ المعلم الذي يهرع لنجدة تلاميذه وأصدقائه وفي هذا السياق نذكر موقفين ، الأول يرويه تلميذه الكاتب الأستاذ صلاح حسن رشيد فيقول :” وإنْ أنسَ، فلا أنسى ما حييت، موقفه الذي حكاه أحد تلامذته بكلية دار العلوم قبل أكثر من ثلث قرن، عندما كان الطاهر مكي مشرفاً عليه في رسالته للدكتوراه، وذات صباح دخل عليه تلميذه مكتبه، فرآه الطاهر مكي متجهماً حزيناً، فقال له: ما الذي أحزنك يا بُنَيَّ؟! فلم يُرِد الطالبُ أن يُخْبِرَ أستاذه، ومع إصرار الأستاذ، حكى الطالب، كيف أن مشروع زواجه سيتأخر لمدة عامين، لأنه لا يستطيع توفير مقدم السكن، وكان مبلغاً باهظاً في تلك الأيام! فضحك الطاهر مكي، وقال له: بسيطة يا مولانا، ادع الله مُوْقِناً بالإجابة! ولا تنس أن تمر عليَّ غداً في الكلية، فسأحضر لك بعض النصوص المهمة لك في رسالتك.
في اليوم التالي، جاء الطالب، والهَمُّ يقتله، فإذا بالطاهر مكي، يُعطيه مظروفاً، فدُهِشَ الطالب، ومع إصرار الطاهر مكي، فتحه الطالب، فإذا هو المبلغ نفسه الذي يريده ثمناً للشَّقَّة، فرفض الطالب، إلا إن الطاهر مكي أصرَّ قائلاً له بحنو العالِم والأب: «أنتَ ولدي، وهذا حقك عليَّ، فأرجعه لي وقتما تقدر وتريد، فأنا غير محتاجٍ له الآن»!
أما الموقف الثاني فهو موقفه من شعر أحمد فؤاد نجم ، كان نجم مطاردًا من سلطات الرئيس السادات وكان الدكتور الطاهر لا يكتب عن الشعر العامي ، ومع ذلك فقد تبرع بكتابة مقدمة لديوان نجم ” بيان هام ” وهو ذلك الديوان الذي هجا فيه نجم السادات بأقسى المعاني ، لم يخف الطاهر من الإشادة بشاعر مغضوب عليه من السلطة فكتب عن تجربته كأحسن ما تكون الكتابة وأشاد بتجربة نجم مع الشيخ إمام غير ملتفت لأي حسابات سياسية.
بيان هام لفؤاد نجم
قال الطاهر في مقدمته التي هى دراسة وليست مقدمة عادية :” قصائد الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم عمل أدبي يعكس واقع معاناة الجماهير المصرية وينبض بآلامه المتراكمة عبر سنين وسنين من البؤس والتخلف المزمن، وتضع الإصبع على الجرح حيث تشير بوضوح بعيداً عن كل تعقيدات المثقفين إلى الداء والدواء.
وعند التحدث عن الشاعر أحمد فؤاد نجم لا بد من ذكر الشيخ إمام عيسى وهو الفنان المصري الذي يغني قصائد نجم، كما هو معروف، ويشكل الاثنان وحدة عضوية، فنية، لا ينفصم عراها، أعطت خلال العشر سنين الماضية تقريباً، فناً شعبياً، سعى ليكون الناطق باسم الكادحين والمستثمرين والمعبر عن آلامهم في الوطن العربي عامة، وفي مصر خاصة”.
الشيخ إمام ونجم
العودة إلى اليسار
مر بنا أن الطاهر كان عضوًا في تنظيم حدتو ثم ترك كل التنظيمات يسارية كانت أم يمينية ، راهبًا في محراب العلم ، ولكن تلك الرهبنة لم تحل بينه وبين التفاعل مع كل أدب جيد بغض النظر عن اتجاه مبدعه السياسي ، فقد كان الطاهر مؤمنًا بمقولة الزعيم الصيني الأشهر ماوتسي تونج ” دع مئة زهرة تتفتح ” ولذا كان الطاهر هو أول عربي يخصص كتابًا كاملًا للشاعر اليساري المعروف بابلو نيرودا فقد نشر عنه كتابًا في العام 1974 تحت عنوان ” بابلو نيرودا شاعر الحب والنضال”.
بابلو نيرودا
وفي النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي رأي حزب التجمع التقدمي الوحدوي ، وكان منبرًا يساريًا مرموقًا ، إصدار مجلة أدبية ، باسم ” أدب ونقد ” وكان المرشح لرئاسة تحريرها أحد رجلين ، الدكتور عبد المحسن طه بدر أو الدكتور عبد المنعم تليمة ، والاثنان من أساتذة الجامعة الكبار وهما من نقاد اليسار المرموقين ، ولكن في النهاية وقع اختيار الحزب على اسم الدكتور الطاهر أحمد مكي الذي قبل برئاسة تحرير المجلة بشرط إطلاق يده في اختيار المواد التي تنشرها المجلة ، وافق الحزب على شرط الدكتور الطاهر لتنطلق مجلة أدب ونقد في شهر يناير من العام 1984 ، وكانت نسخها تنفد فور صدورها ، وذلك لأنها تحت رئاسة الطاهر أعادت أمجاد مجلة الرسالة ، فقد كانت وبحق منبرًا لكل الكتابات الجيدة، لا تضع في حسابتها كونها مجلة يصدرها حزب يساري ، فقد نشرت لأدباء ونقاد ينتمون فكرًا وعملًا للأزهر ونشرت لكل الذين راسلوها من الأدباء العرب ، وكان الطاهر حريصًا على أن يوضح سياسة المجلة منذ عددها الأول فقد جاء في الافتتحاية التي نشرها في أول عدد :” أجدبت الثقافة، وجفت ينابيع الإبداع، وران الركود على العقول، ومالت الأقلام إلى الدعة. ومن ثمّ فقد جاءت المجلة لتكون خطوة على طريق البناء الشّاق، الطويل، المُجْهَد، إن هذه مجلة شعبية، مجلة أهالي، لا تدين بوجودها لأي هيئة حكومية، وولاؤها للقارئ في المقام الأول”.
وبعد رسوخ المجلة في الوسط الأدبي تركها الطاهر وعاد إلى محرابه العلمي .
تكريم في ميعاده
من عجائب الدولة المصرية أنها نادرًا ما تلتفت لأولادها النابهين في حياتهم ، ولكن تلك العادة السيئة أفلت منها بقدر عجيب الطاهر مكي فقد عاش قرابة القرن وجرى تكريمه أكثر من مرة وبأكثر من طريقه ، فقد كان إلى جانب عمله الجامعي عضوا بمجمع اللغة العربية، وحاز العديد من الجوائز والأوسمة منها نذكر منها
وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي ، عام 1990.
جائزة الدولة التقديرية لعام 1992.
وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي ( للمرة الثانية ) عام 1992.
جائزة التميز من جامعة القاهرة عام 2009 وهي أعلي جائزة تمنحها الجامعة.
دروع تكريم من جامعات ومحافظات : المنيا ، وجنوب الوادي ، وبني سويف وأسيوط .
ثم جاءت مفارقة الرحيل فقد ولد الطاهر في 7 أبريل من العام 1924ورحل عن دنيانا معززًا مكرمًا في 5 أبريل من العام 2017تاركًا الكثير من الأعمال الجليلة
الطاهر مكي