ما الكهانة إلا توسط مجموعة من رجال الدين بحق تفسير الدين، ويتم إضفاء قداسة على هؤلاء الرجال، فهم الموقعون عن الله في الأرض، يقفل عليهم تفسير الدين، ويملكون توجيه أرواح البشر وأجسادهم، ومعاملاتهم وفقاً للتفسير الديني الذي يوجهون به البشر، ويكتسب هؤلاء سطوة كبيرة قد تجاوز سلطة السياسة على أجساد الناس وممارساتهم بالقانون، وبسلطتهم هذه يستطيعون تجميد حركة الإنسان والمجتمع بما منحوه لأنفسهم من صبغة إلهية.
وكان تحرر أوروبا في مطلع العصور الحديثة من سطوة الكهانة على الاجتماع الأوروبي هي بداية الانطلاق نحو التقدم والنهضة في كافة المجالات، حيث تم تحديد دور الكهنة داخل حدود الكنيسة فقط دون أن يتجاوز ها إلى حركة المجتمع وشؤونه التي ينبغي أن يسيرها العقل والمصلحة، وتم تحرير الاجتماع السياسي في أوروبا من سطوة الكهنة، وذلك بعلمنة الدولة فيها، فهل الإسلام فيه كهنة؟! وإذا كان فيه كهنة فما حدود تأثيرهم على حركة المجتمع والإنسان معاً؟
انطلق المفكر الإسلامي خالد محمد خالد تحت تأثير قوي من مشاهداته للاغتيالات التي كان يقوم بها الجهاز السري لحركة الإخوان المسلمين في الأربعينيات إلى تأليف كتابه (من هنا نبدأ)، منادياً بفصل الدين عن الدولة فيقول : “لقت حوادث الإغتيال التي مارسها ذلك الجهاز السري انتباه الناس، وردعت أفئدتهم، وكنت من الذين أقَض مضجعهم هذا التدبير ، وقلت لنفسي إن كان هذا مسلك المتدنيين وهم بعيدون عن الحكم، فكيف يكون مسلكهم حين يحكمون؟، وكان هذا هو العامل الذي جنح بتفكيري إلى التحذير من قيام أي حكومة دينية باسم الإسلام” .
هاجم خالد محمد خالد وجود كهانة في الإسلام لأنها سجنت الإسلام لحسابها، وقيدت تفسيره بفهمها هي وحدها، وهذا ما يتضح من تأكيده على “إيمان الدين بالعقل، وكفر الكهانة به كفراً بواحاً “، وقوله:” إن الدين يكرم العقل ويجعله مناط المؤاخذة والجزاء، ومعنى هذا بداهة أنه يعطيه كل الحرية في البحث والمناقشة كما يشاء، فالدين الحق يعلم أن العقل هو رؤيته التي يتنفس بها ، لذلك تجد القرآن الكريم يحض الناس في الآيات على استعمال هذه الرئة استعمالاً دائباً، وعلى التنفس بها نفساً عميقاً، في حين أن الكهانة لا تسمح للعقل أن يقتات ويتغذى إلا بما تقدمه هي له من قتات وعفونات ” فقيدت الكهانة العقل لصالح الطاعة، وسجنته لصالح التسليم والانقياد، وينتهب إلى الحديث عن جناية الكهانة على الإسلام كدين فيقول :إن الدين إنساني بطبعه وشرعته، أما الكهانة فأنانية بغريزتها، تبدو لنا إنسانية الدين في دعوته الحارة إلى تكريم بني آدم، وتسخير السموات وما فيها، والأرض بما فيها ، وتتبدى لنا أنانية الكهانة في فلسفتها الخاطئة التي استهلكت بها حياتها الجافة اليابسة تلك التي ادعت وزعمت أن الأرض ملك الآلهة الذين يرتدون داخل الهيكل، وهنا كان رفض خالد للكهانة هو ثورة تمرد ضد سجن إرادة الإنسان وعقله، وضد تقييد حركة الاجتماع باسم الدين على يد الكهانة التي تفعل كل هذا تحت عناية المقدس وباسمه.
دخل الشيخ عبد المتعال الصعيدي في نقاش مع خالد محمد خالد حول عدم وجود كهانة في الإسلام، ويبرز ذلك في قوله تعالى ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) ” التوبة 31 “، ((فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ)) “الطور 29″،وهنا نلاحظ أن الأحبار والرهبان كانت لهم سلطة مطلقة على أتباعهم، ولأنهم اتُخذوا كأرباب ألهة يقدسونهم إلى حد العبادة، فكانت لهم سلطة على عقائدهم، وسلطة على ثوابهم وعقابهم في الآخرة، وسلطة على غير هذا من أمور دنياهم وآخراهم حتى صار أتباعهم عبيداً لهم لا يملكون شيئاً في الأمر معهم، ولا يتطلعون إلى انتقاد شيء من أحوالهم فاستبدوا في أمورهم وأرهقوهم بحكمهم حتى أضعفوهم وأذلوهم، ونزلوا بهم إلى أدنى مراتب الإنسانية، وارتفعوا بنفوسهم إلى مرتبة الألوهية”.
يوضح الصعيدي على أنه للدولة والحكم رجاله، وللدين علومه ورجاله، وقد حدد القرآن وظيفة رجال الدين (( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ )) “التوبة 122” فجعلها بعيدة عن وظيفة الحكم، وجعلها وظيفة وعظ وإرشاد، ليكون نصحهم خالصاً لله تعالى ولا يقعوا فيما وقع فيه رجال الدين قبلهم، ولكن رجال الحكم كانوا بحاجة إلى رجال الدين ليشرعوا لهم، ويضبطوا حركة الاجتماع السياسي من أجل استقرار الحكم، وتقديم رجال الدين لرجال الحكم على أنهم يحرسون الدين، ويطبقون أحكامه، ومن جانب آخر فإن رجال الدين كان يوظفون السلطة السياسية في ترسيم مذاهبهم العقائدية والفقهية، وفي تعينهم في مناصب الفتوى والقضاء، فكان هناك اتحاد في الإسلام بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، واستطاع الفقهاء أو كهنة الإسلام الفتوى بالتكفير على كل الذين يعارضوهم في الرؤية، أو المختلفين معهم عقائدياً ، وكانت السلطة السياسية تتخلص منهم لكي تقدم نفسها باعتبارها حامية الدين، ومن ثم فإن دفاع الصعيدي عن الفصل بين سلطة رجل الدين وسلطة رجل الدولة لنفي الكهنة عن الإسلام لا تجد ما يبررها، وذلك بالاعتبار والتأمل في الممارسات التاريخية عبر تاريخ الإسلام الحضاري والسياسي.
ويقدم الصعيدي قراءة متناقضة في رؤيته عن رجال الدين فيقول:” إذا رجعنا إلى تاريخ رجال الدين في الإسلام وجدتهم عاشوا فيه كما يعيش العلماء، فلم يكن لهم سلطة على الرعية كسلطان الكهانة والأحبار والرهبان، ولم يكن لهم شيء من الحكم في الدولة، وإنما عاشوا بجانب الحكام يؤدون وظيفتهم من الوعظ والإرشاد حينا، ويقعدون عنها حيناً آخر، وينهضون بالأمة في دينها إذا نهضوا بعلومهم، ويقفون حجر عثرة في سبيل نهوضها إذا وقفوا جامدين في هذه العلوم”، ولا يمكن أن نتفق مع الصعيدي في أن رجال الدين في الإسلام ليس لهم سلطة روحية على العوام، وأنهم لم يكونوا مؤثرين في مسار الحكم والدولة، حيت اتحدت سلطتهم بسلطة رجال السياسة والحكم، وأن توليهم القضاء جعلهم أكثر تأثيراً في مسار الحكم والدولة ، ولهذا كان فقهاء السلطان أكثر تأثيراً من الفقهاء الأحرار في مسار الدولة، كما أن رؤوس المذاهب عبر تاريخ الإسلام كان لهم كهنوتهم الرمزي لدى أتباعهم والتي يقدسونها فعلاً وسلوكاً، وتُقدس أقوال قطب المذهب، ومن ثم فإن كان في المقدرة نفى حضور الكهنوت نظرياُ في الإسلام فلا يمكن نفي تجلي أشكال الكهنوت في الواقع والممارسة، والدليل على ذلك ما رسخه الإجماع في علم أصول الفقه من تصنيم ممارسات صحابة الرسول في التاريخ، وتصنيم أقوالهم بوصفها تشريعاً، وعدم ممارسة النقد أو الهجوم عليهم ، أو تصنيم بعض رواة الحديث وعدم الشك في مصداقيتهم ، وكل هذه ممارسات كهنوتية كانت تتم في الواقع.
ومع نفي الصعيدي لوجود سلطة كهنوتية في الإسلام لرجال الدين، فإنه يتهم رجال الدين عندنا بالجمود، ويرى أن لهذا الجمود نتائجه الوخيمة على المجتمع فيقول: “إن مصيبتنا في رجال ديننا ليست في أن لهم فينا سلطة الكهان، بل في جمودهم عن النهوض بدينهم، فيجب أن يكون البدء بعلاج هذا الجمود لا بعلاج تلك الكهانة المزعومة، لأنه علاج المرض الحقيقي وهو الذي يشفى المريض، والطبيب البارع هو الذي يعرف حقيقة المرض، فلا يتعثر في علاجه بطب زائف هنا وهناك، بل يقصد إليه من أول الأمر ليصل إلى علاجه في أقرب طريق، ويصل إلى شفائه في أقل زمن”، والسؤال كيف يحدث الجمود إن لم يعتقد رجل الدين في الإسلام أن علومه الدينية مغلقة عليه وعلى أصحابه بشكل كهنوتي، وأن من يخرج عن توجه عموم العلماء يبدو نشازاً غريباً وقد يتهمونه بالكفر والردة، وهذا ما حدث مع الصعيدي نفسه في اجتهاده عن الحدود، والذي أوصله إلى المساءلة القانونية .
والواقع أن خالد محمد خالد حين هاجم سلطة رجال الدين على رقاب الناس، كان في ذهنه أشكال الكهنوت في كافة الأديان، فهو يهاجم الصورة السلبية للكهنوت التي تحاول ابتلاع الناس والمجتمع لحسابها، وليس الكهنوت الموجه بسلطة روحية لحياة الأفراد الدينية وتجاربهم الذاتية في الدين، فإن أوروبا إن أعادت الكهنوت لحدود الكنسية فهي لم تقض عليه كلية، ولكنها حددت دوره، وقمعت سيطرته وأزاحته من المجال العام إلى حدود الكنيسة والمجال الفردي، ومن ثم لا يعني نقاش الصعيدي لمسألة الكهنوت في الإسلام عدم وجوده بالفعل في تاريخ مجتمعاتنا الإسلامية، فتجليات الكهنوت بصور رمزية لرجال الدين كان حاضراً معظم فترات التاريخ الإسلامي، وحاضراً في العصر الحديث بصورة أكبر في ممارسات هيئة كبار العلماء في الأزهر ومحاكمتها لعلي عبد الرازق والصعيدي.
ولا يعني نفي الشيخ الصعيدي لو جود مفهوم الكهانة في الإسلام أنها لم تتجسد في الواقع التاريخي للمجتمعات الإسلامية، فالفقهاء ورجال الدين ميزوا أنفسهم بكهنوت رمزي كبير، ووصاية على الدين عبر تاريخه، مؤكدين أنهم حراس العقيدة في الأرض، وأن الممارسة الاستبدادية في التاريخ الإسلامي قديماً وحديثاً كانت نتاج اتحاد السلطة الدينية والسلطة السياسية معاً، وهو ما كان له نتائج وخيمة وآثار سلبية على المجال العام للاجتماع الإسلامي .
والخلاصة أن الصعيدي أكد على أن الإسلام قضى بظهوره على احتكار رجال الدين للأمور الدينية،ولم يجعل بين العبد وربه واسطة كما في غيره من الأديان، ولم يجعل لرجال الدين سلطة على غيرهم، بل سوى بينهم وبين غيرهم في الدين، كما سوي بين الناس جميعاً في الدنيا”.