حوار: خالد حماد
مسوداتي الأولى لجريمة كاملة..
الفراغ الذي أصبح بيتًا للرصاصة..
اللحم الذي غزل للألم خريطة شاسعة من بذور الأسلاف..
والوردة التي نزفت دمها الساذج.
عن الكتابة ومعنى الشعر، عن المسافة التي قطعتها بين مجموعاتها الشعرية بدءا من لهم ماليس لآذار ومرورا بقبلات مستعارة وآخر مجموعاتها الشعرية أكلنا من شجرته المفضلة، عن عفيفي مطر وحلمي سالم عن الجوائز الأدبية ما بين المنحة والإنجاز جاء حوارنا مع الشاعرة رضا أحمد
عن ماذا تعنى الكتابة لدى رضا أحمد تقول: إن الكتابة ليست تلك الكتل الخرسانية التي نسكنها فوق الصفحات، أنظر جيدا، هناك رماد حيوات كاملة تتطلع إليك من النوافذ، وتصرخ أروِ قصتي، لدي أسبابي للبقاء ومعاناتي، كنت أرى الشاعر مجذوبا يغرد ليلا فوق شجرة كالمذعور من حب لا يستطيع التملص منه، أتعرف الأمواج المتتابعة لحقول القمح حين تراقص الريح؟
أتمنى أحيانا، أن تكتسب يدي هذا السحر وكذلك النظرة القاسية في عين كل قاتل، اقترض حياة بريء بعد كل جريمة وذلك الاغتراب المجوف في معدة كل جائع.
وتوضح صاحبة “لهم ما ليس لآذار”، بدأت خطواتي الجادة في الكتابة منذ ما يقرب من خمس سنوات، لم أكن قبلها احتاط لأفكاري الصغيرة عن الشعر، إلا بالمداومة على القراءة والإطلاع، فيما بعد عرفت أنني أكتب بلغتي الخاصة، وقصيدتي المختلفة، وكان هذا الوقت المناسب لأخرج إلى تجربة النشر وأصدر ديواني الأول “لهم ما ليس لآذار”، عن دار نبض للنشر والتوزيع.
الذي حرصت فيه على تماسك الموضوع، في متتاليات شعرية تجعل من الحزن والوحدة والعوز والقلق والخوف وكل جوانب التشظي مادة أساسية تحفظ للإنسان كرامته وإحساسه بالحياة، ومصدرا للتباهي، كأن كل هذه المآسي أثارا نلتمسها للوجود، حين يذكرنا الآخرون، أرجو أن يضيف هذا الديوان لقصيدة النثر بعدها الإنساني وحظها من جمالياتها الفلسفي.
وتضيف: أحب كل كتاباتي ولا أتنكر لأي منها؛ أؤمن أن كل الأخطاء ستقودنا إلى الجحيم ولكن بعضها يعذبنا، بشيء كالشهرة وقليل من المواساة.
وعن الحزن الذي يسكن قصائد ديوانها الأول “لهم ما ليس لآذار”، تلفت إلى أن الحزن والخوف والفقد أيضا جميل، مظاهر تليق بالاحتفاء والوقوف عندها، لأنها مشاعر لا تمر هكذا ببساطة، دون أن تسرق مسافة في روحك، وتخطط لبناء بيت داخلك بكل ما تملكه من مال وأثاث ووقت، في ديواني “لهم ما ليس لآذار” أقمت مراسم استقبال لكل خطر يسعى للاستيطان داخلي، ومراسم توديع للحب.
وتلفت الشاعرة رضا أحمد، إلى أن الكتابة عن واقع هذه الأيام، تعني أننا نكترث لكل ما يحدث بتفاصيله القاتلة حتى للذين صفعونا مرتين، لأننا رفضنا أن نتناول كل الطعام الرديء وحدنا، ولا أنكر أن جزءا مني ذهب إلى الغيب، ومازلت أجمعه في كل قصيدة.
الشعر والشاعر بين الواقع والمجاز ماذا يعني الشعر لدى رضا أحمد؟
الشعر هو الشك الدائم بأنك حي، وكل ما تقوله هو مجرد صرخات ليظل نور مقبرتك مضاء، ولتبقى الأرض على دورانها، والأشباح من حولك تمارس عاداتها اليومية، في القتل وممارسة الحب وعزل أشباهك المنبوذين داخل توابيت.
وتؤكد على أن الشعر هو طريقتها المبتكرة في وضع الأشياء في مكانها الصحيح، رغم كونها كانت بعيدة جدا عن هذه المخاطرة: أتمايل بين الخط والظل واللون داخل اللوحات، إلا أن الشعر دائما ما يحتفظ لنفسه بالوقت المناسب، ليلقي بنا في قصيده.
وتستطرد: اعتقدت أنني سأصبح رسامة، وهذه حيلتي الأساسية للتعبير عن نفسي، كنت أعتني بالصور الملتصقة بذهني نظرا لذاكرتي الضعيفة في الاحتفاظ بالملامح والأسماء، خيالي دائما خصب ومفتوح ومتحرك، كأنه عدسة كاميرا تلتقط مائة لقطة في الدقيقة، ولا تحتفظ بواحدة، إذا لم أدونها في كارت ذاكرة أو ورقة، أعتقد أن الفن الأول للإنسان هو التصوير، سواء كان الأمر بالفرشاة أو القلم أو السكين.
اضطررت إلى ترك الرسم في مراهقتي، لا أعرف إلى الآن هل كنت ساذجة حينها؟ أم أننا حين نسعى لصقل موهبة كالرسم، نحتاج إلى المال والمعرفة، العمل الإبداعي يلزمه نضج يجعلنا نتجاوز الإحباطات قبل أن نتذوق لذة المنجز.
وتضيف “رضا”، كان في الشعر عزاء حقيقي، حين اكتشفت أن الرسم يتآكل، وأن أرواحنا السبعة لن تطابق صورتنا الحقيقية في المرآة، ويمكن للوحات أحببتها أن تهجرك مع سارق، لمجرد أنه يمتلك إطارا مناسبا يضعها داخله، ويطعمها نظرة أو أثنين كلما شعرت بالشوق إليك، القصائد حين تسرق منك، تقفز خلفك ككلب صيد يتشمم رائحتك، دون أن تنتبه أنك أصبحت فريسة ثمينة لكل البنادق المصوبة إلى كل ضحايا العالم.
وعن الصورة النمطية للشاعر في المشهد الثقافي المصري العربي تقول ضيفتنا: كم هو سيئا إن معظم الناس حتى المثقفين يكرسون للنظرة نفسها إلى الشاعر، بحسب المتعارف عليه بين الناس وفي الدراما يتجسد الشاعر في قالب حالم مستهتر انطوائي يرتدي ملابس خاصة، ويدخن السجائر نفسها حتى أنه يريح نفس الخد على قبضة اليد ذاتها، في الصور كبورتيرهات كلاسيكية، تأصيلا لجثة انتهت صلاحيتها، لذا يشعر البعض بالخيبة حين لا يرون هذا الكائن المتوارث بين الخلفيات الثقافية أمامهم كنص وسلوكيات.
وعن ديوانها “قبلات مستعارة”، تقول كان كل شيء حولي مواتٍ وهادئ لأخبركم كم هو قاس هذا الليل وهذه البرودة، وهذا السقف الذي اضطر للمبيت فوقنا، والجدران ليست إلا أصدقاء غير جديرين بالثقة، كان عليّ مرافقة العمى والنبذ والقبح، والوحدة إلى بيتي، والاستماع إلى حكاياتهم بصفاء نية، كان عليّ تلطيخ وجهي بالبثور، واغراقه في وعاء ثلج، لتتفضل قصيدة بالبقاء معي.
وكان عليّ خلع معصمي، لأشعر أن ثمة شيء ناقص لعلاج غرور الجسد، وأن الألم نزهة مخيفة دون مسكنات، وكل القصائد لحظات انتهازية في النهاية.
وعن ديوانها “أكلنا من شجرته المفضلة”، تقول هو طريقتي في صياغة أسطورة الاغتراب، النزول إلى التجربة مكبلًا بكل هذا التراث من الخوف والشك، ستكون الأرض الملجأ والمنفى، الخطوة التي تطمع في مسافة محايدة، لتتنكر لأقدامنا الكاشفة فيما بعد، كنت مخلصة للمأساة أرويها بأمانة، لتشعر أنك ضيفها المرغوب المحبب، لا وجود للغزاة، ولا للضحايا، نحن معًا في مزرعة أجنة، يراقبنا من بعيد هذا الطبيب الحالم بطفرة تعيد إلينا إنسانيتنا التي رسمها في مخيلته.
المسافة بين دواويني كل كتابة جديدة، هي رؤية مختلفة ونظرة إبداعية مميزة، وطموح مستبد، للتعبير بشكل آخر، كل كتابة ابنة ميراث ثقافي ومعرفي وبيئة مؤثرة، وفلسفة جمالية وموهبة ومهارة، يمكن أن يصيبها نضج أكبر أو رؤية محدودة للآسف، أو ورطة لتظل عالقة في الذاكرة، وامتداد جمالي للتجربة الشعرية.
أعتقد أن كل من مشاريعي الثلاثة في الكتابة تكمل بعضها، وأنها خطوات شكلت طريقتي في الكتابة، لا يوجد كتابة تمحو أخرى أو أفضل من السابقة أبدًا، ولكن هناك خطوات واثقة نحو مشاريع مختلفة، أسعى فيها إلى إحداث تطوير ملموس، والاشتغال على نفسي بدأب وهدوء، وهذا هو المطلوب من المبدع، ليحقق شيئًا يستحق.
المسافة بين الجائزة الأولى والثانية
عن مسافة التحصل على الجائزة الأولى جائزة الشاعر عفيفي مطر والثانية الشاعر حلمي سالم تقول مرت الآن ثلاث سنوات، بعد جائزة عفيفي مطر، صارت الظروف مشجعة أكثر على الكتابة، الفضل كله لهذا التقدير الذي يحتاجه الشاعر منا في بعض الأحيان، ليدفعه إلى الأمام، في وسط مشهد مأزوم بالشللية، ومشكلاته التي لا تنتهي حول من الأحق بالصدارة، وضجيج الاحتفاء في الصحف وكتابات النقاد.
أعتقد أنني صرت هادئة أكثر، أنظر إلى الأمور بلا خوف من أن يسرق أحدهم حقي ومساحتي، لأن أصدقاءه في الصحف يريدون هذا، ويكرهونك بلا سبب، ليس إلا لكونهم شعراء مثلك، ابتسم الآن كثيرا، عندما أجد هذا التصارع والصخب بلا إنتاج مميز.
هذه السنوات طريق طويل، تعلمت فيه الكثير، ربما منحني بعض الثقة في نفسي، وفي نزاهة لجان التحكيم، وشجعني أيضًا على التقديم لجائزة حلمي سالم.
وعن رأيها لتجربة عفيفي مطر وحلمي سالم تقول أشعر بالمحبة لمجرد ذكري لهذين العملاقين، محبة الأقارب والأصدقاء الذين احتفوا بتجاربهم بكل شكل ممكن، وكللوا مسيرة شعراء قادمين بجوائز تحمل اسميهما، هذه المحبة العظيمة، لها مبررها القوي وأحقيتها الضرورية.
الشاعر عفيفي مطر مدرسة شعرية متفردة، ذات قاموس بلاغي ثري ولغة مكثفة وصور مركبة، تعيد إنتاج الأسطورة بلغة حداثية فلسفية رمزية، وتميز بشعرية متنوعة ذات خصوصية مختلفة ومحلقة بين الحضارات المختلفة والأديان والتصوف والتراث الشعبي، شاعر الطمي من رواد التجديد والتجريب في الشعر العربي، دافع عن كل ما هو حقيقي، صاحب تجربة شعرية عابرة للأجيال، احتلت موقعها المميز بنص شعري منفتح الدلالة.
الشاعر حلمي سالم رائدا حداثيا، من جيل الطليعة الذي حارب من أجل الانتصار لقصيدة النثر في مواجهة حرس القصيدة التقليدية، صاحب تجربة متفردة عميقة وثرية، مثلت أحلامه وحياته، من أبرز أبناء جيله إبداعًا وتنظيرًا، وأكثرهم غزارة في الإنتاج والتجريب والدفاع عن التجارب الجديدة وتشجيعها، ومع الأسف، لم يكن لأعماله نصيبها المستحق من النقد والدراسات.
المسافة بين النقد والابداع
تقول: على الناقد حين يرى غيمة في قصيدة الشاعر، أن يجلس تحتها، لربما ذاق قليلا من لذة الماء، أو شحذ حواسه، وعرف أن السماء ذاتها التي طالما عرفها، وقرأ عنها أكاديميا، ليست موجودة.
عن ماذا تكتب ومتى؟ تقول ضيفتنا: أكتب عن الحياة التي كانت لي، لو لم أفسد نفسي بالشعر، بالطبع أكتب عن الحب والحزن بلا ضغينة، حتى الخوف الذي صحبني بإخلاص تام، رغم كل محاولاتي للتخلص منه، مرشد وقح عبر بي كل الممرات داخل نفسي، ولم يخجل أن يراني عارية أمام الآخرين بكامل وعيي، أزقة مضللة تلك التي تقودنا هاربين إلى دواخلنا.
أكتب حين أكون بمزاج رائق وذهن صاف وجسد مغسول، ورغم هذا، تحتفظ عيني بكل أوساخ الطريق، وتلك الملامح المستكينة للكوارث قبل أن تحدث في الغيب.