يحتفي المثقفون المصريون هذه الأيام بمرور مائة عام على ميلاد مؤرخ فن المسرح بالوطن العربي الدكتور علي الراعي «1920-1999» الذي ارتبطت حياته بفن المسرح منذ أن كان صبيا يحبو بمدينة الإسماعيلية، وأثناء دراسته الجامعية بالقاهرة «1939-1943» وخلال عمله بالإذاعة المصرية فور تخرجه حتى سفره إلى إنجلترا لدراسة أدب المسرح سنة 1951،؟حيث أعد رسالته للدكتوراة حول «مسرح برناردشو» متقصيا العوامل الفكرية والفنية التي كونت معالم هذا المسرح الحافل بالأفكار والأحداث والشخصيات.
عاد الراعي إلى القاهرة في يوليو 1955 فلاحظ مدى التغير الذي أحدثته ثورة يوليو 1952 بين أوساط المبدعين، فألقى بنفسه في خضم تلك الحالة فأصبح مسئولا عن «مؤسسة المسرح» خلال الفترة من «1959-1967»، ورغم أن وزير الثقافة الدكتور ثروت عكاشة أصدر قرارا بإحالة الراعي إلى التقاعد وهو في السابعة والأربعين من عمره، إلا أن هذا الإجراء لم يعوق الراعي عن أن يواصل دراساته حول فن المسرح بمصر والعالم العربي، ليترك للمكتبة العربية عددا غير قليل من الدراسات القيمة التي تعد بمثابة وثائق تاريخية عن تطور فن المسرح في مصر والعالم العربي.
فن المسرح
«لست رجل سياسة، وإنما أتطلع دائما إلى خدمة الوطن العربي فكرة وواقعا، وقد وجدت أن تجميع نشاط الفنانين والكتاب المسرحيين العرب في صعيد واحد، هو خدمة ثقافية ذات بال لفكرة الوطن العربي الموحد، من يقرأ هذا الكتاب سيجد نفسه دائما بين أهله أينما انتقل المؤشر من الخليج إلى المحيط: الهموم ذاتها، الآلام بعينها، الآمال ودواعي الاستبشار هى هى في كل قطر عربي» .. هكذا قدم علي الراعي كتابه «المسرح في الوطن العربي».
الناقد المصري فاروق عبد القادر في تقديمه لكتاب الراعي «المسرح في الوطن العربي» في طبعته الثانية التي صدرت عقب وفاته يتتبع رحلة الراعي مع فن المسرح، مشيرا إلى أنه قد أصدر تسعة كتب عن المسرح المصري والعربي والعالمي، وفي رسالته للدكتوراه حول «مسرح برنارد شو» التي صدرت بعد ترجمتها إلى العربية سنة 1963 تقصى الراعي أصول المسرح الإغريقي وما تلاه، حتى أن الدراسة كادت أن تتحول لموسوعة شاملة عن كُتاب المسرح في الغرب.
بعد الانتهاء من إعداد رسالة الدكتوراه وعودة الراعي للقاهرة أصدر كتابه «فن المسرحية” سنة 1959، ليقدم للقارىء دراسة تطبيقية لعناصر بناء المسرحية من قصة وحركة وحوار وشخصيات، وذلك عبر تحليل عدد من نماذج أعمال أشهر كتاب المسرح العالمي إبسن وشو وتشيكوف وغيرهم.
واصل الراعي في كتابه «مسرحيات ومسرحيون» الصادر سنة 1980 تعريف القارىء العربي بكُتاب المسرح الغربي من بلوتوس إلى إدوالد ألبي، وفي كتابه «هموم المسرح وهمومي» الصادر سنة 1994 يخصص الراعي فصلا من كتابه يحمل عنوان «أساتذة المسرح» يتناول فيه أعمال شكسبير وإبسن وشو وتشيكوف وأونيل وغيرهم.
لم يكتف الراعي بدراسته عن المسرح الغربي ولكنه قدم للقارىء العربي ترجمة لمسرحيتين: «الشقيقات الثلاث» لتشيكوف و«بيير جينيت» لإبسن وقدم كل مسرحية منهما بدارسة شاملة عن مبدع المسرحية، حاول الراعي عبر دراسته عن كتاب المسرح العالمي أن يطرح الحلول التي وضعوها لمشاكلهم في محاولة لاستلهام بعض تلك الحلول خلال طرح مشاكل المسرح العربي.
مسرح الشعب
أولى الراعي عبر دراسته أهمية كبرى بما عرف بفن «مسرح الشعب» وأصدر في هذا الشأن ثلاث دراسات: «الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري» سنة 1968 و«فنون الكوميديا من خيال الظل إلى نجيب الريحاني» سنة 1970 و«مسرح الدم والدموع، دراسة في الميلودراما المصرية والعالمية» سنة 1973 وقد حرص على تجميع الدراسات الثلاث في مجلد واحد تحت عنوان: «مسرح الشعب» سنة 1993.
جمع بين الدراسات الثلاث عن «مسرح الشعب» إيمان الراعي بأن الشعب هو مصدر إلهام المبدع وهو صاحب الحق الأول في الرسالة التي يتوجه بها المبدع إلى الجمهور، ما جعله يغوص في أعماق فن المسرح ليصل إلى كم هائل من نصوص المسرح المرتجلة كما عرفته مصر خلال السنوات العشرين الأولى من القرن العشرين.
نادى الراعي في تقديمه لمجلد «مسرح الشعب» الذي ضم الدراسات الثلاث بأهمية الحرص على وجود ما أطلق عليه «المسرح السياسي»، مشيرا إلى أن المسرح يعد مكانا طبيعيا لعرض المشاكل السياسية والإجتماعية ومناقشتها والمشاركة في إيجاد حلول لها، وصيغة المسرح المرتجل بما تحتوي عليه من حيوية متجددة وما تتيحه من استناد مباشر إلى وقائع الحياة والأنظمة الإجتماعية، وما تشيعه في الجمهور من اشتراك في صميم العرض المسرحي، كل هذه الصفات جديرة بأن تحول المسرح السياسي إلى صيغة مسرحية نابضة، يمكن من خلالها بث روح الجد والتدفق والأصالة في العروض المسرحية.
بذات السياق أشار الراعي إلى ضرورة الاهتمام بفن الميلودراما للمساهمة في علاج القضايا الإجتماعية والسياسية والإقتصادية التي تعاني منها البلدان العربية، فأعمال الميلودراما تقدم مضمونا كفيلا بأن يشعل خيال الجماهير ويجعلهم يلتفون حول قضايا المجتمع وفن المسرح.
خيال الظل وفن الأراجوز
في كتابه «مسرح الدم والدموع» تناول الراعي جذور نشأة فن المسرح فعاد إلى مقامات بديع الزمان وتلميذه الحريري التي رأى فيها مسرحيات جنينية أجهضها الواقع الذي كان يحرم فن التمثيل، غير أن هذا لم يمنع أصحابها من أن يحفظوها على الورق كشاهد على محاولاتهم المبكرة تاركين للراوي أو للخيال أن يقوم بدور الممثل.
توالت محطات الرحلة إلى أن تولى ابن دانيال المصري حكيم العيون الذي كان يقيم بجوار «بوابة الفتوح» بالقاهرة نقل المقامة خطوة نحو فن المسرح، حيث يتحول الراوي الفرد إلى ظل الشخصيات مجسدا على ستارة مضئية فيما عرف بفن «خيال الظل» والذي أنتشر في ربوع قرى ومدن مصر خلال القرن التاسع عشر، ومع خفوت فن «خيال الظل» نسبيا ظهر فن «الأراجوز» ذلك الساخر ذو اللسان اللاذع المحب للمرح.
الراعي في تناوله لفن خيال الظل يؤكد على أنه فن قديم، وأن أقدم إشارة إليه قد وجدها في كتاب «الديارات» للشابشتي حين ذكر أن الشاعر دعبل هدد ابنا لأحد طباخي الخليفة المأمون بأنه سيهجوه، فرد الابن: «والله إن فعلت لأخرجن أمك في الخيال»، أي أنه سوف يوحي إلى أحد فناني المخيال بإظهار صورة والدة دعبل بين الصور الأخرى الساخرة التي كان يقدمها للمتفرجين، وذكر الشابشتي في موضع آخر من «الديارات» أن اللعب بخيال الظل كان معروفا على عصره وكان يعتمد على الهزل والسخرية والإضحاك.
يلفت الراعي النظر إلى أن الجاحظ قد التقط بعينه الخبيرة صورة دقيقة لفن «الحكائين» الذين كانوا يجوبون المناطق المختلفة يلتقطون من الواقع أبرز أحداثه وشخوصه، ومن ثم يرون حكاياتهم بلهجات مختلفة ويجسدون شخوصا متنوعة كالشخص الكفيف وصنوف الحيوانات وغيرها من الشخصيات، حيث كانوا يلتقطون خصائص البشر ومعايب الأفراد ويقدمونها في شخصية كلية مركبة يجعلون منها مادة للفكاهة التي تسر عامة الناس وخاصتهم على حد سواء، وتاريخ العصور الإسلامية حافل بالعديد من الخلفاء الذين كانوا يكنون ودا خاصا لهؤلاء المبدعين التلقائيين.
ظلت عروض الحواة والقرادين ولاعبي الأراجوز وفناني خيال الظل والممثلين الجوالة يتربعون على عرش الفنون الشعبية بمصر لقرون عدة، يحيون حفلات الزواج والختان والموالد وبذات الوقت ظل أهل الرأى والفقهاء وبعض الخلفاء والسلاطين ينظرون إلى تلك الفنون بوصفها من أعمال اللهو الفارغ وقد يصل الأمر ببعضهم حد وصفها بأنها «محرمة».
جذور المسرح الشعبي
يستشهد الراعي في توثيقه لجذور نشأة المسرح الشعبي بمصر بكتاب الرحالة «كارستين نيبور» الذي وصل إلى الأسكندرية في 26 سبتمبر سنة 1761 ومكث بمصر سنوات عدة أختلط خلالها بسكانها من المصريين والأجانب.
وصف نيبور في كتابه ما كان يعرف بفن الغوازي وفن الأراجوز وخيال الظل وفن الحواة، ومن ثم أنتقل ليصف فناني المسرح الذين كانوا يجوبون القاهرة وكانوا من المسلمين والمسيحيين واليهود، وكان مظهرهم ينم عن فقر شديد، وكانوا يمثلون أينما يدعون مقابل آجر زهيد، يعرضون فنهم بالعراء أو بفناء منزل.
يستعرض الراعي عددا من التجارب المسرحية الأولى فينتهي منها إلى أن طوال القرن التاسع عشر كانت هناك دراما محلية تماما خالية من أي مؤثرات أجنبية، ويستشهد في ذلك بالمسرحيتين اللتين شاهدهما السائح الإيطالي بلزوني سنة 1815، وقام بعرضهما فنانين جوالين عرفوا باسم «المحبظين» وكانت أولى المسرحيتين عبارة عن كوميديا انتقادية تنتزع موضوعها من الواقع المحيط بالممثلين وترضي جمهورها بالإمتاع والنصح معا على عادة الفن الشعبي.
مسرح الحلقة والبساط وسلطان الطلبة
لم تكن مصر وحدها التي امتلكت جذورا لفن المسرح قبل معرفتها بفنون المسرح بصورته الغربية، ففي الشمال الأفريقي عرف المغرب «مسرح الحلقة» و«مسرح البساط» وظاهرة أو كرنفال «سلطان الطلبة».
مسرح الحلقة كما قدمه الدكتور حسن المنيعي في كتابه «أبحاث في المسرح الغربي» عبارة عن حلقة تضم الممثلين الذين يقدمون الحكايات والأساطير، ويكون من بينهم عدد من الموسيقيين والبهلوانيين، وأحيانا ما كانوا يدعون عددا من المتفرجين للمساهمة في أعمال العرض كأن يحملون أجزاء من مهمات المسرحية أو بالتمثيل المباشر مع الفنانين.
أما مسرح البساط فكان قد ظهر في المغرب خلال القرن الثامن عشر ويذكر أن الملوك كانوا يحيطون «المبسطين» أي فناني مسرح البساط بحفاوة كبيرة، يفتحون لهم أبواب قصورهم ويستمتعون بأعمالهم المختلفة، وكان بعض الملوك يشاركون بأنفسهم أحيانا في اللعب تقديرا لما يحويه التمثيل من فنون إجتماعية إنتقادية، وكثيرا ما كان «مسرح البساط» فرصة يغتنمها فناني البساط لتبليغ شكاواهم إلى الملك عبر التمثيل.
النوع الثالث الذي تمثل في ظاهرة مسرحيات «سلطان الطلبة» بدأ خلال حكم السلطان مولاي رشيد الذي تولى العرش ما بين سنة «1666-1672م»، وقد حدث أن ساند الطلبة فيما يبدو مولاي رشيد في حروبه مع أخيه مولاي محمد من أجل العرش، فما كان من الملك إلا أن نظم للطلبة نزهة على ضفاف وادي فاس حتى بات هذا تقليدا ساريا.
ففي ربيع كل عام يقوم طلبة جامعة قيروان بإنشاء مملكة صغيرة تستمر أسبوعا كاملا، يباع فيها التاج بمزاد علني للطبة، وما أن يصبح أحدهم ملكا حتى يحاط فورا بمظاهر الأبهة ويصبح من حقه أن يقترب من الملك الحقيقي ويعبر له عن بعض المطالب، كما أنه يستطيع أن يكون لنفسه حكومة وحاشية، ومن ثم يتوجه سلطان الطلبة يوم الجمعة بموكبه إلى مسجد الأندلس ليؤدي صلاة الجمعة، ويزور ضريح سيدي حزام باب فتوح الذي يوجد فيه قبر السلطان مولاي رشيد، وفي اليوم التالي يتوجه الموكب الملكي نحو ضفاف وادي فاس حيث يرابط الطلبة وتنصب الخيمة الملكية ويستمر الحفل أسبوعا، ويتمثل أهم حدث بهذا الأسبوع في زيارة الملك الفعلي أو أحد نوابه للطلبة.. هكذا أستعرض الراعي بعض ملامح الجذور الأولى لنشأة المسرح بالوطن العربي.
وللحديث بقية