في مُفتتح عمله البديع “سندباد مصري” حرص الدكتور ” حسين فوزي ” أن يُزينّ كتابه بذلك القول المأثور والمتواتر عن السلف الصالح والذي يقول: ” من أرادها بسوء قصمه الله “وصاحب هذا القول البليغ يقصد بأن من يريد “بمصر المحروسة” سوءا يقصمه الله.
هذا القول يُنسّب أحياناً إلى سيدنا رسول الله، أو غيره، لكن الدكتور “حسين فوزي” العّلم في دُنيا التاريخ والعلم في الموسقى وشتى الفنون ينسبه إلى” كعب الأحّبار ” وهو ” كعب بن ماتع الحُمَيري، ويُكنىّ ب “أبي إسحق” وهو من أصول يهودية يمنية، ويقال أنه دخل الإسلام في عهد رسول الله، أو في عهد الخليفة الصديق “أبوبكر” رضي الله عنه وأرضاه، وقد نُقل عنه بعض أحاديث النبي “محمد” صلوات الله وسلامه عليه، ولا يُستبعد إذا كان الأمر على هذا النحو أن يكون هذا الحديث منقولاً عن الرسول الكريم.
وبصرف النظر عن القائل، فمن يقرأ تاريخ مصر خلال سنوات عُمْرها الطويل، يُدرك أن كل الغُزاة الذين أرادوها بسوء طواهم الزمن، وباتوا نسياً منسياً، لا أثر لهم إلاّ في صفحات التاريخ وسجلاته العتيقة
وكانت مصر طوال هذا التاريخ ” مّقبرة الغُزاة “بحق، فأين هم الهُكسوس، والفُرس، والتتار، وغيرهم من غزاة الزّمن القديم، بل أين من تلاهم من المماليك وآل عثمان والألبان والشراكسة والأرمن والأرنائوط والفرنساويين والإنجليز؟
بعضهم طواهم الزمن أو أكلتهم الصحراء، أو اضطروا للهروب تحت جُنح الظلام كما فعل “نابليون وجنوده” إثر ثورتي القاهرة ” الأولى والثانية ” في مطلع القرن التاسع عشر، فعادت الحملة الفرنسية من حيث جاءت، وبقي القول المأثور الذي يقول ” جاء نابليون بالمطبعة والمدفع، وعندما عاد ترك المطبعة وأخذ المدفع “، وظل هذا القول شاهداً على بقاء مصر وذهاب ريح من أرادها بسوء.
أي أن ما بقي من الحملة الفرنسية 1798 / 1803 من الميلاد هو “الأثر الثقافي والتحديثي” لا غيره، فقد بّقيّ من تلك الحملة، الموسوعة الجليلة والعظيمة، والتي جاءت على كل شاهد من شواهد الحياة أو التاريخ أو الطبيعة أو المعمار أو العادات والتقاليد أوالأديان والمذاهب، وغيرها ،وقد رصدتها بأحرف من نور ، تلك الموسوعة المُسماة ” وصف مصر ” وقام على ترجمتها من الفرنسية إلى العربية الأستاذ ” زهير الشايب ” رحمه الله، فقد ترك الحياة عام 1982 إثرّ إتمامه تلك المهمة الجليلة، ويقال أنه لم ير أي تكريم يليق بما صنعت يداه وأبدع عقله، عندما صدرت الموسوعة في القاهرة خلال السنوات الأخيرة من عقد السبعينيات من القرن الماضي من مكتبة ” مدبولي “، ثم أعادت الهيئة العامة للكتاب طباعتها.
كتاب ” سندباد مصري: جولات في رحاب التاريخ ” للدكتور “حسين فوزي” هو واحد من أهم الكُتب التي تناولت تاريخ مصر بأسلوب غاية في الجمال والإبداع الأدبي، فالكاتب فضلاً عن كونه واحدا من علماء مصر الكبار على صعيد العلم الحديث، فهو واحد من كُتابها ومُبدعيها الذي ترك على صعيد الأدب والفكر الكثير من الكتابات التي خّلّدت ذكراه، ولا عجب أن يكون إهداء هذا الكتاب إلى “صديقه الأستاذ” توفيق الحكيم الذي وصفه بالفنان والكاتب الكبير”
الكتاب صّدرّ في طبعته الأولى عن دار المعارف المصرية في مُنتصف الخمسينيات من القرن الماضي، وبعد ذلك صدرت له أكثر من طبعة مُزيدة ومُنقحة، ثم صدرت الطبعة الأخيرة منه ضمن سلسلة مكتبة الأسرة عن الهيئة العامة للكتاب المصرية …
إلاّ أن اللآفت للنظر أن الدكتور “فوزي” قدم كتابه وفق منهج من البحث والكتابة لم يسبق اليه أحد، فقد قُسِم التاريخ المصري وفق رؤيته إلى ثلاث مراحل هي:
” الظلام، والخيط الأبيض والخيط الأسود، ثم يأتي إلى مرحلة النهضة والإزدهار ويضع لها عنواناً جميلاً ومُعبراً هو ” الضياء “.
المرحلة الأولى أي ” الظلام ” يّقصد بها تلك المراحل المُعتمة في تاريخ الوطن والتي شهدت احتلالاً وقهراً لمصر ولشعب مصر، فيبدأ مع ذلك الفصل الذي يقع تحت عنوان ” الجمعة الحزينة ” وهي الأيام الأولى لحكم آل “عثمان ” لمصر المحروسة، بعد القضاء على دولة المماليك التي إمتد مُلكها لنحو ثلاثة قرون، واتسعت رقعتها فشملت بلادا وصلت إلى اليمن جنوباً ونهر الفرات وجبال طوروس شمالاً وعلى شاطئ بحر الروم ” البحر الأبيض المتوسط ” من خليج الإسكندرونة حتى بلاد برقة في ليبيا المجاورة، ثم تتجه جنوباً على ضفاف النيل حتى أعالي جبال النوبة بالقرب من بلاد الحبشة النجاشي، بلاد أثيوبيا في عصرنا الحاضر.
وعلى نفس النهج، يواصل الدكتور “حسين فوزي” منهجه في البحث فيأتي على أيام الاحتلال الفرنسي السريعة والغابرة في تاريخ مصر ما بين نهاية القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، وهكذا.
ثم يأتي على أيام وحُقب مختلفة من التاريخ المصري، لم يستطع أن يضعها ضمن سنوات وعصور الضياء والنور، أو العتمة والظلام والقهر والفساد!
يختار لها عنواناً يعبر عن الحيرة والارتباك ، أسماها ” الخيط الأبيض والخيط الأسود ” يضع تحتها سنوات إمتدت لأكثر من ألف عام، يتحدث فيها عن تلك العقود من السنوات التي سبقت الفتح العربي الإسلامي لمصر، ويتوقف عند تشكيل القومية المصرية وصراعاتها الناعمة والدامية في مختلف العصور، ويُلقي الضوء على ثلاث ملكات حكمن المحروسة منهن ” أم خليل، وبنت الزمار، والصعيدية ” غير أن تلك الملكات تفاوتت أسمائهن مابين “زوجة الملك الصالح أيوب، وكليوباترا، ثم الملكة الفرعونية العريقة والعظيمة ” حتشبسوت ” إبنة الصعيد.
شجر الدر زوجة الملك الصالح أيوب من فيلم وا إسلاماه
وهكذا يبدو المنهج متراوحاً بين الظُلمة والبين بين، والضياء الناصع البهجة والجمال والنهضة والمعرفة، منهجا لا يأخذ بالترتيب الزمني للأحداث والوقائع، ولكن يُمسك بضوء كشاف من نور، ليكشف خبايا كل مرحلة أو زاوية من تاريخ مصر عبر مئات السنوات وعشرات القرون .
مرحلة الضياء عند الدكتور “حسين فوزي” تشمل فصولاً عديدة، كل منها يحمل عنواناً يعبر عن مضمونه، فيتحدث عن الفلاح الفصيح الذي رفع شكواه إلى الفرعون، كاشفاً أوجه النقص وجوانب الفساد، فتُخلد شكواه على مر الزمان، لأن الزمن آنذاك كان يسمح بالرأي والرأي الآخر!
ويأتي على ذكر مايمكن تسميتهم ملوك مصر بعد الطوفان، طوفان نبي الله ” نوح ” عليه السلام، ومنهم ” قفطاريم بن قبطيم ” ثم يرفع الستار عن سر دولة الفراعنة، ومراحل العظمة وسنوات الانحطاط التي جاءت على بعض عهودها، وذلك باكتشاف ” شامبليون ” أحد أهم علماء اللغة الفرعونية القديمة، والذي كشف الغموض عن ” حجر رشيد ” فترجم ماهو مكتوب عليه، ويوضع ذلك الأثر الخالد في قلب المتحف البريطاني العريق منذ ذلك الزمن، فيعرف المصري الحديث تاريخه القديم والحقيقي لأول مرة في حياته.
تمضي رحلة الدكتور “حسين فوزي” على هذا النحو، فيبدو تاريخ الوطن كأنه تاريخ أُمَم مُتعاقبة مُقطعة الأوصال، غير أن الكتاب، وبقلم مفكر لا يُشَق له غُبار يبدو كلوحة بديعة جميلة ورائعة تّعجز الكلمات عن وصف مدى روعتها، وما تثيره في النفس والعقل والروح من بهجة وسعادة وفخر، فالكتاب يعرض لقصة واحدة مُتكاملة، بطلها الشعب المصري الخالد، الشعب الذي يجيد صنعة الحضارة والبناء والمعمار، لا مهنة الحرب والغدر والإغارة والقتل.
رؤية دعت الكثيرين إلو الفهم الخاطئ لم كان يستهدفه الدكتور “فوزي” فقد وصفوا الرجل بأنه من رأى مصر عَلى غير حقيقتها، فهي وطن الحضارة، وموطن مُبدعيها من مُخططين وبنائين، من صُناع مهرة وحرفيين، هم أهل الفن والإبداع والخيال، هم أصحاب ” القوة الناعمة ” والتي يجهلون صنعة الحرب وفنونها، مما يجعل بلادهم أرضاً متاحة لكل غازٍ مُحتل!
ومن عجب أن يمتشق نُقّاد الدكتور ” حسين فوزي ” سهام النقد إليه دون الاجتهاد فيما يدعون، فلا يجدوا سنداً فيما يقولون سوى الرجوع إلو الأستاذ “عباس محمود العقاد” في كتابه الرائد ” سعد زغلول: سيرة وتحية ” حيث أفرد في مقدمة كتابه دراسة رائدة ورائعة عن الشخصية المصرية، وفي ظني لم يسبقه إليها أحد، حيث قدم الدليل إثر الدليل، والبرهان تلو البرهان، بأن في تاريخ مصر مايؤكد أنها قوة حرب وتحرير، بل غزو وإغارة اذا دعى الداعي إلى ذلك، وتعددت المخاطر الوافدة من وراء حدودها، فأمنها القومي لا ينبغي أن يسكن إلى الدعة والخمول، إذا بات الخطر مؤكداً، فعليها في تلك الحالة أن تضرب بقوة وتصميم وبروح المُباغتة، مواقع الخطر ومكامن الإرهاب في عقر دار أعدائها.
غير أن القراءة المُتفحصة والمُدققة لمؤلف الدكتور ” فوزي” يُدرك نظريته في فهم تلك المسألة ، فهو مع تسليمه بأن مصر وشعبها ، هم في الأصل صُنَّاع حضارة ، وكل فرد من مواطنيها هو من البنائين الكبار ، فإن الغيرة والحمية بالذود عن الأرض لا يعادله شئ سوى الدفاع عن ” العرض والشرف” ولذلك ارتبطت الأرض بالعرض، فكلاهما يستحقا الدفاع والموت في سبيلهما، ولذلك يرتبط في التراث الثقافي الوطني المصري، البيع بالخيانة، والبيع هنا بمعنى التفريط، لا التجارة، فيقال مثلاً ” فلان باع فلانا “! أي فّرّطْ فيه دون أي وازع من الأخلاق أو الضمير، وهو ما يتجسد بالخيانة لا سواها.
اذن علينا أن نُعيد فهم ما قصده الدكتور ” حسين فوزي ” في مؤلفه الخطير، وألاّ نقف عند القراءة السريعة والمُتعجلة، وهو الأمر الذي أراه سبباً كافياً لمفكر كبير وتقدمي، هو الدكتور ” أنور عبد الملك ” لكي يضع كتاب الدكتور ” حسين فوزي ” في موضعه الصحيح، حيث وصفه بأنه واحد من أهم وأجمل ما أنتجه الفكر الإبداعي المصري خلال النصف الثاني من القرن الماضي، فقد أفّردّ له ، ولرواية ” اللص والكلاب ” للأستاذ ” نجيب محفوظ ” مساحة واسعة من مؤلفه الهام ” مصر مجتمع جديد يبنيه العسكريون ” والصادر في منتصف عقد الستينيات من القرن العشرين، واعتبره عنواناً لزمن جديد وفكر جديد على صعيد الثقافة والإبداع والحضارة.
كتاب ” سندباد مصري ” ليس لوحة بديعة في اللغة وجمال الوصف والسرد فقط ، فهو رؤية جديدة ومنهج مُبتكر في التعامل مع التاريخ، فلم يتناول الحديث عن مرحلة الأقدمين، ثم الأحدث فالأحدث، حتى نصل إلى زماننا الراهن وتاريخنا الحديث، ولكنه جاء بما لم يسبقه أحد من الأولين، فقد قّسّمْ التاريخ إلى ثلاث مراحل بدأت بالظُلمة، ثم ” البين بين ” والتي اختلطت فيها سنوات الظلام بالنور، والتي يعتبرها الدكتور ” فوزي ” هي صاحبة المساحة الأطول والأكبر في التاريخ المصري، ثم يختم كتابه الخطير، بتلك المرحلة التي أسماها ب ” الضياء ” والقائمة عَلى دُعامتين هما: “حرية الفكر وحرية الوطن “، أي إطلاق العنان لحرية الرأي والتفكير والخيال والإبداع، ثم استقلال السيادة الوطنية، وبدونهما، الحرية والاستقلال، لا نستطيع أن نقيم “الحضارة” الشامخة، والتي بدونها لا نعيش كٍراماً، ولا نكون رواداً بين العالمين، ودرس الماضي خير دليل وأسطّعْ بُرهان:
“فبُناة الأهرام في سالف الدهر، كّفوني الكلام عند التحدي “
https://www.youtube.com/watch?v=UQKMFNUvujY