التاريخ العربي حافل بالعديد من السير الشعبية ذات الطابع الملحمي التي تتراوح ما بين النثر والشعر، وتدور أحداثها حول البطولات والفروسية التي امتزجت فيها الوقائع الحقيقية بالخيال الشعبي بحثا عن البطل العربي المخلص، أو «المهدي المنتظر» الذي سيعيد للأمة أمجادها وينقذها مما آلت إليه أحوال البلاد والعباد، فنجد «سيرة بني هلال» تعبر عن التمزق الذي أصاب العالم الإسلامي جراء الصراعات العنصرية والحروب التي أفضت إلى الخراب والدمار، و«سيرة الظاهر بيبرس» تدور حول بطل وزعيم عربي يعيد توحيد «دار الإسلام» من خلال صفاته الفذة وبطولاته الخارقة للعادة، وجاءت «سيرة الأميرة ذات الهمة» لتعبر عن بروز دور المرأة المسلمة كبطلة أسند إليها «العوام» مهمة إنقاذ «دار الإسلام».
رغم وفرة المصادر المتعلقة بالتاريخ الإسلامي العام إلا أن الحوليات التاريخية ظلت منشغلة بالتأريخ للحكام سياسيا وعسكريا مع إغفال كامل لتاريخ العوام، الدكتور محمود إسماعيل في دراسته التي تحمل عنوان: «المهمشون في التاريخ الإسلامي» يطرح أزمة التأريخ للعوام والمهمشين في التاريخ الإسلامي وطبيعة الصعوبات التي ارتبطت بتلك العملية في محاولة منه لتقديم «بانوراما» عامة عن «العوام والمهمشين» في التاريخ الإسلامي بعصوره المتعددة بمختلف بقاع وأقاليم العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه.
حركات العوام والمهمشين
استهل الدكتور محمود إسماعيل تناوله لأزمة التوثيق لتاريخ العوام والمهمشين في التاريخ الإسلامي بالإشارة إلى أن الباحث لا يستطيع أن يجد بسهولة مادة تاريخية متاحة حول العوام؛ إلا من خلال ذكر حركات المعارضة التي تم وصف المنتمين إليها بأبشع التهم والنعوت من قبل ما يمكن أن نطلق عليهم «مؤرخي البلاط»، فهم من وجهة نظرهم «السوقة والرعاع والأراذل والزنادقة وأهل البدع والفتن» وزعماء تلك الحركات يُصَفون وفقا لهم «بالخبث والمماحكة والإباحية».
غير أن هذا لم يمنع من وجود بعض الإشارات الإيجابية التي ارتبطت بأهداف زعماء تلك الحركات المعارضة فجماعة «إخوان الصفا» على سبيل المثال تصفهم بكونهم «فنيت أبدانهم في خدمة أهل الدنيا، وكثرت همومهم من أجلها، ولم يحظوا بشيىء من نعيمها ولذاتها»، ومن خلال رسائل «إخوان الصفا» يمكن الوقوف على مدى التدهور الذي وصلت إليه أحوال العامة بعصرهم، حيث انتشرت البطالة ومن ثم تعاظمت ثورات العوام التي نجحت السلطات الحاكمة عبر العصور الإسلامية في مواجهتها بالقوة والبطش حينا وبالدهاء والحيلة أحيانا.
أبدع العوام قصص ومقامات وأشعار وأزجال وأمثال وملاحم شعبية تعبر عنهم وتوثق واقعهم الذي عاشوه، وتبنى بعض رجال الفكر هموم العوام ومنهم «الجاحظ» الذي كتب عن فضائل العوام وقضاياهم حتى لقبه البعض بلقب «الزعيم الروحي للشطار والعيارين».
ثورة الخشبية بالعراق
اندلعت ثورة «الخشبية» بالعراق في العصر الأموي خلال خلافة عبد الله بن مروان بزعامة المختار بن أبي عبيد الثقفي، وقد تبنت تلك الثورة طموحات العوام والمهمشين من أصحاب المهن والحرف فضلا عن الفلاحين الفقراء الذين يعملون بضياع الأرستقراطية الأموية الحاكمة.
كانت «أصناف الحرف» المختلفة تتعرض للمغارم والضرائب الفادحة، فضلا عن تسخيرها في كثير من الأحيان لخدمة الجيوش الأموية خلال عصر ملىء بالحروب الداخلية والخارجية، ويبدو أن حرفة «النجارة» كانت من أهم الحرف بذلك المجتمع الذي لم يكن قد شهد بعد أي تطور صناعي.
غير أن زعامة المختار الثقفي للثورة «الخشبية» وهو المنتمي لأصول أرستقراطية كان محل تساؤل من قبل المؤرخين فكيف تسنى له قيادة ثورة العوام والمهمشين بذلك الحين؟
الدكتور محمود إسماعيل يؤكد على أن سجل حياة المختار الثقفي عامر بالعديد من الشواهد الدالة على كونه سياسيا مغامرا تصدى منذ بدايات حياته لمعارضة الحكم الأموي، حيث تعاطف مع ثورات الشيعة، وناصر الخوارج، فلم يكن غريباً عليه أن يتزعم حركة الحرفيين ليقود ثورتهم، ذلك أن المختار الثقفي قد اتسم بالطموح السياسي المقرون بتبني مفهوم العدل الاجتماعي فكانت شعاراته تدعو إلى «الدفاع عن الضعفاء» ومن ثم جاءت مجمل الحركات التي شارك بها متبنية لذات المبادىء.
نقم الأشراف على المختار الثقفي فحسب قول الطبري «عهدت إلى موالينا وهم فيء أفاءه الله علينا، فلم ترض لهم بذلك حتى جعلتهم شركاءنا» وهو ما يفسر سر إقبال الكثير من العوام والأرقاء والمهمشين على الإنضمام لحركته، التي تشير المصادر أن معظم سكان الكوفة اندرجوا تحت مظلتها، كما انضم إليها المستضعفون من «الفرس والترك والديلم» مما يفسر غلبة الطابع الشعبي الاجتماعي على العنصرية والطائفية بتلك الثورة.
تحامل المؤرخون على أتباع ثورة «الخشبية» فاعتبرتهم المصادر القديمة «سفهاء وأراذل وطغام»، ووصموهم بالخسة وسوء الطبع، غير أن الإمام «أبو الحسن البلاذري» تفرد حين اعتبرهم «مستضعفين» استهدفوا الإنصاف والمساواة، كما ذكر «ابن أعثم» أن جنود ثورة المختار كانوا من عناصر شتى «إذ بايعه الناس من العرب والموالي وغير ذلك من سائر الناس».
أما عن مسمى «الخشبية» فقد انطوى على دلالة تحمل شيىء من «الدونية» لأتباع المختار الثقفي، وذهب البعض إلى أنهم فرقة شيعية، غير أن الدكتور محمود إسماعيل يرى أن تلك التفسيرات جانبها الصواب، إذ تشير المصادر إلى كونهم «حرفيين»، عمل أغلبهم «بالنجارة» ولفقرهم الشديد تسلحوا بأسلحة من الخشب غير محكمة الصنع إلى جانب أدوات أهل الفلاحة، وفي ذلك يشير «البلاذري» إليهم بقوله: «أصحاب المختار يسمون الخشبية لأن أكثرهم كانوا يقاتلون بالخشب»، وقد أطلق خصوم ثورة «الخشبية» على أتباعها لقب «المنبوذين».
نجح أتباع ثورة «الخشبية» في هزيمة الجيش الأموي بقيادة عبد الله بن زياد، ومن ثم زحف الثوار إلى أعالي العراق والجزيرة وأذربيجان، غير أن جماعة من الأشراف الذين تمردوا ضد المختار قاموا بالاتصال بعبد الله بن الزبير –الثائر أيضا على بني أمية- فتوجه بجيشه إلى الكوفة وتمكن من هزيمة الثوار وقتل المختار.
حركات العيارين في العراق
ظهرت بدايات حركة «العيارين» في العراق خلال الفترة من منتصف القرن الثالث الهجري إلى منتصف القرن الرابع الهجري، ونظر مؤرخو السلطة إلى تلك الحركة بوصفها حركة «دونية» متهمين ثوارها باللصوصية والدعارة، وأطلقوا على زعامتهم نعوتا سيئة مثل: «أبو الذباب وأبو الدود وأبو النوابح، والبرجمي» وغيرها من الألقاب التي تقلل من شأنهم.
استهدف العيارون في حركتهم السلطة الحاكمة، ورجال الإدارة وأفراد الجهاز البيروقراطي باعتبارهم مسئولين عن تنفيذ سياسات السلاطين، وحللوا نهب أموال كبار التجار «لأنهم ألفوا خيانات الأمانات، وكنز الأموال، ومنع الزكاة».
اتسم «العيارين» بالفروسية والشهامة والنجدة فكانوا على حد وصف زعمائهم «لا يسرقون الجار، ولا يكافئون الجائر الغادر، ولا قضاة العدول، وحافظوا على حرمة النساء» وفي ذلك أنشد أحد شعرائهم:
«لا أذبح النازي المثوب ولا أسلخ يوم المقامة الفتقا
ولا آكل القت في الشتاء ولا أنصح ثوبي إذا هو اخترقا
ولا إلى جارتي أدب إذا جن الظلام فأطرقا»
ومن أقوالهم المأثورة «واجبي إكرام الغوغاء والسفهاء لأنهم يكفون الناس النار والعار».
“العيارين” لم يكونوا لصوصاً عاديين بل كانوا أصحاب قضية تقوم على الثورة على أصحاب السلطة والمال لصالح المستضعفين الفقراء.
المثير في الأمر أن بعض الأغنياء الشرفاء قد انخرطوا في سلك تلك الحركة، وكان من بينهم بعض النساء، وتعاظم نفوذ زعامتهم واكتسبوا جماهيرية وشعبية كبيرة، حتى أن العوام قد أرغموا خطباء أحد المساجد بالدعوة لزعيم العيارين «البرجمي» بدلا من الخليفة العباسي والسلطان البويهي.
يلفت دكتور محمود إسماعيل النظر إلى أن أحد زعماء العيارين ويدعى «عمر بن شاهين» قد تمكن من تأسيس «إمارة شعبية» في «البطائح» جنوبي العراق سادها العدل والمساواة، كان يجبي الضرائب فيها وفقا لأحكام الشريعة، لذلك انضم إليه الكثير من الفلاحين وعبيد الضياع المجاورة، فوحد بين حركتي الشطار والعيارين في المدن وحركة الصعاليك في الريف وأرغم الحكومة القائمة على الاعتراف بمشروعية إمارته.
تعاظمت حركة العيارين والشطار بالعراق وأنشد أحد شعرائهم «إن مت كنت في الغزو شهيدا .. أو عشت كنت أشطر الشطار» توجهت حركتهم ضد النظام السلجوقي الذي تضخمت أزمته مع الخلافة العباسية في الوقت الذي كان يعاني فيه من صراع داخلي بين أفراد البيت السلجوقي على السلطة.
ازداد خطر العيارين بعد أن انضم إليهم قطاعات من المتصوفة اضطروا إلى اللجوء لحياة العيارين بعد أن انقطعت بهم سبل العيش واقترنت حياة العيارين بتقاليد «الفتوة» بنظمها ورسومها وطقوسها وشعاراتها وملابس اتباعها، ومن هذه الطقوس ذلك الطقس الخاص بشرب الماء ممزوجا بالملح كدلالة على أن ملح الطعام إنما يعالج كل فاسد، وأن هذا الشراب يمثل رمزا ودليلا على تأصل روح المساواة بين جميع العناصر والشرائح التي انضمت للحركة.
شهدت حركة العيارين تنظيم للقواعد العسكرية التي يرأسها «العرفاء والنقباء والعقداء» وتسلح أفراده بالأسلحة اليدوية البدائية مع ادعاء أن حركتهم تستمد مشروعيتها من كونها تستند إلى تعاليم الإسلام، فهم إذ يأخذون مال الأغنياء قسراً إنما يرجع ذلك لعدم قيامهم بأداء الزكاة وفي ذلك أنشد أحد شعرائهم:
«وأسرق مال الله من الفاجر .. وذي بطنة للطيبات أكول» وأنشد أخر «لا تسرقوا الجيران، واتقوا الحرم، ولا تكونوا أكثر من شريك مناصف» بما يعبر عن نبل مقاصد الحركة وخطأ دمغها بقطع الطرق واللصوصية.
وقد وجه “العيارين” نشاطهم ضد رجال الإدارة من الجباة المشتغلين بجباية الضرائب التي اشتط السلاجقة في جمعها، كما عاني كبار التجار من هجمات “العيارين” ولم تسلم الإقطاعات والضياع من خطر “العيارين” الذين كانوا يحررون العبيد المسخرين في فلاحتها.
تزايد خطر “العيارين” بعد هجماتهم على قوافل الحجيج ونهبها وتوزيع ما ينهبون على المحتاجين والمعوذين وذلك فضلا عن دورهم في مناصرة الخلافة العباسية في صراعها مع السلطنة السلجقية، إلى جانب دورهم التاريخي في مواجهة غزو المغول لبغداد 656 هجريا.
في مقابل ذلك التوغل لحركة العيارين لجأ سلاطين السلاجقة إلى إتباع الحيلة لإفساد نظام «الفتوة» الخاص بالعيارين فدسوا بين أفراده «طابور خامس» ادعى من باب التمويه أنه مؤازر للعيارين، غير أنه عمد إلى أسلوب السلب والنهب وإثارة الذعر والفزع بسفك الدماء بالباطل، وإلصاق التهم بنظام «الفتوة»، هذا إلى جانب إغراء بعض قيادات العيارين بالمناصب والأموال.
نجحت الحيلة في إثارة الشقاق بين العيارين والخلفاء العباسيين من ناحية وبينهم وبين الرعية من ناحية أخرى، ومن ثم انصرف الكثيرون عن تنظيم «الفتوة» خصوصا ممن كانوا ذو توجهات وميول أرستقراطية، وبذلك تم التعجيل بانهيار وتداعي نظام «الفتوة»، لتنطوي بذلك صفحة من صفحات مجد العوام والمهمشين بالعراق، إلا أن هذا لم يكن يعني انطواء صفحات مجدهم بسائر البلاد العربية والإسلامية، من بلاد الشام لمصر وبلاد المغرب وصولا للأندلس.