واحد من مباحث التاريخ المهمة التي تستلزم بذل المزيد من الجهد والتدقيق والبحث في الوثائق الفرنسية يدور حول سؤال عن الدور الذي لعبته فرنسا في تولية محمد علي حكم مصر، وعن مدى هذا الدور وتأثيره المباشر في الأحداث في تلك الفترة التي شهدت عند نهاية القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر اهتماماُ فرنسياً متصاعداً بما يجري على الساحة المصرية، هذا الاهتمام الذي تجلَّت ذروته في الحملة الفرنسية التي قادها «نابليون بونابرت»، وما صاحبها من تـأثيرات عميقة على المجتمع المصري الذي قاوم من ناحية الحملة الفرنسية وراح من ناحية أخرى ينظر إلى أحواله بعيون جديدة، وانتهى الاهتمام الفرنسي بعد رحيل الحملة إلى تحويل دفة السياسة الفرنسية تجاه مصر من الاحتلال المباشر إلى التأثير المتخفي.
في أحد اجتماعات «الديوان» الذي أنشأه نابليون بونابرت بُعيد احتلاله مصر، والذي كان يضم تسعة من كبار المشايخ والعلماء توجه إليهم القائد الفرنسي بالسؤال: كيف يرضى العرب الذين يحملون رسالة الإسلام أن يخضعوا لسلطان عثماني «فاسد»، وأن يُحكموا من عاصمة بعيدة «مدنسة» في اسطنبول؟
كانت مناقشات علماء الحملة الفرنسية مع علماء الأزهر تدور حول كل أمور الدين والدنيا وعلى رأسها هذا الأمر، وكان نابليون يلح في التحريض، وفي اجتماع آخر سألهم من جديد: هل لو بُعث النبي محمد مرة أخرى سوف يرضى عن هذا الحال؟ وألَّا يكون العرب هم السادة وليسوا الترك؟
وفي أقل من ثلاث سنوات، وبفعل المقاومة الشعبية حمل نابليون عصاه ورحل، ولكن مصر كانت مع موعد مع أقدارها المستجدة، كان الشعب المصري على موعد مع المرة الأولى في تاريخ الإمبراطورية العثمانية التي يفرض فيها والياً اختاره بإرادته ضد إرادة السلطان، وكان هذا الوالي الجديد هو الضابط الألباني محمد علي.
**
القصة المعتمدة لدى المؤرخين المصريين الذين تناولوا بزوغ عصر محمد علي تقوم على عدة أعمدة، أول هذه الأعمدة يتمثل فيما أسماه هؤلاء المؤرخين بالذكاء والمكر اللذين تبديا في حركة محمد علي في خضم عواصف الفوضى التي كانت تضرب البلاد من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، إضافة إلى تعدد مظاهر الاقتتال الذي تحركه المطامح والمطامع المتصارعة على حكم مصر، والثاني يتمثل في نهوض المشاعر القومية وقوة النزعة الاستقلالية التي نشأت مع تصاعد المقاومة المصرية للحملة الفرنسية، والثالث يتمثل في ضعف قوة المماليك وانكسار شوكتهم على يد نابليون وخلفاؤه، والرابع يتمثل في الدور الوطني الرائع الذي مثلته قوة العلماء والتجار الذين لجأت إليهم الناس، والتحموا بالحركة الشعبية الوليدة في خضم المقاومة الوطنية للاحتلال الفرنسي مع بداية القرن التاسع عشر، وكلها أدوار مقدرة وعوامل حقيقية ثابتة، ولكنها لن تكن وحدها هي الفاعلة في الساحة.
https://www.youtube.com/watch?v=tRzFHh71Nhw
وبيقين نقول إن هذه القصة المعتمدة لم تولِ بعض الأدوار التي لعبتها القوى الخارجية الأهمية نفسها التي أعطتها لكل من العامل الذاتي الذي تمثل في نهوض النازع الوطني الباحث عن الاستقلال أولاً، ثم للذكاء الذي تبدى في حركة محمد علي في تلك الفترة، وأول وأهم هذه الأدوار التي أغفلتها الرواية شبه الرسمية للكيفية التي صعد بها محمد علي إلى سدة الحكم، هو الدور الذي لعبته فرنسا في تولية محمد علي حكم مصر.
هذه الرواية لم تغفل الدور الفرنسي فقط، بل استنكرته واعتبرته من أساطير الفرنسيين، وفي هذا المجال سنجد أن مؤرخاً كبيراً مثل الدكتور محمد فؤاد شكري ذهب في الجزء الأول من كتابه «مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م » إلى أن الفرنسيين ابتكروا اسطورة ادَّعت أن القنصل الفرنسي الذي أرسله نابليون إلى القاهرة لم يلبث عند حضوره إلى مصر أن أُخِذ بعبقرية محمد علي ونبوغه، لما شهد منه من رجاحة العقل وحسن التدبير وصدق العزيمة، فأقبل على تشجيع هذا القائد الألباني ومساعدته على الوصول إلى ذلك المركز الرفيع الذي استطاع بفضله فيما بعدُ أن يؤسس أسرةً وراثية للحكم في مصر. ولكن بقية المؤرخين تغافلوا الدور الفرنسي أو أغفلوه.
ومعروفٌ أن المدرسة المصرية الأولى في الكتابة التاريخية نشأت في ظل حكم الأسرة العلوية، وهي المدرسة التي يسميها «أنتوني جورمان» في كتابه «المؤرخون والدولة والسياسة في مصر» بالمدرسة البيروقراطية التي خدم مؤرخوها في مواقع حكومية ووظائف إدارية عليا جعلتهم على اتصال وثيق بالدولة وسياستها، ومن ثم فإن مصالحهم الشخصية كانت مرتبطة بالسلطة السياسية (القصر) ومعتمدة عليها.
ومما لا شك فيه أن هذه البداية في التأريخ المصري التي جرت تحت الرعاية لحكام تلك الأسرة العلوية نفسها عكست نفسها على الطريقة والمنهج اللذين جرت بهما عملية التأريخ لنشأة حكم الأسرة ممثلة في مؤسسها محمد علي، ومن هنا جاء التركيز ـ ربما المبالغ فيه ـ على ذكاء المؤسس الأول، ونبوغه السياسي.
ولكن يبقى دائماً أن للقصة روايات أخرى، وأن للحقيقة وجوه متعددة.
**
أول ما يمكن أن يقال عن محمد علي أنه رجلٌ خدمته الظروف، وأحسن استغلالها، فيسرت له أن تسقط بين يديه «ثمرة » حكم مصر، وكانت القوى التي تهز «الشجرة» كثيرة ومتعددة، ومتضاربة المصالح، بعضها من الداخل، وكثيرٌ من الخارج، كانت فرنسا قد خرجت لتوها من مصر بعد احتلال لم يدم أكثر من ثلاث سنوات، لكنها قررت ألا تغادر مصر، وتتركها لقمة سائغة للآخرين الذين يحومون حول حماها، وكانت بريطانيا حاضرة بأسطولها وجنودها في البحر والبر، تتشوق إلى لحظة مناسبة لإدخال مصر في جعبتها، وكانت الدولة العثمانية تحاول استعادة نفوذها في بلدٍ هي صاحبة السيادة الشرعية عليه.
وقبل هؤلاء وبعدهم كانت قوى المقاومة الوطنية قد بزغت شمسها في مواجهة الحملة الفرنسية، وتصاعدت النزعة القومية، وقويت شوكة الحركة الشعبية، وتحددت مطالبها في أن تُحترم إرادة المصريين في تولية من يرضون عنه، ويرون فيها حاكماً عادلاً، يمكنه أن يفرض الأمن والاستقرار بعدما طالت عهود الفوضى والفساد، وأن «يسير بالعدل، ويقيم الأحكام والشرائع، ويقلع عن المظالم، وألَّا يفعل أمرًا إلا بمشورة العلماء، وأنه متى خالف الشروط عزلوه».
وهو الشرط الذي اشترطه العلماء على محمد علي فقبله وأصعدوه إلى القلعة حاكماً ارتضوه بإرادتهم لأول مرة.
**
كانت الشرارة التي أطلقتها الحملة الفرنسية على مصر قد صارت حريقاً، نشب في كل مخلفات المرحلة السابقة على الحملة الفرنسية، وكتب القنصل الفرنسي الذي عينه بونابرت في أحد تقاريره إليه يصف القاهرة التي جلت جيوشه عنها أنها صارت وكأنها «باريس سنة 1789».
هذا القنصل الفرنسي الذي وصف مصر في سنة 1803 بأنها تشبه باريس وقت الثورة الفرنسية الكبرى هو «ماتيو ديليسبس»، والذي تتحدث العديد من المصادر التاريخية عن دوره في تعضيد فرنسا لفكرة تولية محمد علي والياً على مصر، وهو نفسه أبو «فرديناند ديليسبس» الذي سيكون له شأن في حفر قناة السويس مع سعيد باشا نجل محمد علي.
قصة اللقاء الأول الذي تعرف فيه «ماتيو ديليسبس» على الضابط الألباني محمد علي يحكيها «بيير كرابيتس» في كتابه «إسماعيل المُفْتَرَى عليه» فيقول:
«عينت الحكومة الفرنسية ماتيو ديليسبس قنصلاً لها في القاهرة على إثر عقد معاهدة اميان سنة 1802، وكان محمد علي يومئذ ضابطاً غير معروف في الجيش التركي، ولسبب ما دعاه القنصل ذات يوم إلى مأدبة أقيمت في دار القنصلية الفرنسية، وفي صباح اليوم التالي ظهر أن أحد الضيوف الذين حضروا المأدبة سرق بعض الشوكات والملاعق الفضية، واتجهت الشبهات أول الأمر إلى ذلك الضابط الألباني، لا لسبب سوى أنه كان أحقر المدعوين منظراً، ولأن بعضهم زعم أن سراويله الواسعة كانت تصلح لإخفاء المسروقات.
وكاد يلحق العار بمحمد علي لولا البحث الذي قام به القنصل الفرنسي وثبت له منه براءة محمد علي براءة تامة كما ثبتت التهمة على غيره، وكانت نتيجة ذلك أن القنصل زار الضابط المفترى عليه وأثبت له اجلاله واحترامه.
ودار الزمن دورته وأصبح محمد علي حاكم مصر المطلق، فلم ينس تلك الحادثة البسيطة، بل أشار إليها علناً عندما زاره قناصل الدول في سنة 1832 وعلى رأسهم عميدهم فرديناند ديليسبس ليهنئوه بما أوتيه ابنه من نصر في الشام، وكانت لتلك الحادثة أثر بالغ في تاريخ العلاقات المصرية الفرنسية».
ولكن «بيير كرابيتس» لم يفصح عن الكيفية الذي تحقق بها هذا الأثر العميق في العلاقات بين فرنسا ومصر.
**
توقفت طويلاً أمام الفقرة الأولى من الفصل المعنون «محمد علي ـ نشأته ونهوضه» في كتاب المؤرخ الكبير محمد صبري السوربوني المسمى «تاريخ مصر من محمد علي إلى العصر الحديث»، والتي تقرر أن «محمد علي نشأ في كنف الحملة الفرنسية، وقد فطن إلى أغراضها، فعول على تحقيقها، وتكوين دولة كبرى مستقلة في آسيا وافريقية تكون مصر قاعدتها».
إذا تابعت تقدمك في القراءة ستجد إشارة مهمة في تفسير ما عناه الدكتور «السوربوني» في فقرته التي تصدرت الفصل الذي يتحدث عن «محمد علي ـ نشأته ونهوضه» إذ أوضح أنه «حين عقد صلح أميان سنة 1802 بين فرنسا وانجلترا وإسبانيا وهولاندا الذي احتفظت بموجبه فرنسا بمعظم فتوحاتها وردت انجلترا معظم المناطق التي استولت عليها وفي جملتها السواحل المصرية»، لم يكن الصلح إلا هدنة مؤقتة بين الدولتين. ثم يقول:
«بادرت فرنسا في أعقاب توقيع هذا الصلح إلى إرسال «ماتيو ديليسبس» ممثلاً لها في مصر، فكتب إلى حكومته يقول: إنه يعتقد أن البمباشي محمد علي هو أقدر الزعماء الحاليين في مصر على التغلب على الفوضى الضاربة أطنابها في البلاد».
ثم جاء تعليق الدكتور «السوربوني» ليشير إلى «أن الكثيرين من الثقات يؤكدون على أن هذا الرأي الذي بُلغ إلى الكولونيل «سبيستياني» سفير فرنسا في الأستانة كان من العوامل التي ساعدت على توطئة الأمر لولاية محمد علي في مصر».
هذه ـ أولاً ـ هي أول وأوضح إشارة ـ فيما أعلم ـ في كتب التأريخ المصري إلى وجود دور فرنسي في تولية محمد علي حكم مصر، وتكتسب هذه الاشارة أهمية خاصة حين تأتي في كتاب المؤرخ الكبير الدكتور محمد صبري الملقب بالسوربوني لأنه التحق بجامعة السوربون، وحصل منها على ليسانس الآداب في التاريخ الحديث، ثم على دكتوراه الدولة في الآداب من نفس الجامعة عام 1924، وكان أول مصري يحصل على هذه الشهادة من جامعة فرنسا الأشهر والأعرق، جامعة السوربون.
وقد اعتمد «السوربوني» في دراساته التاريخية على الوثائق والشهادات والمنشورات الفرنسية، والتركية، فضلاً عن الإنجليزية، وأغلب مؤلفاته في هذا المجال ما تزال باللغة الفرنسية لم يترجم منها إلا القدر اليسير.
ولعل هذه الإشارة إلى الدور الفرنسي في توطئة الأمر لمحمد علي تكون هي المرة الأولى التي يظهر فيها اسم «دليسبس» في التاريخ المصري الحديث، وإن كان المقصود هنا هو «ماتيو دليسبس» والد «فرديناند دليسبس» الذي سترتبط قناة السويس باسمه حتى يومنا هذا.
**
(القسم الثاني من المقال يتناول دور «ماتيو دليسبس» في تولية «محمد علي» حكم مصر)