أثناء أدائي رياضة المشي الصباحية كما أفعل كل يوم في الساحة المجاورة لمسكني، لاحظت أن هناك مسناً يسير إلى جواري، حياني المسن بتحية الصباح ثم سألني إن كنت أمارس رياضة المشي، وحين أجبت بالإيجاب بدأ يطالبني بأن أسير على اليمين واليمين فحسب لا اليسار.
واصلت السير غير عابيء بما قاله المسن خاصة وأنني لم أفهم ما وجه الحكمة في السير على اليمين دون اليسار، هل هو دافع ديني مثلاً؟ علماً بأنه لا توجد أي آية قرآنية تطالب المرء بذلك على حد علمي.
وحتى على فرض أنه نوع من التفاؤل المبني على أساس ديني ما، فلم افترض المسن أنني أوافقه في العقيدة نفسها؟ أليس هناك احتمال ولو ضئيل أنني على دين غير دينه؟
كان الموقف على عبثيته في رأيي يمثل خير تمثيل المشكلة الحقيقية التي تواجه مجتمعاتنا العربية ولا سيما المجتمع المصري اليوم.
المشكلة لا تكمن في معتقدات الأفراد في حد ذاتها، فالمعتقدات لا تؤذي أحداً ولا تسبب ضرراً طالما اعتنقها الإنسان مقتنعاً تمام الاقتناع أنها ليست بالضرورة الحقيقة المطلقة أو أنها ليست لزاماً على البشر أجمعين.
لكن المأساة الحقيقية تبدأ حين يتصور أي فرد أو مجموعة أن معتقداتهم تمنحهم الحق في فرضها على الآخرين حتى وإن لم يقتنعوا لإيمانهم أن معتقداتهم تلك هي الصواب الذي ينبغي أن يسير عليه الجميع.
هذا هو جوهر ما عانته أمتنا لسنوات طوال على يد داعش وأخواتها- إذا صح التعبير- ممن اعتبروا أن ما يؤمنون به ليس صواباً وحسب؛ وإنما يوجب عليهم مهمة مقدسة وهي فرضه على الجميع حتى من يخالفونهم في العقيدة.
وتزداد المسألة تعقيداً مع إيمان الفرد الداعشي ومن يماثله فكرياً أن استخدامه للعنف المفرط الذي يصل في أحيان كثيرة إلى حد القتل وسفك الدم هو أمر لا يعاقب عليه من قبل الخالق كما أفهمه قادته بل لعله يثاب عليه لأن ما يفرضه على الآخرين بالقوة هو- وفقاً لتصوره- شرع الخالق وحكمه وقانونه الذي ينبغي أن يسري على جميع خلقه.
هنا تصبح مخالفه هذه المعتقدات أو اعتناق غيرها أمراً يعرض صاحبه للتكفير، ذلك السيف المسلط على رقاب من يأبون أن يكونوا نسخاً أخرى من أصحاب الفكر الداعشي أو من يعارضونه لأي سبب كان، وبطبيعة الحال فإن التكفير ليس سوى المقدمة لإهدار الدم أو إضفاء شرعية وهمية على قتل البشر، تلك الجريمة التي اعتبرها الخطاب القرآني بمثابة قتل الناس أجمعين.
ولا يختلف الأمر حين يعتبر طرف آخر أن لديه الحق أن يأتي إلى بلادنا من وراء البحار والمحيطات على متن حاملات الطائرات لكي يفرض على شعوب أمتنا فهمه الخاص لمفاهيم مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان.
في كلا الحالتين نحن بصدد شكل من أشكال نظرية السير على اليمين التي رأى المسن أن من حقه أن يلزمني بها، فكلا الحالتين يعبران عن إيمان بأن “عقيدتي” هي الأسمى والأرقى وهي الأفضل لغيري سواء أرادوها أو لا.. إذ أن اعتناقها واجب عليهم في كافة الأحوال.
وفي ظل سيطره فكر فاشي كهذا على أي مجتمع بشري، تصبح دعاوى التغيير في هذا المجتمع قاصرة إن لم تفطن أولاً إلى ظاهرة “السير على اليمين” وتواجهها بشكل حاسم.
ففي مواجهة هذه العقلية يصبح من الضروري على المجتمع أولاً أن يشرع قوانين تمنع منعاً تاماً انتهاك الخصوصية الفردية والحرية الشخصية لفرض أي فكرة كانت، وثانياً المواجهة بنظام تربوي يغرس في نفوس الأفراد في سن مبكرة ضرورة التسامح مع الآخر حتى وإن اختلفت معتقداته وآراؤه ورؤيته لهذا العالم الفسيح.
بغير هذين السلاحين، التشريع والتربية، سنبقى مجتمعات ملزمة بالسير على الجانب الأيمن من الطريق وتجنب السير على اليسار تجنباً تاماً.