الشيخ مصطفى إسماعيل لم يتفق الموسيقيون وأرباب النغم على صوت قارئ وأدائه مثلما اتفقوا عليه.. ولم يحظ قارئ بإشادة أعلام التلحين والمهتمين بالتراث المسجل للقرآن الكريم بمثل ما حظي به مصطفى إسماعيل.. ومن ذلك شهادات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، ورياض السنباطي، وعمار الشريعي ومحمود السعدني وغيرهم.
الشيخ مصطفى إسماعيل
أما الناقد الفني الكبير الراحل كمال النجمي، فقد ألف كتابا يؤرخ به لرحلة الشيخ، سماه «الشيخ مصطفى إسماعيل.. حياته في ظل القرآن»، وفيه يصف صوت المقرئ الكبير قائلا: «إن صوته مدرب على القراءة الطويلة.. وكلما ازدادت ساعات التلاوة ازداد صوته قوة وحلاوة ومقدرة وتمكنا وارتيادا لآفاق المقامات حتى جوابات الجوابات، من الديوان الثاني في السلم الموسيقي الحنجري، والتي لم يصل إليها صوت إلا صوته ولا يحكمها أداء على الإطلاق إلا أداؤه.. فقد استطاع أن يمزج بين الأحكام والتفسير وعلم القراءات والموسيقى الصوتية والحنجرية مزيجا ارتجاليا مبدعا خلاقا جعل كل مستمعيه لا يستطيعون الإحاطة بموهبته وإبداعاته».
ويصف النجمي، صوت الشيخ وهو يؤدي مقام راست النوى، فيقول: «يستخدم المطربون من ذوي الأصوات واسعة المساحة مقام راست النوى للانطلاق إلى الأجواء العليا، والتغريد كما يشتهون، وأحسن من سمعناه يغرد في الطبقات العليا من راست النوى هو الشيخ مصطفى إسماعيل، الذي كان يتفنن في هذا المقام تفننا يخلب الألباب، ولم نسمع طوال حياته من يدانيه في هذا الباب إلا أم كلثوم والشيخ محمد رفعت». ويضيف النجمي: «لقد كان الشيخ مصطفى إسماعيل يمتلك صوتا فذا واسع المساحة، وكانت له حصيلة من العلم بالمقامات لا مثيل لها عند أحد من المقرئين».
أما إمام القراءات العلامة الراحل علي الضباع، شيخ عموم المقارئ المصرية، فيقول عن مصطفى إسماعيل: «إنه كوكب خاص متفرد بين قراء عصره، بمناخه ومحيطاته وعبقه وتضاريس صوته مدا وجزرا وقرارا وجوابا، وتمكنه من أحكام القراءات السبع، وطول باعه فى الاحتفاظ بموهبة التألق، والحضور، مهما طال زمن التلاوة ساعات وساعات».
والتسجيل الذي نتوقف معه واحد من روائع الشيخ مصطفى إسماعيل ويعد نموذجيا للتعريف بالملامح العامة لأداءه في حقبة الستينات، التي لم يبلغها إلا بعد أن راكم خبرة فنية ونغمية كبيرة جدا، عوض بها ما قد طرأ على صوته من تراجع عن سمته الأول في عقد الأربعينات، وحقق بهذه الخبرة إشباعا للمستمع ربما لا يجده في تسجيلات أقدم.
ما تيسر من سور ق والذاريات والنازعات وقصار السور، بصوت الشيخ مصطفى إسماعيل – غيط العنب، الإسكندرية، 1962
كعادته، بدأ الشيخ تلاوته من مقام البياتي، ومن درجة قرار خفيض، ويُلاحظ المستمع تلك الحشرجة المميزة لصوت الشيخ في استهلاله للتلاوة.. ثم أخذ في التصاعد تدريجيا حتى بلغ جواب المقام بعد نحو 12 دقيقة.
والتصعيد التدريجي سمة مميزة لمدرسة التلاوة المصرية، ونعني بها أن يبدأ القارئ تلاوته من درجة خفيضة، ثم يأخذ في ملامسة الدرجات العليا، فيرتفع بتلاوته درجة أو درجتين، حتى يبلغ ما يعرف بجواب المقام، وإتمام ديوان موسيقي كامل (أوكتاف)، كما أن بعض أصحاب الأصوات القادرة – ومنهم مصطفى إسماعيل – يبلغون أحيانا نهاية الأوكتاف الثاني، أو ما يعرف بجواب الجواب.
ويمضي المسار النغمي الرئيس للتلاوة فيمر بعد الاستهلال بالبياتي وعلى الترتيب بمقامات: الصبا، ثم يراوح بين الصبا والبياتي، ثم ينتقل من الصبا إلى النهاوند، ثم الراست، ثم الجهاركاه، ثم الراست مرة أخرى، ومنه إلى الجهاركاه ثانية، ثم السيكاة… ولم يخل قارئنا هذه المقامات من تلوينات بديعة، كتلوين البياتي بالشورى، والنهاوند بالعشاق المصري، والسيكاة بالترميل.
يستمسك الشيخ من أول التلاوة بمقام البياتي، فلا يغادر مجاله المغناطيسي إلا بعد 25 دقيقة، حيث أول انتقال مقامي إلى الصبا، دون أن يغرق فيه، إذ يستعيد البياتي مرة أخرى ويمكث فيه عدة دقائق قبل العودة إلى الصبا مع قوله تعالى: والسماء ذات الحبك، التي يجعلها مدخلا للنهاوند في الآية التالية: إنكم لفي قول مختلف.. يسير الشيخ مع النهاوند مع مراوحة بين القرار والجواب، ليصل إلى ذروة طربية مع قوله «هل أتاك حديث…» حيث مقام العشاق المصري بقفلة الشيخ شديدة الإطراب لكلمة «سلاما».
مع الدقيقة 40 ينتقل الشيخ إلى مقام الراست ويعيد نفس المقطع، مع بلوغ جواب المقام بعبارة «إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما».. ثم يكرر المقطع بنفس المقام أكثر من مرة، لكنه يقدم في كل إعادة صيغة مختلفة من التعامل مع «الراست»، وفي كل مرة يكون رد فعل الجمهور قويا حيث تتعالى صيحات الاستحسان.
بعد 7 دقائق مع الراست، ينتقل الشيخ إلى مقام الجهاركاة، (47.30)، فيقدم بها مقطعا في غاية الأناقة، قبل أن ينتقل إلى الراست مرة أخرى ليقرأ به سورة النازاعات بدءا من قوله تعالى «إن في ذلك لعبرة لمن يخشي»، مع وقفة مطربة عند عبارة أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها.
يعود الشيخ إلى الجهاركاة مع قوله «فإذا جاءت الطامة الكبرى».. ثم إلى الراست مع «يسألونك عن الساعة» بقفلة من الجهاركاة في آخر النازعات.. ثم يبدأ سورة الطارق بمقام السيكاة، ويبلغ جواب المقام في الدقيقة 67.15 فيكاد الجمهور يطير طربا، وهو ما تكرر مع قفلة سورة الطارق ولفظة «رويدا»، مضيفا جرعة طربية فائقة في الإعادة.. مع سورة الضحى يعود الشيخ إلى الراست، ومنه إلى البياتي مع أول سورة التين استعدادا للختام.
وتزدحم التلاوة بالجماليات والمواضع الأخاذة، ومنها أداء الشيخ لكلمة «واستمع» منفردة، أو طريقة أدائه لكلمة «الخروج» في الدقيقة 21.30 أو كلمة «بناها» في سورة النازعات، في الدقيقة 56.40 إذ يستغل الوقف على ألف السما مع حذف الهمزة في قراءة حمزة، ليصبح الجمهور في حالة نغمية معلقة تنتظر القفلة بتلهف، وتمر الثواني في صمت ليفاجأهم الشيخ بأداء كلمة بناها بطريقة جديدة فريدة تذهب بوقار المستمعين.. أو الطريقة الدرامية التي أدى بها قوله «وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى»، أو التصعيد إلى منطقة صوتية حادة في قوله «ألم يجدك يتيما فآوى»، وحتى التصديق ولفظة «الفاتحة»… وغير ذلك كثير، مما يحتم استماعا متكررا ومنتبها لهذه التلاوة شديدة الثراء.
ولا يفوتنا أن الشيخ مصطفى، يقدم كل هذا الفن، في إطار قواعد التجويد، وعلم القراءات، وقد قرأ في هذه التلاوة بقراءات: حفص عن عاصم، وابن كثير المكي، وحمزة، وورش عن نافع، ويفعل كل هذا بإحكام وتفوق نادرين.. رحمه الله.