ثقافة

الأبنودي ونهال.. الخال بعيون حبيبته

في يناير من العام 1986 تزوج الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي من مذيعة التلفزيون الشابة نهال كمال، فغضبت جماعة لا يستهان بها من المثقفين، وقد قال الأبنودي لجريدة الوفد:” لقد قاطعوني، حتى أن هاتف منزلي كف عن الرنين لفترة تجاوزت الستة أشهر “.

لماذا غضب المثقفون من قرار شخصي جدًا وخاص جدًا، بل ومقدس جدًا؟

لقد غضب المثقفون لسببين.

الأول: تشيعًا للفنانة الكبيرة الراحلة عطيات الأبنودي التي كانت زوجة لعبد الرحمن لسنوات طويلة.

وهذا السبب عجيب جدًا ولا يقره منطق ولا شرع، وذلك لأن علاقة الزواج خاصة جدًا ولا يعرف خفاياها سوى أصحابها.

السبب الثاني والأخير: هو أن المثقفين نظروا لقصة الأبنودي مع نهال بعين الحسابات العقلية الباردة.

الحساب العقلي البارد يقول: هذه الزيجة مصيرها الفشل، عبد الرحمن الأبنودي يكبر نهال بقرابة الثلاثين عامًا، وذلك التفاوت في السن كان يجعل نهال تنهى خطاباتها للشاعر بلقب “ابنتك نهال”.

الأبنودي صاحب تجارب في الزواج والحياة، ونهال كثمرة شهية ولم تنضج بعد.

الأبنودي ينتمي اجتماعيًا إلى عمق أعماق الصعيد، بينما نهال تجري في عروقها دماء أسلاف أتراك.

ماديًا، لم تعرف نهال سوى وجه الحياة الذي إن لم يكن رغدًا فهو هادئ مستقر، أما الأبنودي فقد حفر الشقاء في جسده أنهارًا وقنوات.

ثقافيًا، نهال تنهل من نبع العقاد الجبار الذي لم يكن خصمًا للعامية فحسب، بل كان خصمًا لشعر التفعيلة المكتوب بالفصحى لأنه لا يلتزم بالوزن والقافية، أما الأبنودي فهو ابن مواويل الصعيد وغناء الحصاد وعديد الثكالى، إنه ابن الشارع لا الصالون، لهجته الدارجة جزء لا يتجزأ من تكوينه.

بالنظر إلى كل هذا التناقض فالزيجة فاشلة.

بركات المودة

ولكن شاء ربك أن ينجح الزواج، بحيث صار أيقونة ومضرب مثل.

لا شيء يجمع الشامي بالمغربي، سوى الحب، وعند الحب لنا وقفة.

خالق النفس البشرية هو الأعلم بشعابها، في محكم آياته لن تجد إشارة إلى حب الرجل للمرأة وحب المرأة للرجل إلا في موضع الشهوات، يقول تعالى عن علاقة زوجة العزيز بنبيه يوسف الصديق:” قد شغفها حبًا ” ويقول تعالى:” زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ”.

وعلى هذا فالحب الذي هو سهر الليل وإحصاء النجوم واللهفة والحسرة وهياج المشاعر واضطراب القلب، ليس هو الذي يقيم أعمدة الزواج، الحب طيب لا شك في هذا، بل هو أجمل ما قد يحصل عليه الإنسان في كل حياته، ولكنه بعد الزواج يتخذ صورتين لا ثالث لهما، إما أن يصبح مثل قوس قزح الذي يخطف بألوانه العيون لحظة ثم يذهب لحال سبيله.

وإما أن يصبح ذكرى طيب يجب البناء عليها.

خالق النفس البشرية يقول:” وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”.

كلنا، حتى القاتل الأجير يستطيع الحب، ولكن بعضنا يستطيع الرحمة والمودة، وبالرحمة والمودة عاشت نهال مع الأبنودي حتى كأنهما روحان في بدن واحد.

عن كل تلك المفارقات كتبت نهال كمال كتابها” ساكن في سواد النني” الذي نشرته مؤخرًا دار نشر ” ريشة”.

نلاحظ بداية أن العنوان هو شطر من شعر الأبنودي، فانظر إلى عمق الرحمة والمودة!

كان الأبنودي رجلًا مكتملًا وشاعرًا ذائع الصيت، وكانت نهال في بدايات المراهقة، وكان العدو الصهيوني يصب جحيم قنابله على مدينة السويس، وكان والد نهال مهندسًا بإحدى شركات البترول بمنطقة الزيتية، ترك الأب عمله ليتطوع ضابطًا بجيشنا الذي خاض حرب استنزاف عظمى ضد العدو، كان الأبنودي قد ترك أمن واستقرار وشهرة العاصمة وذهب ليقيم على الجبهة لكي يكتب من واقع المعايشة ملحمته الخالدة ” وجوه على الشط ” وكانت نهال المراهقة قد تركت دفء الأسرة لتقيم مع والدها في جحيم السويس!

الأب البطل كان يساهم في التصدي للعدو ويبطل مفعول قنابله ويطفئ الحريق الذي شب في معمل تكرير البترول بالزيتية، فماذا كانت تفعل نهال؟.

إنه القدر يا صاحبي يرتب لحياة قادمة.

كتب الأبنودي كثيرًا عن الزيتية حيث تعيش تحت جحيم قنابل العدو المراهقة نهال التي ستذكر له تلك المفارقة بعد زواجهما، فيضحك الخال ضحكته الشهيرة ثم يقول :” لأني كنت  شايف المستقبل وعارف إني هتجوز واحدة كانت عايشة هناك “.

عندما كانت نهال طالبة في عامها الجامعي الأول بكلية التجارة جامعة الإسكندرية دعتها ابنة خالتها لحضور أمسية للأبنودي تقام في المركز الثقافي الفرنسي بالإسكندرية، نهال التي كانت غارقة في محبة العقاد كادت تعتذر عن حضور الأمسية، ولكنها حضرت، وجاء الأبنودي بسيطًا وشهيرًا ومتألقًا ومختلفًا لينشد قصيدته العلامة ” الخواجة لامبو “.

ليلتها تأكدت نهال أن للشعر وجوه كثيرة غير الوجه العقادي!

ثم مرت السنون، حصلت نهال على شهادتها الجامعية وسافرت إلى معظم دول أوربا، ثم عادت للعمل في الإذاعة المصرية، فعملت بها فترة ثم عملت في التلفزيون المصري، أيامها كان الأبنودي معارضًا شرسًا لمجمل سياسات السادات فمُنع بقرار شفهي من الظهور في الإعلام الرسمي، فاتحت نهال مديرها في استضافة الأبنودي لكي يتحدث عن الشعر فقط، سمح لها مديرها على مضض، رحب الأبنودي بالظهور مع الشابة اللامعة نهال، وفرح عندما طلبت منه نسخة من ديوانه الفصول.

عاش الأبنودي مؤمنًا بأن ديوانه الفصول قد ظلم ولم يحصد ما يستحقه من شيوع.

أصبحت نهال صديقة تلميذة أو تلميذة صديقة للأبنودي، تستشيره في معظم أمور حياتها، حتى عندما تقدم لها شاب، أخذت رأي الأبنودي الذي قال له بصعيديته المعروفة ” على بركة الله “.

ثم مرض الأبنودي وسافر إلى روسيا للعلاج، وانقطعت أخباره عن نهال التي شعرت بوحشة الفراق، وعندما عاد الأبنودي عاتبته على عدم تواصله معها، فتعجب هو من اهتمامها وسألها:”أنتي بتسألي عليا بجد، والا من دوكها”.

ولأن نهال لم تكن تعرف ما معنى دوكها فقد ردت ببساطة” من دوكها “.

كان الأبنودي يحمل أمه فوق رأسه وفي قلبه، لم يعرف أحد الأبنودي إلا وعرف أدق تفاصيل حياة أمه فاطمة قنديل، ثم جاءت الحاجة فاطمة لزيارة ابنها، وعرفت نهال بوجود الأم في القاهرة فقالت للخال:” عايزة اشوف الست اللي عملت عبد الرحمن الأبنودي”.

دعا الأبنودي نهال لزيارة أمه ولكنه غاب عن الجلسة!

نبوءة صعبة

وصف ماركيز إحدى بطلاته فقال ” هى ربة العشب وحارسة النماء ” وهكذا كانت الحاجة فاطمة قنديل.

حارسات النماء هؤلاء يقلن ما في قلوبهن، وسواء عليهن رضيت أم سخطت.

شرّق الكلام بين فاطمة ونهال وغرّب، وسيطرت فاطمة على نهال فأمثال فاطمة ملكات قص وحكي ولا يشبع من حديثهن.

وفي اتصال هاتفي جرى بين نهال والخال قال لها: لم أحضر اللقاء لانشغالي في عمل مع عمار الشريعي، أمي قعدت تقول عنك، دي جوهرة، دي مليحة، وفي الآخر قالت لي: خدها يا ولدي.

أنا قلت لها: إيه دا يا أمّه؟ دي بنتي، وبعدين دول ناسها غيرنا، وهما حاجة وإحنا حاجة، وبعدين بطلي الكلام دا لحسن أروحّك.

لزمت نهال الصمت فأكمل الأبنودي ناقلًا حجة الأم التي قالت: مفيش في الجواز كبير وصغير، ودي أم عيالك وبكرة تقول فاطمة قالت.

كانت نهال مأخوذة بهذا الكلام العجيب فأنهت المكالمة سريعًا ولم تعقب بكلمة.

زواج أم معركة حربية؟

كشفت نبوءة فاطمة قنديل الغطاء عن حقيقة مشاعر نهال والخال، هي لم تقل، وهو لم يقل، ولكن شيئًا كان بينهما، في صلب القصة نهال لم تكن التلميذة والابنة والصديقة فحسب، وفي صلب القصة الخال لم يكن الأستاذ والأب والصديق فحسب، كانت هناك بذور المودة والرحمة، كان هناك الأمان حيث يكشف كل منهما ظهره للآخر وهو مطمئن أن طعنة لن تصبه.

لا شيء ينبت فجأة ولا شيء ينبت من فراغ، ولذا فكرت نهال بجدية في نبوءة الحاجة فاطمة وكذا فكر الخال فقررا الزواج.

تعرف ما كان من تنقاض بين العالمين عالم الأبنودي وعالم نهال، ثم هناك كرامة الأبنودي التي تغطي مساحة جلده والتي لن يسامح من يقترب من حدودها، الأبنودي يجب أن يُرحب به زوجًا لكريمة الحسب والنسب، هكذا هي مقررات كرامته، في ظروف كظروفه يسطو الرجل الكبير الخبير على البنت الشابة وليذهب أهلها إلى الجحيم، ولكن الرجل الصعيدي لا يفعلها.

طبعًا رفضت عائلة نهال الزواج، ولكن مع إصرارها بعثوا بشقيقها الأصغر ليجلس مع الأبنودي، عاد الشقيق مبهورًا، فبعثوا بالشقيق الأكبر فعاد كسابقه مبهورًا، بعد جلسات ومفاوضات عاصفة كأنها معركة حربية، دخل الأبنودي إلى بيت والد نهال وطلب يدها.

أهل نهال وافقوا، لكن أصحابها وأصحاب الخال رفضوا، ومعهم السماء التي فتحت أبوابها بماء منهمر أغرق موكب العرس، قال الخال: الطبيعة ترفض زواجنا فردت نهال: بل تباركه!

الأبنودي ونهال كمال
الأبنودي ونهال كمال

جاءت المودة ومعها الشعر

أخيرًا نهال والخال تحت سقف واحد، مبكرًا ظهرت التناقضات، الخال ينام نهارًا ويصحو ليلًا، نهال شابة طبيعية، تعمل نهارًا وتنام ليلًا، نهال علاقتها بشئون المطبخ بسيطة، الخال طباخ ماهر، نهال متحفظة، الخال مفتوح على رحابة الشوارع يقتحم الجميع ويصاحب الجميع ويعيش الحياة كأنه لم يغادر أزقة أبنود.

ولكن المودة والرحمة جعلت نهال تنصهر في كيان الشاعر الضخم، لقد أصبحت صورته الأنثوية، هي لاحظت أنها بدأت ترى بعينيه وتتحدث بلسانه، ومن ناحيته لم يفرض عليها شيئًا، بل كان يدعمها في كل قرار من القرارات الصعبة ويحرضها على العمل والتألق، كأن يرعاها كما رعى جده الصعيدي القديم نخلة صغيرة راجيًا أن تترسخ وتثمر ولو لأجيال قادمة.

لقد ظهرت نهال بوصفها الحبيبة لا التلميذة في شعر الأبنودي، كتب عنها ولها أربع أغنيات.

الأولى: ” قبل النهاردة ” وغنتها وردة ومنها

أنا ياما قلت خلاص وقلت فات الوقت

” عمري يا ناس يبتدي دالوقت

وكأني أول مره بتبسم

وكأن عمر القلب ما أتألم

بتعلم الدنيا من الأول من الأول”.

https://www.youtube.com/watch?v=_w42C3DIuT0

والثانية:” طبعًا أحباب ” وغنتها وردة أيضًا ، ومنها

” يا أبو حس بيعرف يلمسني

وكلام ولا غيره يونسني

يا غنوه ما تحتاجش شفايف

قلبي من غير قلبك خايف

وإحنا من غير بعضنا أغراب”.

https://www.youtube.com/watch?v=9jXxce3M5HU

الثالثة: كانت ” يا بت يا بيضا ” وقد غناها علي الحجار ومنها

” يابنت يابيضا بياضك صافي

ياراخيه شعورك على كتافي..

ولما تجافي حروح على فين

الرابعة: كانت ” سنة واحدة ” وقد غنتها نادية مصطفى، وهذه لها قصة، تقول نهال: كنت أتحدث يومًا مع الخال فقلت له:” عشت معاك سنة واحدة، عملت كدا فيا “.

فصاح معجبًا: هذا مدخل أغنية جميلة، وفورًا كتب:” سنة واحدة وعملت كدا فيا.

آمال لو عشت معاك سنتين

تلاتين خمسين سبعين مية

ولو أن المية يا حبيبي ، هتعدي كأنها سنة واحدة “.

أما الظهور الأهم لنهال في شعر الخال فكان ظهورها في قصيدته الكبرى ” الكتابة “

قال الخال مخاطبًا حبيبته نهال كمال:

“حبيبي.. القطر واقف

وقفة دمع اليتامي

متحجر في المحاجر.

وأنت أطرف الطرايف

فجر برئ الشفايف

وأبيض الصحايف

ونادر في النوادر”.

أنا مذنب

ظلت نهال تكتب بهدوء وسلاسة عن حياتها مع الخال، ساردة أدق التفاصيل، عن ميلاد ابنتي الخال ” آية ونور ” وعن علاقاته المتشعبة بكبار الفنانين والشعراء والكتاب، وقد أفردت فصولًا لتحكي عن علاقة الخال بعبد الحليم وهيكل ومحمود درويش وجمال الغيطاني وعمار الشريعي ومحمد منير وعلي الحجار وغيرهم من الكبار الذين أحبوا الأبنودي وأحبهم الأبنودي.

ثم قرب نهاية الكتاب توترت نهال، وشعرت أنا القارئ بأنها تكتب كأنها تتسلق جبلًا.

ما وصلني أن نهال لم تكن في قرارة نفسها تريد كتابة الفصول الأخيرة من كتابها، وذلك لأن تلك الفصول هي عين نبع المواجع، إنها فصول خاصة بمرض الخال.

كان الأبنودي مدخنًا شرهًا، وكان يعلم أن التدخين قاتله في يوم قادم لا محالة، ولكنه لم يكن يكف عن التدخين، حتى جاءت لحظة الحقيقة ويومها قال الخال: أنا قاتل نفسي، أنا مذنب.

فصول المرض ليس بها سوى غرف العمليات وصياح الأطباء والنزيف الذي يضرب فجأة ويد الأبنودي التي لا يستطيع تحريكها ورئته التالفة وقلبه المضطرب، ثم هناك نهال الحبيبة التي تأخذ الغيبوبة حبيبها من بين يديها وهي لا تستطيع فعل شيء سوى الدعاء، لقد تجاوز الأبنودي في قلب نهال مكانة الحبيب والزوج وأبو البنات، لقد أصبح الأبنودي هو نهال ولكن بملامح صعيدية، فكيف يصبر الإنسان على فقدانه لذاته؟

كان الأبنودي في مرضه يفرض شروطه على الأطباء، لقد جعل من غرفة العناية حيث لا شيء سوى التعقيم وآلات الجراحة، مسرحًا للحياة، كان يعلن عن خطته في هزيمة المرض، كان يقول: أنا رجلان، مريض لا علاقة لي به، وشاعر هو أنا، الشاعر لا يمرض ولا يموت.

ثم جاء اليقين الإلهي وغلب المريض الشاعر ليموتا معًا، لحظتها، سكتت نهال، لم تبك ولم تصرخ، خاف أهلوها عليها، لقد تقمصت الخال لتنفذه وصيته تنفيّا حرفيًا.

قال لها: محمود مساعدي في البيت والأرض هو فقط الذي يتولى غسلي، لا تغلقي هاتفي وقومي بالرد على أحبابي، لا تمنعي الناس من حضور جنازتي.

ردت الحبيبة: سمعًا وطاعة.

ثم قال لها الخال: لا تنسوا ذكراي.

ونحن الذين نرد على الأبنودي: أمثلك يُنسى يا خال؟

سلام عليك يوم ولدت ويوم مات جسدك، أما شعرك سيبقى ما بقي النيل.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock