توقف البعض عند ورورد كلمة “استحلال” في البيان الذي أصدره منظر وفقيه القاعدة الأول، سيد إمام عبد العزيز، المعروف باسم الدكتور فضل، من أحد السجون المصرية، وطرح فيه مبادرة تحرم التوسع في القتل باسم الإسلام، وتستنكر إزهاق الأرواح على خلفية الجنسية أو اللون أو المذهب، وترفض سلب أموال المعصومين، وتخريب الممتلكات.
الفقه الإسلامي المتعارف عليه يكرر دوما مصطلح “الحلال” في مقابل “الحرام” وبينهما ما هو مباح وعفو، لكن مع الجماعات والتنظيمات المتطرفة تعزز تكرار كلمة “استحلال”، التي تبدو في حد ذاتها تعبيرا عن اغتصاب الحلال نفسه، أو إدخال فيه ما ليس منه.
وفي اعترافات متطرفين وإرهابيين ينتمون إلى جماعات وتنظيمات عدة، تنتشر في بلدان عديدة، وردت كلمة الاستحلال كثيرا، معطوف عليها حديث عن سلب الأموال، ونهب الممتلكات بغية الحصول على تمويل بأي ثمن، لاسيما لدى جماعات التطرف المحلية، التي لا تتوافر لها مصادر مساعدة من جهات أجنبية، ولا يتبناها سرا بعض الموسرين الموالين لما تسمى “السلفية الجهادية”.
قبل أن تتصل الجماعات الإرهابية بالعولمة مع ثورة الاتصالات، وهجرة العنف إلى كافة أرجاء الأرض، كانت تلك الجماعان تهاجم بنوك ومصارف ومحلات ذهب مملوكة لمواطنين عاديين – خاصة من غير المسلمين – وتستولي على كل ما فيها من مصوغات مشغولة لبيعها وشراء أسلحة أو تدبير نفقات أخرى تحتاجها في القيام بعمليات إرهابية، أو في نشر أفكارها المتطرفة في ربوع المجتمع.
في تسعينيات القرن العشرين كانت محلات الذهب المملوكة للمسيحيين في مصر مستباحة من قبل تنظيمي “الجماعة الإسلامية” و”الجهاد”. وطيلة السنوات الفائتة لجأت بعض الجماعات العنيفة في الصومال إلى القرصنة في المحيط الهندي لتوفير أموال تنفقها على مختلف أنشطتها. وفي أواخر عام 2014 تم القبض على خلية إرهابية في المغرب بعد نجاحها في السطو على أموال من مؤسسات مالية بفرنسا عن طريق النصب بهدف تمويل عملياتهم الإرهابية وتهجير مجندين من المغرب وفرنسا للالتحاق بداعش. وقد كان هؤلاء يتقدمون إلى بنوك فرنسية بأوراق مزورة تخص شركات وهمية، من أجل الحصول على قروض مالية.
وإلى جانب فرض فدى مالية باهظة لتحرير الرهائن الأجانب الذين تختطفهم هذه الجماعات، وفرض الضرائب والجمارك والجبايات على المقيمين في المناطق التي تقع تحت سيطرتهم، وتلقي الأموال من أجهزة استخبارات عالمية إقليمية، يشكل “الاستحلال” المبدأ الرئيسي لدخل تنظيم داعش، حيث يفتح أمامه باب النهب والسلب، مثله مثل العديد من تنظيمات التطرف الأخرى.
دأب تنظيم “داعش” على الاستيلاء على بعض المؤسسات والمصالح الخدمية، كالمستشفيات ومرافق المياه والكهرباء، وكذلك على بعض المحال التجارية والمطاعم، ونهب ما بها من مؤن وسلع وموارد، أو إدراة التنظيم لها، وتحصيل عوائدها. ويغير التنظيم على بعض القرى والمدن ويستولي على ما يجده نافعا له، بدعوى أنها “غنائم حرب”، وفي مقدمة هذا سرقة البنوك، مثلما جرى مع بنك الموصل في العراق، وخزائن الشركات الكبرى. وتباع البضائع والمواد غير العسكرية في أسواق محلية لبيع المسروقات، وكان يُسمح لمسلحي التنظيم بشراء هذه البضائع بنصف ثمنها. ويمكن للناس أن يشتروا أي شي مما تم نهبه، بدءا من السيارات والأجهزة الكهربائية والأثاث وأبواب المنازل والنوافذ وصولا إلى الماشية وقطعان الضأن.
بلغ الأمر حد استيلاء التنظيم على آبار نفطية في العراق وسوريا، حيث هرب محتواها وباعه في السوق الدولية السوداء بأثمان أقل من السعر العالمي الذي حددته أوبك، الأمر الذي جعل كثيرا من التجار، بل من الدول تقبل على نفط داعش، بما سهل للتنظيم أن يجعل منه مصدرا أساسيا للدخل في المناطق التي أعلن قيام دولته علي أراضيها . وبينت تقديرات أن داعش كان يحصل على ثلاثة ملايين دولار يوميا من هذا المصدر، قياسا إلى ما أظهرته صور ملتقطة من الفضاء والطائرات الحربية تظهر ضخامة حجم تجارة النفط غير الشرعية تلك، حيث امتدت قافلة واحدة من الشاحنات الناقلة للنفط من سوريا إلى عدة كيلومترات.
واستحل التنظيم أيضا تجارة الآثار بعد استيلائه على مناطق أثرية كبرى في سوريا والعراق، وقام بتفكيكها، بدعوى أنها أصنام، يمكن أن تعبد من دون الله. وقام بتسجيل فيديوهات والتقاط صور، تظهر تحطيمه لهذه الأماكن، بينما هو في حقيقة الأمر قام ببيع كل ما عثر عليه فيها إلى تجار آثار كبار، وإلى دول معنية بالاستيلاء على بقايا الحضارات القديمة على أرض العرب.
أما استحلال الأعراض فقد مارسه داعش بإفراط، في الأماكن التي سيطر عليها، حيث استحل نساءها، لاسيما من الأيزيديات بدعوى أنهن سبايا أو غنائم حرب، ومن ثم طرحهن للبيع في سوق النخاسة، الذي أقامه لهذا الغرض.
وهناك نوعان من الاستحلال تبنتهما الجماعات والتنظيمات الإرهابية: الأول هو استحلال مال الأفراد المخالفين في الدين أو في المذهب أو في الجماعة. والثاني هو استحلال المال العام عبر عمليات السطو على البنوك وخزائن مصالح حكومية إلى جانب التزوير والتزييف سواء لعملات أو لمستندات.
وتستعمل هذه التنظيمات تلك الأموال المسروقة في شراء الأسلحة، وتسهيل مهام عناصرها للقيام بعمليات إرهابية، وشراء الضمائر والذمم في عمليات تجنيد العملاء في المؤسسات الرسمية وغيرها، إلى جانب الإنفاق على الحياة الخاصة لقادة التنظيمات.
نقد “الإستحلال”
يتعارض مبدأ “الاستحلال” الذي تتبناه الجماعات المتطرفة والإرهابية مع القرآن الكريم، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: “وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ” , ويقول سبحانه أيضا : “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا “.
كما يتعارض مبدأ الاستحلال مع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: “إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”، ويقول أيضا “لا يدخلُ الجنةَ لحمٌ نبتَ من سحتٍ، وكلُّ لحمٍ نبتَ من سحتٍ فالنارُ أولى به”، كما قال في حجة الوداع: “إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا”.
ما يدعو للعجب أن كثيرا من المصادر الفكرية والفقهية التي تعتمدها الجماعات المتطرفة في صناعة أيديولوجيتها وإطارها الفكري ترفض مبدأ الاستحلال، بعد أن تعرفه بأنه “جعل ماحَرَّمه الله حلالاً، بصفة خاصة أو عامة” ، ويصل رفضها إلى حد تكفير من يصر على أن يجعل الحرام حلالا، ويتمسك بمعصيته، ويجحد التحريم.