الصورة الأولى
في السنوات الأولى لقيام الثورة المصرية، ثورة يوليو ١٩٥٢، كان الرئيس عبد الناصر قادمًا من مقر مجلس قيادة الثورة، الموجود في رأس جزيرة الزمالك، والمُطل على النيل من ناحية كوبري قصر النيل، كان الرئيس عائداً إلى منزله في منشية البكري، وهو نفس البيت البسيط والمتواضع الذي عاش فيه، وانتقل إلى رحاب ربه منه..
كان بصحبته الأستاذ ” فتحي رضوان ” وزير الثقافة والإرشاد -أي الإعلام- وعند رحلة العودة كان الرئيس مهموماً وحزيناً، وعندما سأله الأستاذ ” رضوان ” عن أسباب هذا الحزن انطلق الرئيس يتحدث بقدر عالٍ من المرارة ، كان الحديث من رد الفعل الغاضب والرافض من بعض رجال الإعلام وكبار الأطباء والمهنيين من كل مهنة ، أعضاء نادي الجزيرة الشهير، من قرار الرئيس باقتطاع جزء من النادي البورجوازي العتيق وتحويله إلى ما يُعرف الآن بمركز شباب الجزيرة لكي يخدم أبناء وشباب أحياء بولاق أبو العلا وامبابه وميت عقبة وعابدين وغيرها من أحياء الفقراء..
قال الرئيس والألم يعتصر وجهه:
هو الفقير مالوش نصيب في هذا البلد؟ الناس دي، ويقصد أغنياء نادي الجزيرة، مُستنكرين أن نأخذ جزءا من هذا النادي علشان يتعلم الشباب الفقير ويلعب رياضة ويطلع منهم أبطال في كل لعبة؟!
يسكت الرئيس ويقول: “الناس دي ما بتحبش الفقير وبس، الناس دي مش عارفة قيمة الوطن “.
الطريف في الأمر أن مجلس إدارة هذا النادي البرجوازي قد رفض بالإجماع طلب الفنان ” عبد الحليم حافظ ” بعضوية نادي الجزيرة ، بدعوى أنه يفتقد اللياقة الاجتماعية التي تؤهله لتلك العضوية!
الصورة الثانية
في الأسابيع الأولى لقيام الثورة، دعا عبد المنعم أمين عضو مجلس قيادة الثورة زملاءه لحفل عشاء في منزله بحي جاردين سيتي، حي البرجوازية العريق وموضع قصور عدد كبير من باشوات العصر الليبرالي السعيد!
دخل جمال عبد الناصر البيت الأقرب إلى القصر، ذُهل من نوعية الأثاث الفاخر واللوحات المُثبّتة على الجدران لكبار الفنانين العالميين وأنواع الثُريات، أي النجف المُعلق في كل مكان، ثم جاء دور الطعام ونوعيته الذي لم ير عبدالناصر ولم يعرف الكثير منه من قبل!
انتهى الحفل، وعاد عبد الناصر إلى شقته البالغة التواضع، والكائنة في إحدى الشوارع الجانبية من منطقة كوبري القبة، والقريبة من مسجد جمال عبد الناصر الآن والمبنى الحالي لوزارة الدفاع، كان بصحبته زميله في مجلس قيادة الثورة عبد الحكيم عامر، قال عبد الناصر بعد دقائق من الصمت كانت كفيلة بزميل وصديق عمره ليسأله:
” ليه ساكت ياجمال”؟ رد عليه بكلمات مُقتضبة ” سوف أفتتقد عبد المنعم أمين! بدت الإجابة مُفاجئة لعامر مما دفعه إلى إطلاق ضحكة عالية، تتفق مع طبيعته الإنسانية الطيبة والنقية: “ليه ياجمال هو بعد الشر ها يحصله حاجة؟” ابتسم ناصر وقال: “واحد بالثراء ده مش ها يٍكمل معانا إحنا قُمنا بالثورة علشان الفقراء والغلابة والأرامل والمساكين وعمال التراحيل والموظفين اللي بيشتغلوا في الحكومة، ويادوب عايشين، أنت عايزعبدالمنعم أمين يكمل معانا ويسيب الثراء والعز ده اللي عايش فيه؟
فرد عبد الحكيم عامر على صديقه:
” أنت كنت عارف ياجمال أنه ساكن في جاردين سيتي وأنه مبسوط إزاي سمحت بعضويته في حركة الضباط الأحرار اذا كان بالشكل ده؟ رد جمال عبد الناصر قائلاً: “أولاً لم يكن في مقدوري أن أعرف الحالة الاجتماعية لكل أعضاء الحركة ، كانوا أكثر من تسعين ضابطاً، ثم أنني وهذا هو المهم، لم أكن أتصور أنه يعيش في هذا المستوى من الثراء!
ولم يترك عامر الأمر عند هذا الحد، ويبدو من سابق معرفة أنه يعرف الكثير من حياة عبدالمنعم أمين قائلاً بطريقته المعهودة والمُحببة:” طيب اسمع ياسيدي المعلومة دي، كل هذا الثراء ليس ملكه، ولكن ملك السيدة زوجته” وانتظرعامر رد فعل صديقه على تلك المعلومة المُفاجئة، والتي امتزجت بابتسامة خفيفة وذات معنى من ناصر قائلاً له: “حكيم أنت فاكر مصالح عبد المنعم منفصلة عن مصالح زوجته؟ المصالح الطبقية لا تنفصل حتى لو لم يملك آلاف الأفدنة وعشرات المصانع سوف يتعاطف مع طبقته، وسوف ينسى الثورة وحقوق الفقراء والغلابة!
بعد أيام دعا ” عبد الناصر ” مجلس قيادة الثورة للاجتماع ، كان ذلك في أول سبتمبر من عام ١٩٥٢ ،أي بعد قيام الثورة بنحو ٤٥ يوماً من قيامها، كان الهدف من الاجتماع مناقشة مشروع القانون الأول للإصلاح الزراعي، والذي حدد الملكية الزراعية ب٢٠٠ فدان لأسرة كل إقطاعي، ومنح كل فلاح فقير وأجير ومُعدم خمسة فدادين من الأرض الزراعية والمُقدرة بآلاف الأفدنة التي كان يملكها من أسماهم ناصر بعد ذلك بطبقة النصف في المائة!
طُرح الأمر للنقاش بين أعضاء المجلس، وبعد أيام من الأخذ والرد والحوار، جاء وقت التصويت على القرار ونظر عبد الناصر إلى زملائه، فكان عبد المنعم أمين أول المُعترضين بل كان أول المُغادرين لترك المجلس والثورة والبلد!
نظر عبد الناصر الى زميله عبد الحكيم عامر وابتسم!
ولم تقف الحكاية المُثيرة عند هذا الحد، فبعد رحيل عبدالناصر إلى جوار ربه، بدأ الرئيس الجديد يبحث عن قناة خلفية لفتح صفحة جديدة مع الأمريكان، فلم يجد شخصاً مؤتمناً لا يكشف مُخطَّطه بالتحالف مع واشنطن سوى عبد المنعم أمين!
الصورة الثالثة
في صيف عام ١٩٦٥ فكّرّ عبد الناصر في ترك موقعه كرئيس جمهورية، والعمل في بناء التنظيم السياسي القائم في ذلك الوقت، لكن الشعب الواعي أدرك ما يُفكر فيه الرئيس ولأنه يعرف أن القرار في بلد مركزي كمصر هو في يد الحاكم ، وخصوصاً إذا كان قوياً وعادلاً ، خرجت آلاف التظاهرات رافضة ذلك التفكير الذي كانت تتردد أصداءه في الشارع المصري والعربي.
فما كان من الرئيس إلاّ الرضوخ لقرار الشعب، وبدأ حملته لشرح برنامجه السياسي، وجاب وزار وخطب في غالبية مدن مصر..
كانت محافظة أسيوط بصعيد مصر، وهي المحافظة التي يوجد بها قرية بني مر القرية الفقيرة التي خرج منها الرئيس، هي المحافظة التي سّيُلقي فيها خطابه الى الجماهير، لكن حدث أمر مُفاجئ ، فبينما يتحرك قطار الرئيس متوجهاً الى عاصمة المحافظة العريقة إذا بفلاح يقذف الرئيس الذي كان يّطُل من شرفة القطار ويُحييْ عشرات الآلاف من أبناء الشعب، بشئ ما “ملفوف في منديل محلاوي” وهو منديل مصنوع في مصانع النسيج بالمحلة الكبرى، والتي كانت مشهورة بإنتاج هذا النوع من تلك المناديل الكبيرة الحجم والمُخططة بألوان مختلفة تتراوح بين اللونين الأصفر والأزرق، كانت هذه المناديل هي السلاح الواقي لرؤوس الفقراء من برد الشتاء وحر وشمس الصيف، فضلاً عن مهمة حياتية أكبر وأهم، كان المنديل المحلاوي ، وبطريقة معينة في لفه هو شنطة الفقراء والفلاحين لوضع غذائهم البسيط في داخله.
كان الحدث مُفاجئاً ومُربكاً لرجال الأمن الذين يحيطون بالرئيس الواقف في شُرفة القطار المُتحرك والذي زادت سرعته متوجهاً إلى مقصده، كانت صرخة عبدالناصر، بترك هذا الفلاح الفقير ولا يقترب منه أحد بأي أذى.
بعد أن تحرك القطار بعيداً وعاد الرئيس إلى مقعده في صالون القطار الرئاسي طلب من أحد معاونيه من جهاز الرئاسة، أن يأتي إليه بهذا المنديل وبكل ما يحتويه..
فتح الرئيس المنديل بعد أن فرده على طاولة موضوعة أمامه فوجد المفاجأة المدوية، قطعة خبز من الذي يسمى في الصعيد بالعيش “البتاوي” والذي يصنع من الذرة، وقطعة أخرى من الجبن الناشف، وبضع سمكات مُجَفَّفة من السمك المُملّح والذي يٌسمى في الصعيد بالملوحة!
بعد ساعات جاء وقت خطاب الرئيس، وبعد المُقدمة المُعتادة والتي تبدأ بكلمته الشهيرة ” أيها الأخوة المواطنون ” دخل الرئيس في الموضوع مباشرة قائلاً:
” الأخ اللي رمى عليّ المنديل المحلاوي وأنا جاي لأسيوط ، بقوله الرسالة بتاعتك وصلت ” ولكي يُفسٍر الرئيس كلماته تلك التي بدت غامضة للملايين من مستمعيه،وأنا واحد منهم، حيث كنت أستمع لخطاب الرئيس من الراديو، وبين أفراد أسرتي في مدينتي، قال الرئيس:
” الرسالة يا إخواني كانت فيها قطعة عيش ناشف ومعها حتة جبنة قديمة، وكام ساردينايه الرسالة اللي عايز يقولها الأخ المواطن البسيط اللي حدفها عليّ، واضحة وبسيطة ومؤلمة في نفس الوقت، الأخ عايز يقولي فين الثورة من الفقراء؟ وأنا بقوله ثورتكم قامت من أجل الفقراء والشرفاء في هذا البلد.
بعد سنوات كنت مُكلفاً بعمل سلسلة من البرامج الوثائقية عن تاريخ مصر والعرب وتاريخ ثورة يوليو ضمن سلسلة أفلام وثائقية أخذت لها عنواناً رئيسياً هو “سنوات التحدي والكبرياء” وسألت واحداً من أقرب معاوني الرئيس عبدالناصر وموضع ثقته، كان هو السيد سامي شرف أطال الله في عمره ومتعه بالصحة ” ماذا جرى للرجل الذي ألقى بالمنديل المحلاوي على قطار الرئيس؟
قال لي بالحرف:
” لقد كان السيد سعد زايد وقتها مُحافظاً لأسيوط ، وكان محافظاً سياسياً بامتياز، كان يعرف كل شئ في محافظته، عرف الرجل صاحب المنديل واستدعاه إلى مكتبه وعرف الكثير منه مباشرة، وجده فلاحاً مصرياً فصيحاً يعتدّ بنفسه ويتكلم بكل ثقة صاحب منطق قوي وتفسير مُقنع لما فعله، عّرفّ نفسه بأنه ” عامل تراحيل ” أي من الذين ينظفون مجاري المياه في التُرع والمصارف المائية على طول نهر النيل خلال فصل الشتاء حيث تجّف أفرع النهر من المياة، وتُسمىّ أيام التحاريق، حياة هذا الفلاح العامل غير المُنتظمة فقيرة بائسة.
رفع السيد سعد زايد الأمر في تقرير مفصل إلى الرئيس، قرأه عبد الناصر بامعان وتدقيق كان ناصر قد سبق مواطنه الفقير صاحب المنديل الشهير، فقد أعلن وفي خطابه الشهير في مدينة أسيوط ، ولأول مرة ” التأمين الاحتماعي والصحي على عمال التراحيل” وتحديد الحد الأدنى لراتب العامل في اليوم الواحد ب ” ٢٥ قرشا” وفق قوانين يوليو ٦١ وكان في ذلك الوقت مبلغاً معقولاً، وتلتزم الدولة بدفعها للعامل من مديريات الشؤون الإجتماعية في كل المحافظات أو الشركات التي يعمل بها هؤلاء العمال.
يحكي لي هذا المسئول الكبير، أن الرئيس وطوال رحلة العودة الى القاهرة وهو ينظر للفلاح في حقله يعمل بيديه وقدميه، تحدث إلينا موجهاً حديثه لكل الوزراء والمسئولين المرافقين له: بعد ١٣ سنة من الثورة لم تحقق الثورة هدفها بالقضاء على الفقر وحماية الفقراء لن يهدئ لي بال حتى نُحدّث الزراعة في مصر ونحافظ على حقوق الفلاحين والعمال، “يسكت الرئيس ويقول: “كل أملي في هذه الحياة قبل أن أموت أن تكون كل أسرة مصرية، كل أفرادها من الرجال والنساء يعملون لبناء حياة سعيدة وكريمة، نفسي يتعلم الأولاد ويتجوز البنات..