“لولو” التى رُزق بها “ليون” وهو على مشارف الستين من عمره، “لولو” التى ما فتئت تذكر صرخة أبيها على ظهر المركب المغادر من الإسكندرية إلى أرض غريبة.. الصرخة التى دوت ثم تلاشت إلا من ذاكرة الطفلة ذات الأربعة سنوات “رجعونا مصر”، محنة التشتت والانتقال من سكن إلى آخر.. سكن لم يرق أيهم لذاك الكائن بشارع الملكة نازلى (رمسيس حالياً).. وما كانت عليه مصر من أبهة حتى الستينات.. ليس فى الطَّرْز المعمارى وحسب وإنما فى الطَّرْز الأخلاقى.. الذى أستوعب أجناسا متباينة وديانات شتى بلا تعصب ولا تنمر ولا عنصرية.. فكانت علاقات العمل والجيرة والصداقة تصنع سيمفونية لا نشاز فيها..
“لولو” السورية الأصل ومسقط رأسها مصر ثم الهجرة أو الفرار إلى أمريكا فى مطلع ستينات القرن الماضى.. “لولو” اليهودية الديانة تسمع فى أمريكا ما تجزم بأنه لم يكن ليُوجه إليهم البته فى مصر.. صيحة جيرانهم الإيطاليين بهم “يهود أقذار”.. تحرشهم بهم والتكييل لهم غاضين طرفهم عما كانوا يحسبونه عشرة.. فكانت المرة الأولى التى تبكى وتظهر ضعفها علانية وهو ما كان ينظر إليه “ليون” على أنه عيب فى الشخصية لا يتسامح معه..
ومع استيائه منها ربما أكثر ممن وجهوا إليهم الإهانة صاح بها “لولو لا تبكى، لا تبكى أبداً أمام الغرباء”.. ونفس الشخص وبعد سنوات سيبكى ولكن أمام الطبيب.. سيبكى ويتذلل كى يتولى الدكتور “بيرتون لى” علاج ابنته “لولو” ذات الستة عشر عاماً وقد أصابها داء هودجكين وهو ما قد يودي بحياتها.. “ليون” لم يخضعه ضيق العيش من بعد رغده ولا مرض ساقه وألمها الذى يلازمه دوما” بعد ما تمتع بعافية مكنته الاغتراف من متع الحياة.. سهر ورقص وشرب بصحبة الجميلات وإنما أخضعته فقط أبوته.. هانت نفسه وتهاوى كبرياؤه لأجل صغيرته.
العائلة قبل كل شئ
على رأس قائمة الأولويات ولكلٍّ منها عميد بيده الحل والعقد والرجوع إليه أمر مفروغ منه “واللى مالوش كبير بيشتريله كبير” مثل مصرى وتحت مظلته عاش “ليون” لعقود محاطاً بأشقاء وشقيقات بزوجاتهم وأزواجهن وذريتهم من بنين وبنات.. وفى كنف والدته الحلبية “ظريفة” سيدة المطبخ المحيطة بأسراره والمؤمنة بقواه السحرية فى الشفاء من الأسقام حتى إنها أبهرت الطبيب بتعافى حفيدها “سالومون” والذى كان يقيم معها وخاله “ليون” فى القاهرة من داء الارتشاح وهو مرض خطير يصيب الرئة وقد يؤدى إلى الوفاة، ولاحقاً سيهاجر إلى إيطاليا فيصير له عائلة وتجارة.. ومن ثم وبعد ما يقارب العقدين سيكون فى استقبال “ليون” وعائلته بأحد موانئ إيطاليا فى رحلة بحثهم عن مستقر.. وسيعرض عليهم الإقامة وتقديم كل ما بوسعه من مساعدة ولكن خاله سيفضل الذهاب إلى فرنسا.
العائلة تبرر حتى وإن لم تغفر
فيتوسط “سالومون” لترتيب لقاء بين جدته “ظريفة” وابنها “سالومون الراهب”.. والذى ارتد عن دينهم بعد ما غادرهم واستقر به المقام فى القدس واختار لنفسه اسم “الأب جين مارى”، وتحن شقيقته “مارى” فترجح اختياره لاسم يتضمن فى مقطع منه اسمها إلى غلاوتها لديه لتصبح أول من ينهى القطيعة معه وترحب بزيارته لها ببيتها.
الأم لا تنسى بالمرة
“ألكسندرا” والدة “إيديث” لم تتجاوز حادثة ضياع طفلها والذى باعه زوجها مبرراً جريمته بعدم مقدرتهم على إعالته فى ظل ظروفهم المعيشية المتدنية.. ظلت تبحث عنه فى كل بلد وكل مدينة وكل شارع وكل وجه.. ظلت تبحث وتأمل حتى آخر أنفاسها، “إيديث” ظلت ترى الرضيعة التى فقدتها عن عمر ثمانية أيام على إثر أصابتها بحمى التيفود والتى أُطلق عليها اسم جدتها “ألكسندرا” فى ابنتها التى تلتها فكانت دائما ما تردد على مسامعها “لولو أنت بالطبع ألكسندرا” وهو ما يوهمها بأن طفلتها عادت للحياة على الأرض مرة أخرى.
أكثر من وجه للسجن
إيديث” والتى تصغر “ليون” بعشرين عاماً ومنذ زواجهما تخلت عن جناحيها.. دُجنت بترك عملها فى مدرسة قطاوى حيث كان عمل المتزوجة أمر مستهجن بحقبة الأربعينيات.. وكان سجنها الأول مطبخ “ظريفة” والذى لم تكن لتفقه فيه شيئاً واعتزلته قدر إستطاعتها لتعكف على قراءة كتبها فى حجرتها بمنزل شارع الملكة نازلى.. ثم كان هجران “ليون” لحجرتهما ليستقل بحجرته أيام كان عازباً ولينغمس من جديد فى حياة اللهو والسهر واللعب.. ورضخت “إيديث” وبدا لها اعتياد سجنها الانفرادى حتى كان وفاة الرضيعة “ألكسندرا” وردة فعل “ليون” التى كانت بمثابة دليل دامغ على أنانيته.. الأب الذى ما إن انتهت فترة الحداد حتى استأنف نشاطه الليلى دون الالتفات إليها هى الأم المكلومة.. “إيديث” زوجته التى لم يخطر بباله أن يخفف عنها.. أن يخرجها من القوقعة المغلقة التى انسحبت إليها.. لم يدعُها للخروج معه ولو لمرة.. فكان أن صرخت بإطلاق سراحها من سجنها.. فطلبت الطلاق من سجانها وهو ما يستحيل وقوعه بالطبع.. وعلى “إيديث” أن تواجه عقوبة السجن مدى الحياة بتقوقع أكثر.. وهو ما ستفعله حين يستقر بهم المقام فى أمريكا فيصبح لكلٍّ منهما حياة مستقلة.. نقطة لقائها الوحيدة الأزمات الصحية التى تتعرض لها صغيرتهما “لولو” بداية من مرض حمى خدش القطة ونهاية بمرض هودجكين.
الأبناء الأمهر فى اصطياد الأخطاء
أتسمت علاقة “سوزيت” بأبيها “ليون” بالتوتر والعناد والرفض على طول الخط.. هى بكريته التى تمنى لو كانت صبى فخطط لاحتفال كبير منتظراً قدومه.. وحين ناولته الداية الطفلة قالها غير مصدق “بنت! هذا مستحيل”.. أصابته خيبة أمل فهرع إلى المقهى تاركاً “إيديث” والطفلة وبقي خارج المنزل طوال الليل غير قادر على إخفاء فزعه وغير راغب فى مواجهة أمه “ظريفة”.. تلك القصة التى أطلعت “إيديث” “سوزيت” عليها فعدتها خطيئة أبيها الأولى بحقها إذ لم يفرح بمقدمها للحياة، ثم كانت خطيئته الثانية فى إطلاقه اسم “ظريفة” عليها تكريماً لأمه كما جرت عادة أهل حلب القديمة والتى تمنح الأب امتياز اختيار اسم مولوده الأول.. وهو الاسم التى ستظل “سوزيت” ترفض أن تُعرف به ولا تتورع عن لوم أبيها وتوبيخه على الدوام مطالبة إياه بمحوه من السجلات.
صاروا ابناءً للأرض الجديدة
ولا عزاء لأرض أنجبتهم وشهدت طفولتهم.. “سوزيت وسيزار وإيزاك” تأمركوا بالكامل.. نسوا ما كان من عادات شرقية ظل “ليون” على تمسكه بها أينما حل.. هجروا المنزل واستقلوا بحياتهم وبالطبع كانت “سوزيت” أول من تمردت غير ملتفته لثورة أبيها واعتباره تصرفها جالباً العار على عائلتهم.. وحتى طقوسهم الدينية والصلاة التى كان يدعوهم أبوهم لأدائها فيلبون على مضض ثم صاروا يتملصون حتى انتهى بهم الأمر بتركها، وأمور أخرى، إلى غير رجعة.
العودة إلى أيام ولت
حين زارت “لولو” القاهرة بصحبة زوجها فى العام 2005 .. وفى المنزل الكائن بشارع الملكة نازلي والذى لم يعد أحد يذكر اسمه القديم ولا سمته الذى تغير تماماً.. ثمة طفلة تسأل عن قطة تركتها منذ ما يقارب الأربعين عاماً.. “بسبس” التى شاركتها دروس اللغة العربية.. تلك التى أعطاها “ليون” إياها بصبر بالغ وبينما هى تجلس بحجره وتستند إلى كتفه يغمرها أمان عاودها حين استقبلتها جارتهم بالطابق العلوى وعرضت عليها الإقامة معها بشقتها طوال فترة تواجدها بمصر.. وأخيراً وجدت “لولو” ما يبرر احتفاظ أبيها، ومنذ غادر، بحقيبة صغيرة استعدادا للعودة.