لا تدور عقارب الساعات إلى الخلف، ولا تستعيد أماكن البهجة أزمانها، فلكل عصر نجومه، ولكل وقت أنواره.
وعلى الرغم من هذه الحقيقة المُحزنة، فقد سعى مثقفون ومعماريون مصريون مؤخرا إلى تدشين حملة شعبية بالقاهرة لاستعادة رونق أضخم عمارة في تاريخ البناء الحديث في مصر، والتي تحمل اسم “الإيموبيليا”.
وأثار استبعاد مشروع التنسيق الحضاري (الحكومي) والمسئول عن ترميم وتجديد مباني القاهرة القديمة- مبنى الإيموبيليا من أعماله، بسبب ارتفاع التكلفة، حزن الأوساط الثقافية والفنية بالقاهرة وشجنها؛ فبادر عدد من الفنانين والكتاب إلى اطلاق دعوة للتبرع لتجديد البناء وفقا لمخططه الأول وقت الإنشاء قبل ثمانين عاما.
بالطبع لم تكن عظمة المعمار، وجمال المبنى، وروعته، وقدمه هو دافع الحملة، وإنما تعلق الأمرأكثر بما تعكسه العمارة الكبيرة من أهمية تاريخية ترتبط بالمجتمع والفن والثقافة بشكل عام؛ حيث ظل المبنى على مدى عقود طويلة محل سكن وحياة ونهايات نجوم ومشاهير كُثر.
كما شهدت العمارة الضخمة التي صممها معماريون طليان وفرنسيون، وشارك في بنائها مقاولون،عمال، وفنيون مصريون وشوام وأجانب حكايات مثيرة وقصصا غريبة من تاريخ الفن والثقافة والسياسة المصرية.
رمز للنخبة القديمة
وقال الكاتب والمؤرخ يحيي وجدي رئيس تحرير مجلة “منطقتي” وأحد المشاركين في الحملة لـ “أصوات أونلاين” إن عمارة الإيموبيليا تعكس جزءا مهما من تاريخ مصر الحديث، وتمثل نموذجا للتعايش الثقافي والفني بين المعمار الأوروبي والبيئة المصرية.
فضلا عن ذلك فهي رمز شديد الوضوح لطبقة من المصريين كانوا في وقت من الأوقات يحتلون صدارة المشهد لنجاحاتهم في دنيا الفن، الأدب، والاستثمار على السواء.
وأكد أنه تم استبعاد عمارة الإيموبيليا من الترميم والتجديد نظرا لضخامة التكاليف المفترضة، فضلا عن صعوبة إلزام الملاك، وهم إما الشركة الحكومية التي آلت إليها الملكية العامة للعمارة سنة 1961 بعد تأميم ممتلكات “عبود” باشا وهي شركة الشمس للإسكان والتعمير، وإما أفراد ورثوا بعض الوحدات عن آبائهم وفي الغالب هجروها.
وأوضح” وجدي” أن العمارة مثلت في وقت من الأوقات نموذج للحداثة المصرية إذ كتب إسماعيل صدقي رئيس وزراء مصر الأسبق ( 1875ـ1950) عنها في مجلة العمارة سنة 1941 باعتبارها نقلة عظيمة لمجتمع كامل ليس في فن العمارة فقط، وإنما في الحياة الحديثة أيضا، خاصة أنها ضمت لأول مرة أنابيب للقمامة تتصل بكل وحدة سكنية عن طريق المطبخ، لتصب في مكان مركزي يتم فيه إحراقها بشكل مأمون لتخدم نظام تدفئة مركزي للعمارة بالكامل.
أضاف أن الرفاهية تحققت من خلال أنابيب تتصل بكل شقة يتم من خلالها إرسال البريد لكل شخص.
تغيرات الزمن
وتقع عمارة الإيموبليا في شارع شريف باشا بوسط القاهرة، تحت رقمي 26 و28 ،إذ تمتد على برجين منفصلين بمساحة إجمالية تقدر بـ5400 مترا مربعا، وهي بذلك أكبر عمارة في عمائر القاهرة.
ولا يتصور زائر اليوم أن ذلك البناء الذي أمر ببنائه أغنى رجل في مصر سنة 1938 هو أحمد باشا عبود، هو ذاته المبنى المهمل الآن بواجهاته التي فقدت طلاءها، والقديم بمداخله الواسعة المُهملة، وجدرانه الباهتة المغطاة بالأتربة، والمستبعد من التجديد رغم ترميم مبان عدة حوله.
كما لا يصدق العابرون تلك المعلومات التي ترد في كتب عديدة بشأن قصة بناء العمارة، إذ فكر عبود باشا في بناء صرح يبقى كأكبر وأفخم سكن في الشرق، فأسس شركة حملت اسم “الشركة العقارية العمومية بمصر” واختصارها “الإيموبيليا” واستعان بسياسي كبير هو اسماعيل باشا صدقي، سبق أن تولى رئاسة وزراء مصر ليعينه رئيسا لمجلس إدارتها، ثُم استعان بأفضل الفنيين والمعماريين والمقاولين في مصر، بعد أن قام بشراء مقر السفارة الفرنسية بالقاهرة، ليهدمه تماما استعدادا للبناء الحلم.
وتمضي الحكاية كما يوردها كتاب “عمارة الإيموبيليا” للكاتب الصحفي محمود معروف، والصادر في فبراير 2010 لتقوم الشركة بالإعلان عن مسابقة لأفضل تصميم لبناء سكني عالمي فريد. وتضمنت الشروط أن يشمل البناء بدروم علوي لاستعمال المحلات وطابق أرضي للمكاتب وتسع طوابق للسكن وشقق وفيلات بأدوار تعلوها غرف عليا ومغاسل ومرافق على الأسطح على أن تشمل العمارة كافة وسائل الراحة والرفاهية من أدوات صحية ومصاعد وأنابيب مياة ساخنة وباردة وكهرباء وتوزيع خفي لأسلاك التليفونات ومسارات لأجهزة الراديو وروافع للبضائع والاثاث وسلالم للخدم وأنابيب للتخلص من القمامة فضلا عن أماكن لأجهزة تكييف. وبالفعل تقدم 25 مهندس بعروض متنوعة للتصميم وشكلت لجنة عليا ضمت وزراء وفنيين للنظر في العروض وتم اختيار مشروع تقدم به مهندسان هما الفرنسي ماكس إدرعي، والإيطالي جاستون روسي.
وكان للمهندس الفرنسي ماكس إدرعي تصميمات لمباني أخرى شهيرة في مصر أبرزها سينما راديو، المستشفى الفرنسي، وفيلا شيكوريل بالإسكندرية. كذلك فإن المهندس الإيطالي جاستون روسي صمم مباني عديدة خلال الحقبة الملكية كان أبرزها سينما مترو، نادي السيارات، سينما قصر النيل، وجامع كوم امبو.
واستمرت أعمال البناء لنحو عامين شارك فيها عمال مصريون وفنيون من مصر والشام، تحت إشراف مهندسين من مختلف دول العالم.
وبنيت العمارة على أوتاد تتحمل الارتفاعات وبلغ عمق كل وتد نحو 15 مترا تحت مستوى الشارع. وضم المبنى بدروم سفلي وبه جراج وآخر جراج علوي ومخازن وطابق صغير متوسط وطابق أرضي و10 طوابق متصلة و3 طوابق على السطح في الجانب الجنوبي. أما الشمالي فضم 9 طوابق متصلة وطابقين على السطح.
بالطبع غيّر الزمن عناصر الإبهار، إذ تبدو العمارة الآن قديمة بلونها الباهت، وظهر الإهمال واضحا على كثير من شرفات ونوافذ الشقق العلوية، أما المدخلان فقد تم تجديدهما وظهر باب المدخل القبلي والبحري كل منهما مغطى بصفائح حديدية يعلوها زجاج مدون عليه اسم العمارة، كما بدت واضحة كلمة “الإيموبيليا” مكتوبة على الرخام الأرضي بعد الدخول إلى البناء، وهو رخام لم يتغير منذ زمن الإنشاء.
ودفعت تغيرات الزمن كثير من مالكي الوحدات السكنية إلى تأجيرها لتصبح مكاتب تجارية، ومحاماة، وشركات خاصة في ظل الزحام والضجيج بمنطقة وسط البلد.
مكان مميز
وذكر المؤرخ أحمد كمالي رئيس تحرير مجلة “أيام مصرية ” أن موقع العمارة كان الأكثر تمييزا بين عمارات مصر الملكية خاصة أنها كانت قريبة من مقر الحكم في قصر عابدين، ومقر البورصة المصرية، فضلا عن وقوعها على بعد خطوات من أول مقر للإذاعة المصرية والمعروف بإذاعة الشريفين.
وساهم كل ذلك في أن تصبح العمارة محط إهتمام الطبقة الأرستقراطية والمشاهير للسكن فيها، لذا فقد سكنها من أهل الفن نجيب الريحاني، أنور وجدي، ليلي مراد، محمد فوزي، كاميليا، وأحمد سالم. وعاش فيها لعدة سنوات الموسيقار محمد عبد الوهاب، عبد الحليم حافظ، والكاتب المسرحي توفيق الحكيم، والسياسي فكري أباظة.
وفي هذه العمارة ولدت مشروعات فنية عظيمة كان أبرزها فيلم “غزل البنات” سنة 1949 وهو آخر عمل فني يشارك فيه الفنان نجيب الريحاني، من بطولة ليلي مراد، وأنور وجدي ويوسف وهبي، ففي مصعد العمارة التقت ليلي مراد بالريحاني وطلبت منه أن يشاركها في تمثيل فيلم جديد ليصبح أحد أنجح أفلامها.
وفيها أيضا اتخذت نقابة الصحافيين المصريين أول مقر لها بالقاهرة بعد تأسيسها في مارس سنة 1941، كما إستأجرت وكالة رويترز للأنباء أول مقراتها بعمارة النخبة وقتها.
فضلا عن ذلك فقد ضمت مشاهير الأطباء مثل محمد عبد الحليم العقبي أول من تخصص في علاج أمراض العقم ، وغبراهيم عبود، وحسن أبو خطوة، وغيرهم.
وتضم العمارة 350 شقة و48 محل تجاري و16 مصعدا وبأسفلها جراج ضخم بمساحة 2200 متر مربع وبعمق ثلاثة طوابق.
حكايات الإثارة والغموض
وقال علي محمد أحد بوابي العمارة إن المبني يكاد يخلو من السكان تماما بعد الساعة الخامسة، إذ يغادر معظم الموظفين والعاملين في المكاتب، ولا يوجد سوى عدد محدود من الشقق السكنية ومعظمها أغلقه الورثة بعد وفاة المالكين الأوائل.
وتابع حاكيا أن هجران المبنى ساعد على انتشار حكايات غرائبية حول أصوات لأناس أجانب يتحدثون ويحتفلون بأعيادهم في المساء، وهو ما يربطه البعض بحدوث جرائم قتل شهيرة في العمارة منذ عدة سنوات.
وربما كان ذلك ما شجع المخرج خالد الحجر إلى تقديم فيلم قبل عامين حمل اسم”جريمة في الإيموبيليا” ذكر أنه مستوحى من قصة جريمة حقيقية حدثت في العمارة الشهيرة سنة 1995. والمثير في الفيلم أنه ركز على العمارة التي عاش فيها لبضعة سنوات المخرج خالد مرعي نفسه باعتبارها موقع خوف وإثارة وغموض.
ومثل حكاية الفيلم تتنوع حكايات شتى مبعثرة بين صفحات كُتب ومجلات قديمة وحديثة حول تعرض كثير من سكان العمارة لمآسي ونهايات مؤسفة، منها على سبيل المثال الفنانة كاميليا التي لقت مصرعها في حادث سقوط طائرة سنة 1950، وقد ذكر البعض بعد وفاتها أنها كانت على علاقة تجسس بإسرائيل وهو مالم يقم عليه أي دليل تاريخي موثق.
كما عاش في العمارة الملحن الشهير محمد فوزي الذي انتهت حياته الفنية بقرار تأميم شركته للإنتاج الفني؛ ما أصابه بمرض نادر رحل على إثره سريعا.
فضلا عن النهاية المأساوية لمالك العمارة نفسه، عبود باشا، الذي تمت مصادرة ممتلكاته وهرب من مصر بعد ثورة 23 يوليو، ومات بالغربة وفشلت ابنته في إعادة جثمانه ليدفن في مصر.
وقال الكاتب يحيي وجدي إن كثيرا من الأساطير المذكورة حول سكان العمارة تحمل مبالغات ومحاولات متعمدة للإثارة.. وأوضح أن بعض الوقائع لا تستند إلى أية شهادات يمكن الوثوق بها، ومن ذلك مثلا ما ذكره محمود معروف في كتاب “الإيموبيليا” بأن الملك فاروق كان يذهب متخفيا إلى شقة الفنانة كاميليا بالعمارة، إذ أن المنطقي أن تذهب هي إليه أو أن يتم اللقاء في أي مكان آخر.
كذلك فقد حكى “معروف” أن الأميرة شويكار عمة الملك فاروق (توفيت سنة 1947) كانت تتردد على إحدى الشقق في العمارة للعب القمار، وهو قول لم يستند إلى مصدر موثوق به، خاصة أن عمال العمارة وبوابيها تم تغييرهم جميعا بعد تأميم المبنى سنة 1961.
ورأى أن حكايات العمارة تبقى مجرد حكايات ترتبط أكثر بمشاهير في الفن والسياسة والثقافة، وهو ما كان يمثِّل طبقة النخبة في مصر خلال الفترة الملكية. ولفت إلى أن تجميل العمارة وترميمها هو ترميم لجزء من التاريخ الجميل للثقافة والفنون.