فن

محمد منير.. نصف قرن من الغناء “البديل” (2-2)

 

بمنتهى الطمأنينة نستطيع أن نؤكد أن المشروع الغنائى الذى يمثله “محمد منير” والذى يقترب من النصف قرن هو المشروع الأهم والأكثر جدلا في الساحة الموسيقية منذ ظهر هذا الفتى الأسمر النحيف في عام 1977 بألبوم لم يحقق النجاح المأمول “علموني عنيكي ”

والمؤكد أيضا أن هذا المشروع شارك في صنعه عدد من الموسيقيين والشعراء وتكاتفوا بإخلاص لأنهم وجدوا في صوت منير أحلامهم ومشاعرهم المختلطة ما بين الإحباط والكآبه وبين الحلم والتمرد والرغبة في تغيير العالم ..

ربما كانت هذه هى مشاعر جيل بأكمله… جيل انتصر في الحرب وبالرغم من ذلك عرف الإحباط بعدها وانكسر نفسيا وعانى عاطفيا وارتبكت أفكاره ..

شركاء منير كانت تجمعهم كل تلك المشاعر المختلطة والمتداخلة ….

بعد ألبومه الأول جاب منير المحافل الثقافيه والفكرية في حضرة مجدي نجيب وعبد الرحيم منصور ولعبت تلك التجمعات دورا مهما في تشكيل وعي الشاب الصغير وانحيازاته واختياراته الفنية …

امتلك منير طموحا بلا حدود و طاقة هائلة للتحدي وكان شركاء المسيرة يدركون حجم موهبته الكبير ويوجهون طوفان الصوت العذب في اتجاه يتحقق من خلاله..

رفاق المسيرة وأزماتهم

في 1979 كان يحيى خليل عائدا من الولايات المتحدة بعد رحلة استمرت 15 عاما.. عاد بعد أن تعلم وعزف موسيقى الغرب وبدأ في نشر موسيقى الجاز في مصر وكان الشباب يبحثون عن حالة موسيقية مختلفة تعبر عنهم وعن قلقهم المتزايد وأحلامهم المؤجلة فكان لقاء “منير ويحيى” شديد الأهميه وقدم كلاهما، بالتعاون مع شركاء المشروع الرئيسين “عبد الرحيم منصور وأحمد منيب ومجدي نجيب بالإضافة طبعا للموسيقار هاني شنودة ” قدموا عددا من الألبومات التي وضعت منير في مكانة خاصة وجعلته معبرا عن مرحلة مهمة في مسيرة الغناء وحاملا لواء الموسيقى لأجيال  متتالية من الشباب.

كانت ألبومات “بنتولد ” 1978 و”شبابيك” 1981 والذى يمثل أحد أهم البومات منير وأكثرها توزيعا في تلك المرحلة وساهم ” شبابيك “في تبلور شخصية منير ووضعه في منطقة الغناء “البديل” الذى حقق جماهيرية كبيرة للغاية؛ حيث حقق رقم توزيع استثنائى في ذلك الوقت بلغ 400 ألف نسخة وقد كان “شبابيك” هو أول تعاون بين “منير” و”يحيى خليل”.

https://www.youtube.com/watch?v=9I_QcIzMHNk&

ويواصل منير في “اتكلمى” 1983 و”بريء” 1986 و”وسط الدايرة” 1987″ تعاونه مع “يحيى خليل” ولا يمكن إنكار الدور الكبير الذى لعبه “خليل” في الترويج لمنير سواء داخل مصر أو خارجها …

لكن خلافا قد نشب أدى للانفصال الفني بينهما ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل امتد لتراشق إعلامي فيما بينهما؛ حيث قال “خليل” في حوار مع صحيفة الجمهورية عام ١٩٩٠: “إن النجاح الذي حققه منير معي كان أكبر من حجمه، فاختل توازنه وجعله يتصوّر أنه كل شيء في هذا النجاح ”

ولم يصمت منير طبعا فبادل صديقه القديم الهجوم وهذا ما دفع “هاني شنودة ” إلى التأكيد في كتابه “مذكراتى” الذى يتناول به  سيرته الذاتية إلى القول “كنت سعيدًا بنجاح منير وانتشاره مع يحيى خليل لأنني اعتبرت نجاح منير نجاحًا لى، صوت منير كان قطعة من روحي شكّلتُها وتابعتُ خطواتها، أنا لي في منير نصيب لا يمكن أن يغفله أحد، ولهذا أتعجب ممن ينسبون مشروع منير إلى يحيى خليل فقط، ربما هو مَن روّج لذلك.. الله أعلم!

ولكن الصدام بين يحيى ومنير كان متوقعًا، وهو الصدام التقليدي بين النجومية وشركائها، خصوصًا لو كان كلا الشخصين يرى أنه صاحب النجاح”

مرحلة ما بعد يحيى خليل

بدأ “منير” مرحلة جديدة دون “يحيى خليل” ويظهر أول ألبوم “وسط الدايرة” دون اسم فرقة عازف الجاز الأول في مصر وبعده تبدو المرحله المقبلة قد تبلورت خلال ألبوم “شيكولاتة ” 1989 الذى تعاون فيه “منير” مع “عبد الرحمن الأبنودي” فقدم له الأبنودي معطم أغنياته وظهر تعاون أيضا مع الملحن الكبير كمال الطويل الذي كان قد اعتزل التلحين مما اعتبره “منير” مكسبا عظيما حين وافق “الطويل” أن يقدم له أغنية “مش بريء” و”بره الشبابيك ” وبعده أصدر منير ألبوم “يا اسكندرية” عام1990 الذي يمثل نقلة كبيرة من حيث الانتشار في تلك المرحلة وشهد تعاونا مع “أحمد فؤاد نجم” وأعاد تقديم عدد من الأغنيات التي غناها “الشيخ إمام عيسى” منها يا اسكندرية وبلح أبريم إضافة إلى غناء كلمات للشاعر الرائد “صلاح جاهين”.

كان منير فى تلك المرحلة يرى أن عليه تقديم نفسه كمطرب للوطن ليس فقط لجيل أو لفئة وسعى لتنويع مصادر أعماله بشكل واسع بعيدا عن قيود رفاق المسيرة ومؤسسي المشروع، ولا مانع من الاستعانة بهم كل حين

خاصة بعد رحيل “عبد الرحيم منصور”1981 ومن بعده “أحمد منيب” فى 1991 مع ابتعاد “هاني شنودة ” فصار منير غريبا أو مغتربا ..

البعض يرى أن هذه الغربة كانت إرادية وأن غياب مؤسسي المشروع دفع منير، بلا حرج، أن يغير من ملامحه الفنية ويصبح أكثر انفتاحا؛ ربما تجلى ذلك في ألبوماته فيما بعد ذلك وتعاونه مع شعراء كثر وملحنين شباب، لكن المؤكد أن تجربته مع الشاعرة “كوثر مصطفى” التي قدمت معه عددا كبيرا من الأغنيات، من بينها “العالي يابا” و”النيل” و”يا ليالي” و”أخرج م البيبان الحر الضيقة” و”في بلد البنات” و”ساح يا بداح” و”مدد يا رسول الله” و”بكار” وغيرها (ما يزيد عن 25 أغنية).. وكذلك تعاونه مع الملحن “وجيه عزيز” فهما كانا الأهم والأقرب إلى روح مشروع منير بعد الرفاق الأوائل.

السينما …..  حدوته مصرية

قدمت السينما للمغني “محمد منير” إضافة بالغة وفارقة في مسيرته بالرغم من رأي بعض النقاد حول تواضعه كممثل، شأنه كشأن الغالبية العظمى من المغنين، لكن منير أكثرهم حظا خاصة في نوعية الأعمال التي قدمها خلال مسيرتة في السينما التي تصل لأحد عشر فيلما روائيا طويلا.

كان منير يمثل لدى الوجدان العام صوتا يحمل رسالة فكرية ليس مجرد مغن يدغدغ المشاعر والعواطف لكن ارتباطه بكلمات مجدي نجيب ومنصور وسيد حجاب وغيرهم جعل منه مغنيا محرضا بكل ما تحمله الكلمة من بُعْد جمالي أو فكري وربما هذا هو الدافع وراء اختيار “يوسف شاهين” له في فيلم “حدوته مصرية” عام 1982 ولنا أن ندرك تأثير تلك البداية القوية لمنير في السينما وأهمية ما قدمه من أغنيات – خاصة في افلام يوسف شاهين (المصير – اليوم السادس) وقدم خلالها عدد من الأغنيات التى تحولت إلى أيقونات مثل “حدوتة مصرية” و”على صوتك بالغنا ”

كما أنه المغني الوحيد من أبناء جيله والأجيال التالية الذى وقف يمثل أمام فاتن حمامة في “يوم حلو ويوم مر”

وشارك في أحد أهم أفلام “إنعام محمد علي” حكايات الغريب الذي تضمن عددا من الأغنيات التى تتفق تماما مع مشروع منير وروحه الفنية.

منير …. صوت مصر

تحول منير إلى أيقونة لدى ملايين الشباب وربما هذا ما زاد من تمكسه بالتغيير سواء في اختيار كلماته أو موسيقاه وسعى خلال السنوات الأخيرة إلى الحفاظ على مكانته لدى ملايين من الشباب – العادي – الذي يفتنه صوت منير وتراثه النوبي وأغنياته العاطفية- “لما النسيم” نموذجا

وصار من الطبيعي أن تسمع صوت منير في العشوائيات وبين رواد الساحل الشمالي إلى جانب عمرو دياب.. هذا ما كان يتنماه منير دوما

أن تصل أغنياته للجميع…. ولا يكون حبيسا بذاكرة الشباب من السياسين أو المثقفين ورواد المنتديات الفكرية والفنية وحدهم.

و سعى، منذ سنوات، إلى أن يصبح أهم مغن للمصريين وقد تحقق له ذلك بدرجة كبيرة ومُنح منير ألقابا عديدة من أهما “الكينج” الذي لقبه به عشاقه الذين تحولوا ل “أولتراس” ليصبح أول مغن عربي يكون له كيان كهذا كما منح لقب “صوت مصر” وغيرها من الألقاب.

فى يوم مولده العاشر من أكتوبر 1954بعد رحلة طويلة ومليئة بالغناء الملهِم الآسر؛ يظل “محمد منير” يمثل مرحلة غنائية وموسيقية كاملة وتجربة ثرية ومؤسسة فريدة ورسالة شديدة الألق والتميز في مجملها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock