اتهامات متبادلة بين أهل الإبداع وأهل النقد تجعلهما طرفي صراع غير حقيقي بالتنافر، وتباين الرؤى، ما يُمثل خصما من استقرار الإبداع وانتعاش الحياة الثقافية.
يرى بعض المبدعين أن النقاد يمارسون دور وصاية على الأدب، وأنهم لا يلتفتون إلى أعمال المبدعين الجدد ويدورون في فلك مجموعات محدودة من الأدباء من ذوي الأسماء المعروفة ولا يعيرون غيرها الاهتمام الكافي. كذلك هم يتحدثون بلغة صعبة معقدة، تغلب عليها سمة الأكاديمية مع تعمد تقعير اللغة، ومن ثم يصعب على الأدباء فهمها وتلقيها.
أما النقاد، على الجانب الآخر، فيرون أن سوق الأدب مزدحم بالغث والثمين، وهناك صعوبة في متابعة كل ما يُنشر والإلمام به وتحديد ما يستحق التقييم والنقد، من غيره الذي لا يمكن اعتباره إبداعا. ويعتقدون أنهم ليس منوطا بهم اللهاث وراء الأدباء للتعرف على كتاباتهم وتقييمها، وإنما يجب النظر إليهم باعتبارهم علامات إضاءة في طريق الإبداع.
عودة صالونات الثقافة
ويطرح الروائي فتحي إمبابي تصورا عمليا للتلاقي بين الجانبين من خلال فكرة الصالونات الثقافية، ما يثري الإبداع ويساهم في توسيع مدارك المبدعين، وتحقيق حالة من التماس والتناغم بين الحركتين الإبداعية والنقدية.
ويقوم تصوره على إنشاء حلقات محدودة للمبدعين، يجتمعون معا بشكل دوري لقراءة نصوص إبداعية لا خلاف على جودتها ونقدها بشكل علمي يفيد المُبدع بعيدا عن فكرة الترويج والتسويق، وبمشاركة أهل النقد المشهود لهم بالتميز والكفاءة العلمية. فضلا عن عمل محاضرات توعية للمبدعين تركز على تطور حركة النقد في العالم خلال السنوات الأخيرة، خاصة أن كثيرا من المبدعين يقفون في معرفتهم بحركة النقد عند مستوى الرواد الأوائل.
ويقول إمبابي لـ”أصوات أون لاين” إن المبدع والناقد لا يجب أن يتناقضا، وإنما يكمل أحدهما الآخر إذ لا يمكن لطرف أن يعمل بمعزل عن الآخر.
وإذا كان كثير من الأدباء يتصورون أن مصطلحات النقد معقدة، وأن لغة النقاد صعبة، فإن فتحي إمبابي يرى أن مهمة الصالونات الأدبية الخاصة مثل الصالون الذي أسسه قبل سنوات وساتمر حتى عزلة الجائحة باسم “سحر الرواية”، هي تبسيط تلك اللغة وتوصيل مفهوم الحركة النقدية بتطوراتها إلى المبدع.
إن الممثل الأمريكي فرانك كلارك كان يقول”إن النقد مثل المطر ينبغي أن يكون يسيراً بما يكفي ليغذي نمو الانسان دون أن يدمر جذوره”، وبنفس المنطق يقول إمبابي إن توصيل تطورات الحركة النقدية العالمية للمبدعين، روائيين، كُتاب قصص، وشعراء يجب أن يتسم باليسر والسهولة.
وفي اعتقاده، فإننا في حاجة لكتب توعية نقدية مكتوبة بسلاسة تتناسب مع غير المتخصصين، وتقدم لهم محاولات لفهم تطور الحركة النقدية إلى الحداثة وما بعدها.
واقع مشترك
ويؤكد الدكتور يسري عبد الله أستاذ النقد الأدبي بجامعة حلوان، أن إلمام المبدعين بحركة النقد الأدبي عالميا يساهم في تحفيزهم نحو المزيد من الإجادة والتميز ودفعهم نحو تشكيل رؤية للعالم تمثل الجوهر الحقيقي لإبداعهم.
ويقول الرجل لـ”أصوات أونلاين” إن الرواية والنقد يحتفيان بالمنطق الديمقراطي في السرد والقراءة، فالنص الأدبي بوصفه جماعا لنصوص سابقة أفاد منها وأخذ عنها وتجاوزها على حد قول جوليا كريستيفا، وكذلك الخطاب النقدي بوصفه قراءة لا نهائية تتجدد بتجدد التأويل واختلاف القراءات.
إن النقد في تصوره يبدأ من كونه تمييزا بين الجيد والرديء، وهو قائم في الثقافة العربية منذ القدم حين كان الشاعر النابغة الذبياني يجلس في سوق عكاظ يستمع للشعراء، ويقول هذا شعر جيد، وهذا شعر رديء، وهو وسيلة ضرورية لإثراء حركة الإبداع والفن.
ويلفت عبد الله النظر إلى أن العلاقة بين الرواية والواقع هي علاقة ذات طابع جدلي، ولذا فإن الرواية تبدو في تجلٍّ من تجلياتها إدراكا جماليا للواقع، ومحاولة لاكتناه الداخل الثري فيه، ولذا فإن الروائي يتعاطى مع الواقع بوصفه مادة خاما تحمل من الاتساع والتنوع ما في الواقع ذاته من خصوبة واختلاف، ومن ثم فهو يختار منه ما يشاء، ثم يعيد تشكيل هذه المفردات وتطويعها وفقًا لرؤيته للعالم. وهنا فإن ثمة دورًا مسئولا، وتاريخيا يجب على النقد أن يمارسه الآن، بوصفه عطاءً من عطاءات الواقع الرحبة، وخطابا علميا يمثل رؤية للعالم والنص والواقع والأشياء، يستفيد من الفلسفة وعلم الجمال ولا يمكن أن ينهض دونهما.
تبسيط لغة الحوار
ويرى البعض أن لغة التواصل تلعب دورا كبيرا في تقريب المسافات بين المبدعين والنقاد. وتقول الدكتورة هويدا صالح الناقدة بأكاديمية الفنون بالقاهرة لـ”أصوات أونلاين” إن هناك عدة مستويات لطرح النقد إلى المتلقين، منها مستوى الجمهور العام، وذلك يكون في الندوات العامة، وحفلات التوقيع، وفيه يكون النقد أشبه بقراءة صحفية ملخصة تخلو من المصطلحات والنظريات. وهناك مستوى آخر خاص بالأدباء والمبدعين، وفيه تتبسط لغة النقد لكنها تتسم بالرصانة والتركيز.وهناك مستوى آخر هو المستوى الأكاديمي وفيه يطرح النقد بشكله العلمي التنظيري والذي يصعب على المتلقين سواء جمهورا عاما أو مبدعين استيعابه.
وتلفت إلى ضرورة أن يتناسب كل طرح مع مستوى التلقي، لذا فإن على النقاد المشاركين في صالونات المبدعين تبسيط خطابهم والتجاوب مع تساؤلات المبدعين ومناقشاتهم بعيدا عن التنظير الاستعراضي حتى يتحقق الهدف من الحوار ويفيد كلا الطرفين.
وتؤكد هويدا صالح أن الروائي أو الشاعر يجب أن يكون على إلمام ووعي بكثير من المعارف الإنسانية مثل النقد والفلسفة وعلم الجمال، ما يؤكد أنه مدعو للقراءة والاطلاع على تطورات الحركة النقدية في العالم بشكل عام.
وترى أن تعبيد الطريق وتمهيده بين الإبداع والنقد ممكن لكن بشروط، أولها تبسيط لغة الحوار والبعد عن الإغراق في المصطلحات الأكاديمية، والقدرة على تجاوز فكرة الوصاية التي قد يمارسها بعض النقاد على المبدعين، مع عدم تعالي أي طرف على الآخر، مقررة أن انتعاش الحركة النقدية يصُب في مصلحة الإبداع، والعكس.