تطور فن الرواية بسرعة فائقة، بتجاوزه فكرة الحكي، وامتلك خلال مشواره الإبداعي العديد من الأدوات السردية ماسمح له بأن يُصهر العلوم الإنسانية في سبيكته بما يخدم تطوره، مستغلا قدرته على القفز من فوق الحواجز العلمية لإنتاج عالمه الخاص المنطقي أو اللامنطقي على حد سواء
“أصوات” ترصد في هذا الاستطلاع علاقة فن الرواية بعلم الفلسفة، من زوايا عديدة وتحاول الإجابة على الكثير من الأسئلة في هذا السياق.
د.سهير المصادفة: الرواية.. كتاب الحياة
تعتبر الرواية الآن وفي العالم بأكمله: “كتاب الحياة”، حيث إنها استوعبت الفلسفة والعلوم وعلم النفس والفنون والشعر والأغاني والسينما والفن التشكيلي والموسيقى وأساطير الشعوب وحكاياتهم الشعبية الشهيرة.
أتفق مع الروائي الشهير “يوسا” حين قال إن الروائيين الكبار قصدوا أن يحكوا الحكايات فجاءت رواياتهم محملة بالفلسفة. فتعريف الفلسفة الأولي هو تناول أسئلة الوجود الكبرى، وماهية الخلق، وطبيعة العقل الإنساني واللغة والفكر والأخلاق والمعرفة، ولن نجد رواية كبرى إلا وهي تدور في هذه الفضاءات بل أكثر منها أيضًا.
في منتصف القرن العشرين، كان يمكننا ببساطة تحديد الروايات المهمة التي ابتعلت نظريات فلسفية بعينها، وذلك عندما كانت هناك نظريات فلسفية كبرى، أثرت على العالم وألقت ظلالها عليه؛ سياسيًّا واقتصاديًّا وجغرافيًّا، مثل الوجودية والماركسية والعبثية… كان يمكننا ببساطة أن نضع كافكا أو ألبير كامي أو جوركي، كل منهم في المدرسة الفلسفية التي ابتلعتها رواياته، ولكن مع نهايات القرن العشرين، ومع أفول ما يُسمى بالنظريات الفلسفية الكبرى، واتساع العالم وازدياد علاقاته تعقيدا خصوصًا بعد الثورة التكنولوجية، أصبحت الرواية ــ كما أظن ــ مصدرًا مهمًا من مصادر الفلسفة للباحثين.
في رواياتي أبطال يناطحون مَن بيدهم مقدرات المجتمع، ينهزمون تارة وينتصرون تارة، ويعانون من عثرات الطريق بحثًّا عن هواء يتنفسون فيه بحرية، وأيضًا هؤلاء الذين يمتلكون الحاضر والماضي والمستقبل ويتبنون الشر بعد أن تعددت أوجهه، وصار في بعض الأحيان جميلًا ومغويًّا مثل الخير تمامًا، جميعهم يسائلون أقدارهم وهم مستسلمون لها أو متمردون عليها، فيها المثالي الذي يخبط رأسه في الحائط لكي يتأكد أنه حائط خرساني، وفيها البرجماتي الذي يواصل طريقه راقصًا بخفة حتى النهاية، وفيها مَن ظَلموا أو ظُلموا دون أن يستطيعوا حتى الشكوى.
فأبطال الروايات الكبرى هم متورطون بالطبع في الأسئلة الوجودية الكبرى، يحاولون عبر أحلامهم ورؤاهم وإمكاناتهم المحدودة تجاوز واقعهم، والارتقاء به إلى آفاق أرحب، هم يتعثرون في أساطير الماضي ويستشرفون المستقبل ويضربون بجذورهم في الحاضر ليزدهر. يتوقفون عادة أمام الموت فاغري الأفواه، طارحين أسئلتهم حول الخلق والخلود والروح والجسد والصدق والعدالة والمحبة والفقد والجمال، ومقام الفناء ومقام البقاء، يقيمون علاقات شائكة مع الطبيعة حولهم؛ مع السماء برحابتها اللامتناهية ومع الأرض ومَن وما عليها، ومَن وما تحتها، وهم يفكرون في مآل الكائنات والأشياء، والبدايات والنهايات، وذلك كله من خلال لغة علي الروائي أن يجعلها جديدة، وكأنه يخلقها من العدم، وصياغة طازجة فيما يُسمى أسلوبه، ومن خلال أفكار عليه أن يكون سباقًا إليها. أوَ ليست هذه هي الفلسفة! نعم، الرواية الآن هي وجه جديد من وجوه الفلسفة.
طلال سيف: الإبداع تجربة فلسفية
يدفعني هذا التساؤل إلى العودة لتجارب قامات أمثال نجيب محفوظ ويوسف إدريس وماركيز وغيرهم من أصحاب التجارب الكبرى، على اعتبار أن تلك النماذج من وجهة نظري من أصحاب المشروع الواحد. التجربة الواحدة، ولا أقصد بذلك أحادية نظرتهم للتناول الروائي، بقدر ما أقصد أن المبدع الحقيقي والجاد، هو تجربة فلسفية منذ بداية مشواره الأدبي وحتى النهايات، مع تعدد مستويات الإبداع التقني والفكري فى التجديد من حيث التناول، وحتى أكون أكثر وضوحا. فلننظر إلى تجربة نجيب محفوظ كاملة، لن تخرج التجربة بأكملها عن فلسفة القوة. نظرته إلى العالم بمنظور القوة بتعدد مستوياتها. البدنية والاجتماعية والنفسية وغيرها. فأولاد حارتنا واللص والكلاب والحرافيش وغيرهم. جميعها تدور حول رؤيته للعالم والكون من منظوره الخاص… القوة.. على خلاف ماركيز، الذي نراه فى مائة عام من العزلة والحب فى زمن الكوليرا والكولونيل لا يجد من يراسله وغيرها من الأعمال جميعها يدور فى فلك فلسفة العدم واللاقيمة. فنجد شخوص ماركيز التي كانت تهز الدنيا تحت أقدامها، وصلت للنهايات التي لا تستطيع فيها مساعدة أنفسها على القيام بأبسط الأشياء كالتبول مثلا،أو ذلك المشهد العبقري بين الحبيبين العجائز فى الحب فى زمن الكوليرا. مشروع ماركيز الإبداعي بأسره لم يخرج عن نظرته للكون على أنه عدمية مطلقة ولا قيمة للقوة مع تلك الحياة. أما العظيم يوسف إدريس، فلن أتطرق إلا إلى رائعته الحرام. التي تقرأ فلسفته الخاصة القائمة على نضال الأضداد. فتكفي جملته التي كتبها وبتصريف مني: هم يحسبون أن الترحيلة من فعلت الحرام. فجاء رد الآخر: بل يعتبروننا نحن الحرام. فبالنظر إلى العديد من الأعمال المهمة كالعمى لساراموغا ومرتفعات ويزرنج لإميلي برونتي ستجدها جميعا معبأة بنظرتهم الفلسفية للحياة ويظهر ذلك جليا فى المعالجات الدرامية للرواية على خلاف أسماء شهيرة أتت مع مفهوم الحداثة وما بعدها، فتراها تقدم عملا مشوقا. لا تستطيع الفكاك منه، لكنك فى النهاية. لا يعلق فى ذهنك أي قضية أو فكرة وما كان الإبداع إلا مضيعة لوقتك كقارئ
الفلسفة هي العمود الفقري لإحياء عمل روائي فى التاريخ وبغيرها، فما العمل سوى سيناريو جيد يصلح لعمل تليفزيوني ردئ
لكن حقا هل اختفت الفلسفة؟ . أعتقد أنني لا أتفق معك تماما، لأنه ما تم تصديره إلينا هي مشاهير الأقدمين ولم نعد نتابع عن كثب المطروح الجديد من المنتج الفلسفي، فأنا أحب أعمال ذلك الفيلسوف الألماني هيبرماس الذي تجاوز التسعين من عمره. الفلسفة لم ولن تذوب. لكن يبدو أن مرحلة العولمة بمعطياتها الإمبريالية تتعمد دفن حديث الفلسفة تحت رماد الإعلام والمشهد الثقافي. فليس مسموحا لأحد الآن أن يحاول فهم وإعادة تشكيل العالم من منظور يخالف أرباب ما بعد الحداثة المصطنعة فى أروقة السعار السياسي.
د.مصطفى الضبع: بحثا عن إنسان
كل فعل إنساني يقترن لا محالة بالسؤال، والسؤال عصب الفلسفة، ولأن الفلسفة بوصفها مفاهيم لطرح أسئلة الوجود والكون والعالم فإنها معنية بالأساس بتشكيل حلقة اتصال بالعالم من ناحية وبالإنسان من ناحية أخرى وقد اعتمدت الفلسفة الرواية قناة اتصال، وهو ما منح الفلسفة بعدها الجمالي.
الفلسفة أداة للمعرفة بالوجود، الكتابة في حد ذاتها واحدة من مكونات الوجود، وعلامة عليه، مما يفي بمتطلبات الوعي الإنساني في محاولته الإحاطة بالعالم، وإدراكه الوجود بوصفه وعيا، يحدد الرؤية للعالم والأشياء، ويحدد زاوية رؤية الكاتب ومنظور رؤية السارد، واستقطاب ذائقة المتلقي.
هناك علاقة احتضانية بين الرواية والفلسفة، الرواية تمنح الفلسفة ساحة للاشتغال وقناة للتوصيل، والفلسفة تمنح الرواية عمقها الفلسفي، الفلسفة برنامج تشغيل للرواية حين تلجأ إليها الرواية بحثا عن عصب الوجود، وفي اللحظة التي أدرك فيها الفيلسوف أن الفلسفة سيكون من الصعب أن تأخذ طريقها إلى المتلقي وأن عليه أن يبحث عن وسيلة جمالية للتواصل مع الإنسان اتجه إلى الرواية وخير مثال على ذلك سارتر الذي اتجه إلى كتابة أعمال إبداعية حملت فكره الفلسفي على العالم فجاءت أعماله الأدبية سردا روائيا وقصصيا ومسرحا:
– الجدار.
– الغثيان.
– الغرفة.
– سجناء الطونا.
– الكلمات.
– ثلاثية دروب الحرية.
– الأيدي القذرة.
وهي تجربة شاهدة على العلاقة بين الاثنين وعلى استثمار الفلسفة المجال الحيوي للرواية .
تلتقي الفلسفة بالرواية عند عناصر ثلاثية تشكيل العالم: الوعي – الوجود – الذات، فالوعي في إدراكه الوجود يمنح الذات القدرة على تقديم رؤيتها الوجود وتصدير هذه الرؤية لوعي الآخرين ممررا عبر قناة اتصال لها قيمتها الجمالية ، الرواية تلك التي تعمل على توسيع مدى الوجود فيصبح ليس هو ما يراه الإنسان في حركته اليومية في الحياة وليس هو ما يراه عبر قدراته على الرؤية وإنما هو وجود آخر مواز لا ينفصل عن الوجود المرئي أو الوجود المتعين ، إنها (الرواية) تعمل على خلق مساحات من العالم تنضاف إلى وعي متلقيها مؤكدة أنها لم تعد فنا لإزجاء وقت الفراغ ، وإنما تحقق لها عبر التطور القدر الأكبر من الوظائف المعرفية، عبر علاقتها بالفلسفة واستعانتها بها ليس على مستوى تضمين مقولات الفلاسفة والتأثر بها ولكن عبر فلسفتها الخاصة أيضا.
تميل حركة الفلسفة للعمل وفق قدرات العقل الإدراكية المحدد بالموجودات، فيما يعمل السرد الروائي على الخيال وفق قدراته اللامتناهية ، ففي الرواية تعمل الأشياء والأشخاص بوصفها مدركات حسية تقوم بدور العلامات في دلالتها على الوجود ، الأشخاص بوصفهم مدركين للوجود داخلين فيه يتحركون عبر مساحة منفتحة من الزمن ، في المكان الذي يتيح لنا متابعة حركتهم والإحساس بوجودهم و هو ما يؤدي إلى طرح مجموعة من الأسئلة الآخذة في التطور : كنه الشخصيات تنظيما للعلاقة بين المتلقي خارج النص والأشخاص داخله ، وفي اللحظة التي يشعر بوجوده بينهم أو وجودهم بين تفاصيل حياته تتطور أسئلة الوجود إلى دلالة هؤلاء وفلسفة وجودهم في حياة الذات ، تنشغل أسئلة الرواية بالوجود الإنساني في محيطه عبر مجموعة من المستهدفات الخاصة بالإنسان: بحثا في الإنسان ، بحثا عن الإنسان